المال الجزائري في بنوك الغرب : محمود حمانه

هذا الحبل السري(بضم السين) بين زمرة الفساد والقوى العظمى. -نزولا عند رغبة القراء الكرام الذين طلبوا منى كتابة مقال اتناول فيه الحديث عن المال الجزائري المهرب من طرف نقابة الإجرام المسيطرة على الحكم في الجزائر والذي إستقر في البنوك الأوروبية والأمريكية,قررت ان اتطرق الى هذا الموضوع لا من باب الإحصائيات حول حجم المال المستنزف من الخزينة العامة للدولة لأنه ليس في حوزتي ارقاما دقيقة من جهة ثم أنه لا يمكن حصرها بدقة من جهة اخرى حتى من طرف اصحاب الإختصاص انفسهم نظرا للسرية التامة التى تحيط بحسابات اصحابها,ولكن من زاوية متطلبات إستعادتها وعن ذوي النوايا الحسنة من الذين دفعوا ارواحهم ثمنا لجرأتهم في سعيهم لإماطة اللثام عن هذا الملف الذي ظل لسنوات طويلة من الطابوهات. -قصة تبديد المال العام لم تبدأ مع جنرالات ما بعد ال12 جانفي 1992 بل يرجع الى السنوات التى تلت إنفصال الجزائر عن فرنسا .فقد كان الرئيس الحالى بوتفليقة الذي شغل منصب وزير الخارجية لمدة 14 عاما اول من كتبت عنه الصحف الغربية كأحد اكبر اللصوص الذين اسسوا لظاهرة الفساد في الجزائر والذي بلغت ارصدته 18 مليون دولار في ذلك الوقت حسب بعض المصادر ومنها مجلة”باري paris match ماتش” الفرنسية التى يبدو أن صاحبنا شكل لوقت طويل مادة دسمة لإصداراتها وشغل صحفيوها لكثرة ما الفوم منه من سقطات وتجاوزات,قبل أن توجه له وللمتورط معه محمد الصغير زيتوني محكمة سيدي محمد تهمة تبديد المال العام سنة 1983 – والحقيقة أن ظاهرة الكسب الغير المشروع ليست حكرا على المسؤولين بل أنها طبيعة الفرد الجزائري الذي لا يفرط في اي فرصة تلوح له بل يتحينها ويختلقها في بعض الأحيان ,فالذين يحكموننا هم في النهاية نتاج المجتمع الجزائري بعيوبه ومزاياه.لذا,فإن له نصيبا من المسؤولية يتحمله بإعتباره جزءا من هذا المجتمع الذي افرز عصابة اللصوص.اليست هناك تفكيرا سائدا يعتبر التحايل على القانون نوعا من الشطارة,وأن الإستقامة دليلا عن الفشل والضعف؟والدليل هو قابليته للتنازل عن مبادئه مقابل ما تقدمه له السلطة من إمتيازات شراءا للذمم,وهذا نظرا لعجزه عن الإرتقاء بمطالبه الى مستوى المطالب السياسية وحصرها فيما يمكن ان تجود به عليه من مكرمات كحل ظرفي بدل حسم موقفه منها بشكل يجعله صاحب السيادة في إتخاذ القرار.هذا الجهل بأمور السياسة والعزوف عن الخوض فيها هو اسوأ انواع الجهل وهو الذي اطال في عمر النظام وبالتالي في معاناته لأنه يجد نفسه في كل مرة مضطرا لتذكيرها بأوضاعه المزرية عن طريق الإعتصامات والإحتجاجات والفوضى والتظاهرات التى لا تكاد تنتهى. . . -إلا أن السطو على المال العام كان حكرا على دائرة ضيقة من صقور النظام وعلى رأسهم ضباط المؤسسة العسكرية بكل تأكيد الذين يدعمون الفساد والذين إستند عليهم العد اليسير من الإطارات السامية المدنية المتورطين بدورهم في هذه القضية.بوتفليقة تمكن من جمع هذه المبالغ كونه كان يشكل زعيم البطانة الفاسدة التى احاط بها الرئيس بومدبن نفسه وولاها تسيير شؤو ن البلاد والتى كان يعول عليها من جهة اخرى حمايته من السقوط والذين تمكن بفضلهم من الصمود في وجه ثلاث محاولات إنقلاب في الفترة من 1967 الى1972 كانت الأولى من تدبير الطاهر الزبيري قائد الأركان والتى إنتهت كما يعلم الجميع بتمير مدينة العفرون بدعم من الطيارين الروس الذين انقضوا حليف السوفيات المستقبلي من الإنهيار في مقابل تبنى الإشتراكية كنظام حكم والثانية التى نظرت فيها محكمة وهران بعد الإعتداء الذي تعرض له هناك. -كل البطانة التى احاط بها بومدين نفسه تورط اعضاؤها بشكل او بآخر كما اسلفت في نهب المال العام ولكن من الذين كان لهم باع طويل في هذا الصدد اذكر على الخصوص فخامته وقرينه” احمد بن شريف” اللذان إستغلا المكانة التى كانا يحضيان بها لديه وعضويتهما في مجلس الثورة ليعيثا في الأرض فسادا وايضا بحكم الدور الذي لعباه في حماية عرابهما “بومدين” اكثر من مرة من السقوط والتى تفيد بعض المصادر الأمريكية بأنه لم يكن من اصحاب الأيادي النظيفة كما يتوهم الكثير والتى ذكرت بأنه سبق له وان حول 400 مليون دولار عن طريق صديقه” مسعود زقار” الذي تمكن هو الآخر من جمع مبلغ 2 مليار دولار لنفسه مستغلا هذه العلاقة والذي تم تعذيبه فيما بعد من طرف” العربي بلخير”وذلك عملا بوصية قدوته الرئيس الكوبي”فدال كاسترو”الذي قال له ذات يوم:”انت تدرك جيدا بأنك محاطا بالأعداء من كل جانب وعرضة للإنقلاب,وعليه انصحك بتحويل مبلغ معينا من المال يمكنك من القيام بثورة مضادة حينما تقرر العودة للحكم في حالة الإطاحة بك”.قد يكون هذا الرقم مبالغ فيه بعض الشيئ ولكن المهم أن نية السرقة كانت موجودة وتمت بالفعل لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:”من سرق البيضة سرق الجمل”صدق رسول الله صلعم.وهى الأرصدة التى تمكن الشادلي بن جديد من إستعادتها فيما بعد بمساعدة الرئيس الأمريكي”رونالد ريغان” كعرفان بالجميل نظير الدور الذي لعبته الدبلوماسية الجزائرية لإطلاق سراح الرهائن الأمريكان ال52 الذين احتجزهم الحرس الثوري الإيراني كرد فعل عن رفض البيت الأبيض طلبا تقدمت به الحكومة الأيرانية لإستعادة الأموال التى هربها الشاه للولايات المتحدة(8 ملايير دولار). -عندما ادلى الأستاذ “عبد الحميد إبراهيمي” بتصريحه الشهير في منتصف الثمانينيات من القرن الماضى حول دين الدولة الجزائرية والبالغ 26 مليار دولار إعتبرته الكثير من الجهات الرسمية بأنه خيانة للوطن حسب المفهوم التى أعطته للوطنية.وهو التصريح الذي بسببه طلب اللجوء السياسي لبريطانيا وقد بلغ من العمر 80 عاما.وصادف اللغط الذي اثاره هذا التصريح زيارة رئيس البرلمان السويسري الجزائر والذي صرح:”انتم تقولون بأنه لديكم صعوبات في تسديد الدين العام للدولة في حين أن الودائع في البنوك السويسرية لمسؤولين جزائريين كبار تمكنكم من الوفاء بالدين بسهولة.ما يتطلبه الأمر هو رسالة رسمية من الحكومة الجزائرية تعرض على البرلمان السويسري من أجل إستصدار قانون يسمح بسحب تلك الودائع وإعادتها لخزينة الدولة.طبعا الأمور بقيت عند هذا التصريح لأنه وبكل بساطة المسؤولين المشار اليهم في تسريح النائب السويسري هم انفسهم صناع القرار في الجزائر. عندما قررت “عصابة وجدة” الإنقلاب على الشرعية في 12جانفي 1992 كان إستقدام الراحل محمد بوضياف من منفاه بالمغرب حيث كان يقيم بالدار البيضاء انسب الحلول المتاحة للخروج من حالة الإنسداد السياسي الناجم عن إزاحة الشادلي بن جديد نظرا لكاريزما هذا الرجل الكفيلة بتهدئة الشارع بعد هذا الزلزال بحكم ماضيه الثوري من جهة وكتمهيد لتصفية آخر الزعماء الثوريين لطمس ما تبقى من ذاكرة تاريخية من جهة أخرى حتى إذا حانت اللحظة الحاسمة لإعادة كتابة تاريخ الثورة تكون هذه العصابة قد تخلصت من آخر من تخشاهم,وبالتالي تبقى العملية مشوهة ومبتورة من الكثير من الحقائق الهامة التى يتطلع اليها المواطن.وهذا نظرا لغياب المراجع السليمة التى تسمح بإماطة اللثام عن الكثير من مناطق الظل من تاريخنا على الخصوص في الفترة من 1957 الى 1962 – بوضياف رجل ينتمى الى الماضى وتجاهله هذه الحقيقة كلفه حياته لأن مكوثه بالمنفى لما يقارب الثلاثين عاما حجب عنه حقيقة هامة أن التحولات التى حدثت بعد مغادرته ارض الوطن لا تسمح له بالتعامل مع الوضع المترتب عن إنقلاب 19 جوان 1965وما تلاه من أحداث وفق تصورات الرجل القوي الذي جاء لإحداث نقلة نوعية داخل منظومة الحكم من خلال ضربة موجعة كان ينوي تسديدها”لبيت الغول”وهو اعزل من كل سلاح ولا يحضى إلا بتأييد القليل القليل من المخلصين .وهذا خطأ تكتيكي لا يليق بشخصية من هذا الطراز خاصة انه على دراية اكثر من غيره بخبايا النظام,إذ كان من المفروض التعامل معه بما يتطلبه من مكر ودهاء وخبث.المهم أن بوضياف حرق المراحل وفي نيته تحقيق اكبر قدر من المكاسب في وقت وجيز وقد كان يرى نفسه في سباق مع الزمن وأن لديه إلتزامات أخلاقية على الأقل حيال الجماهير الغفيرة التى جاءت لإستقباله والتى تعلق عليم آخر آمالها بعد هذه القطيعة الطويلة. عندما افاق على الكثير من الحقائق المرعبة التى خلطت اوراقه ونسفت طموحه بإرساء الحكم الديمقراطي الذي كثيرا ما تطلع اليه تحالف مع” قاصدي مرباح”لإنقاذ ما يمكن إنقاذه,فأرسله في مهمة لفرنسا بغية الحصول على ارقام حسابات عتاة النظام تمهيدا لمحاسبتهم.هذه الجرأة تعود اولا للدفعة المعنوية التى اعطته اياه السهولة التى وجدها في حضر الجبهة الإسلامية للإنقاذ من جهة وكونه يتعامل مع مدير سابق للمخابرات العامة وقد تناسى بان هذه هي رغبة الجنرالات . – كان من الطبيعي ان تخطر فرنسا حلفاءها بما يدبر لهم في الكواليس الذين عقدوا العزم على التخلص منه و من معاونه وفق السيناريو الذي يعلمه الجميع بعد ان حقق لهم ما كانوا ينتظرونه منه.هذا نتيجة الغباء الذي اصاب” قاصدي مرباح “المتعود على التعامل مع الضرب تحت الحزام وإدارة الصراعات المخابرتية وليس من قبل” بوضياف” الذي قد يكون له عذره للأسباب التى ذكرتها ليفتح رحيل الرجلين الباب على مصراعيه لكل التجاوزات والإنزلاقات.هذا الرفض المقنع من فرنسا دليلا كافبا على عدم إستعداد العواصم الغربية التعاون مع النشطاء السياسيين في هذا الصدد طالما ظل النظام قائما كما سأعرض لهذا لاحقا. -هذه المقاربة التاريخية اراها ضرورية لفهم ملابسات القضية كى ندرك كم هو شاق المشوار الذى الذى علينا قطعه لإقناع الدول المضيفة لتلك الأموال بعدالة قضيتنا وضرورة ان تعاد الى صاحبها الشرعي وهو الشعب و أنها عملية بالغة التعقيد لا تستتب إلا بإطاحة بالطغمة العسكرية المغذية للفساد والتى تحول دون محاربته وأنه طالما ظل حبل الود موصولا بين القوة العظمى راعية العهر السياسي وبين عملائها فإن الكلام في هذا الموضوع ضرب من الخيال وضحك على الأذقان لأن المنادين بإسترجاع الأموال المنهوبة في حضرة الإجرامي يسقطون من حساباتهم حقيقة جوهرية وهي أن العواصم الكبرى التى تسترت في الماضي على جرائم إزهاق أرواح الجزائريين بعشرات الألاف وأستباحوا الأعراض وداسوا على القيم والمقدسات من اجل صيانة مصالحها لن تتأثر بهكذا مطلب ولن تعيره اي إهتمام طالما ظل الريع الجزائري في خدمة إقتصادها وان الطغمة العسكرية لن تصبح باغية ومجرمة ومناهضة لحقوق الإنسان إلا في حال سقوطها.حينها فقط يصبح حلفاء الأمس في موضع الإدانة لأن رعاية مصالحها تكون قد إنتقلت الى الشعب. -الشعبان التونسي والمصري لم يتمكنا من إسترجاع بعض من الأموال المهربة إلا بعد ان اصبح كل من نظام بن علي وحسني مبارك جزءا من الماضي إذ لا يمكن ان تستمر تلك العواصم في التعامل مع من يقف في قفص الإتهام او لاجئ سياسي في دولة اخرى. – وأنا لا استطيع تفهم موقف المنادين بهذا الطرح من اصحاب الأفكار النيرة من معارضينا وكيف تصل بهم السذاجة الى الإعتقاد بأن سويسرا او غيرها من الدول يمكن ان تتفاعل معهم إيجابا رغم يقينها بمشروعية هذا المطلب؟لهؤلاء اوجه سؤالا سبق وأن طرحته في مناسبات سابقة وهو ذكر اسم شعب تمكن من إسترجاع امواله المهربة قبل إسقاط نظامه؟هذا لا يمكن ان يحدث طبعا لأن القوى العظمى التى تحركها المصالح قبل اي شيئ آخر ليست على إستعداد ان ترهن مصالحها اولا ثم أن هذه الأموال هي في خدمة إقتصاديات هذه الدول خاصة في ظروف الأزمات حيث تتحول الى ورق ضغط للوصول الى مبتغاها ملوحة بمصادرتها او تجميدها,وهو ما يفسر حجم التنازلات التى قدمتها زمرة الفساد لعرابيها.وحتى لو سلمنا بأن تلك الدول يمكن ان يكون لها موقفا ايجابيا منا,الى اين ستحول تلك الأموال والبنوك الوطنية تحت سيطرة اللصوص؟ -لذا,علينا ان ندرك جيدا بأن الموقف يتطلب القضاء على وكر الفساد اولا كي يستعيد الشعب وضعه الطبيعي كمصدر وحيد للشرعية,وإلا سنبقى مادة دسمة لسخرية العالم كما كان” بوضياف” و”قاصدي مرباح” وغيرهم من الشرفاء هدفا للتصفية الجسدية بمباركة من تلك العواصم ذاتها.لأن كيان الشعب بمعناه الدستوري لا يكون له الثقل الدولي إلا من خلال السلطة التى تمثله.

محمود حمانه,موظف متقاعد-الجزائر