مليونية ورقلة تكشف هشاشة النظام | محمود حمانه

الجنوب قرر ثم إنتفض بالنيابة عن كل الجزائريين وتحرك وتحدى السلطة كما تحدى خمسون عاما من التهميش والإقصاء وظروفا طبيعية اضافت الى معاناته معاناة اخرى وتخطى حاجزالخوف واهم الدروس المستفادة من إنتفاضة الجنوب لكل من اراد تدبرا هي أنها اجهزت على الفكرة الذي ظلت سائدة لدى الدوائر الرسمية حول عدم قابلية الشعب الجزائري للتحرر من نير النظام الإقطاعي والإستعمار الجديد الذي كرسته خمسون عاما من الدعاية المغرضة والبشعة في اذهان الناس كقوة لا قبل لهم بها,وأنه عليهم التعايش معها كأنه قدرهم المحتوم.
مظاهرة الأمس على بساطتها والتى قاطعتها وسائل الإعلام الرسمية بكل تأكيد تحمل الكثير من الدلالات منها أن المواطن لم يعد ذاك الإنسان الساذج الذي توجهه الدعاية الرسمية وفق رغبات النظام,واقصد هنا الجيل الجديد من الشباب الذي يرفض الأمر الواقع الذي فرض على ابائهم وأجدادهم والذي آثر هو الآخر ان يكون له نصيبه من المسؤولية ويركب قطار الربيع العربي.
صحيح أنه لم يطالب بإسقاط النظام شأنه شأن الشباب في الدول العربية لأنه امام إرث تاريخي من الثقل والتعقيد بحيث يجعل مطالبه تقف عند سقف المطالب الإجتماعية كمرحلة اولى تقتضيها النظرة البراجماتية للأمور ولصراعه المرير مع السلطة وهو الصراع الذي دخل يوم امس مرحلة الحسم والجد ونبذ الأفكار المسبقة والتطلع للمستقبل دون الإلتفات للإعتيارات الأخرى.
هشاشة لم تتمكن الأحزاب السياسية من التستر عليها من خلال تكتمها عن التظاهرة من قبل اغلبها من جهة و تعمد البقية تشويهها والنيل من مصداقية منضميها من جهة اخرى.
المهم في هذا المقام ليس تواطؤ المجتمع المدني مع السلطة لإجهاض هذا الحراك الوطني الذي لم يأت من اجل الدفاع عن حقوق اهل الجنوب فحسب بل من اجل كرامة كل الجزائريين,لأن هذا كان متوقعا بحكم تقاطع المصالح بين النظام واتباعه,بل الوعي الذي لمسناه من خلال تنظيمها المحكم والطريقة الرشيدة التى اديرت بها والتى لم تترك مجالا للمشككين للطعن في خلفياتها كما حالت دونهم ودون ما كان ينشده النظام من إفشال لها وتثبيط عزائم اهلها.
النظام اخطأ في تقديره للأمور حينما تمسك بالتعامل مع الحدث بالمنطق الستالينى ,وهذا ايضا هو درسا آخر على السلطة ومن يدور في فلكها إستعابه تفاديا للإنزلاقات التى نحن في غنى عنها وقد دفعنا من قبل من التضحيات ما لم يدفعه شعب آخر في العالم.
من المِأكد أن السلطة قد وعت الدرس جيدا من خلال الإرتباك الواضح الذي اصابها والواضح من خلال الإجراءات التى إتخذتها على عجل لتطويق” الأزمة” في منطقة هي في الساس على صفيح ساخن بسبب تداعيات الحرب على الساحل الإفريقي ,كعادتها في حين كان من المفروض ان تندرج “هذه الحلول ذات الصبغة الترقيعية”ضمن سياسة تنموية مدروسة. ومن مصلحته ان يع هذا الدرس لأن تسارع الأحداث على الصعيد الوطنى والجهوي وايضا الدولي لم يعد يسمح له بالمناورة لأن كل تجاهل للغضب الجماهيري بات يعني سقوطه المحتوم دون بديل.وهذا ما جعل النظام يرسل رئيس الحكومة الى “بشار” لمناشدة اعيانها وشيوخ زواياها تقديم العون والنصح والمشورة له لمواجهة الوضع الغير متوقع في الجنوب قبل ان يغرق قارب النظام ,وهذا توظيفا للجانب العقائدي حيث اخفقت السياسة-وهو ما كان يعيبه على التيار الإسلامي في وقت مضى- واثبتت فشلها,وهذا بعد أن راهن على فشل التظاهرة يسبب الوسائل الضخمة والعملاء الذين جندهم لهذا الغرض واذكر على سبيل المثال لا الحصر:لويزة حنون التى يبدو أنه لا يحمل قاموس مفرداتها عدا عبارات الخيانة والتواطؤ مع جهات اجنبية,وهي التهم التى لم تبخل بها على اهل الجنوب من غير مناسبة.ولكنها المصالح تحرك اصحابها بمناسبة وبغير مناسبة للإضطلاع بأدوار تتنافى مع اخلاقبات وتوجهات الأحزاب التى يديرونها كما يدير اصحاب الحانات والملاهي الليلية محلاتهم… .
وهذا تأكيد على أن النظام يلعب آخر بطاقاته وأن شعوره بأن الأوضاع لا تسير في صالحه يدفعه لأول مرة في مساره الفاشي لتقديم التنازلات مكرها والتى لم يتوقع ان يأت عليه اليوم ليجد نفسه في هذا الوضع البالغ الحرج والخطورة.
الأوامر التى صدرت لقوات الأمن بعدم التعرض للمتظاهرين لم يمليها حرس السلطات على سلامة المواطنين وإنما فرضها شبح السقوط المخيم على العواصم العربية التى ستظل تطار حكامها لعنة الشهيد التونسي” محمد بوعزيزي “و التى مأنفكت تتحسس رؤوسها ومصيرها منذ ثورة الياسمين في نونس التى اعلنت عن قدوم الربيع العربي الذي يشكل الحقيقة المطلقة التى لا يمكن لهم ان ينكروها.
النظام إستطاع ان يحول دون التغطية الواسعة لهذا الحدث ولكنه فشل ولأول مرة في إزاحته كفكرة راسخة في عقول المواطنين الذين نسي النظام او تناسى بأنهم ليسوا مواطنو الستينات الذين كانت تجمعهم كلمة وتفرقهم عصا وأن مراهق الأمس الذي لم يكن يعرف من الدنيا إلا ما كانت تريد له السلطة ان يعرفه قد شب عن الطوق وتمرد عن واقعه بفطرته وإستجابة لنداء الضمير.هذه الحقيقة المرة التى يصر على تجاهلها ستكون سببا في إنهياره لأن الدعاية التى شكلت اهم اسباب القوة لديه ثبت حدود تأثيرها الذي لم يعد يسري إلا على اؤلائك الذين ما زالوا يحنون الى الماضي ايام كان الحاكم هو السيد والمواطن هو العبد.
.
الشعوب تطورت بكل تأكيد وكذلك الأنظمة الأخرى رغم مساوئها ولكن النظام الجزائري يبدو أنه مصر على التميز بنهج طريق مغائر لنظرائه لكي يكون سقوطه مدويا ومميزا ايضا.
الشباب إنتفض وكسر حاجز الخوف الذي ظل يكبل الجزائريين على مدى نضف قرن ويشكل في ذات الوقت المصدر الذي تستمد منه الدكتاتورية قوتها وهذا هو حجر الزاوية في الموضوع . ولم يبق له من مساند إلا الرعاع, الذين سيعيشون ما تبقى لهم من عمر على وقع العنتريات,وهي الطبقة التى تجاوزتها الأحداث فباتت تعيش على هامش الوقائع نتيجة تمسكها بأطروحات السلطة البائدة التى لم تعد تتماشى مع متطلبات العصر الذي يحمل التغيير لمن يريده وكذلك لمن لا يريده وكذلك المستفيدين من ريعه.
ومن هنا ندرك أن القضية لم تعد مساندة السلطة دون قيد و شرط تحت جملة من المسميات كما كان الحال في الماضي ولكن من الحصافة ان يكيف هؤلاء مواقفهم مع الواقع الجديد الذي فرضته التغييرات الجيوستراتيجية قبل ان يجرفهم التيار لأن ما اصبح يهم الشباب اليوم هو كيف يصل الى اهدافه بل البحث عن اسباب قوة النظام ومن يدعمه من قوى خارجية وداخلية.

محمود حمانه,موظف متقاعد-الجزائر.