مقالات

حين تضيق الأوطان ببطولات أبنائها!! | علي بن مسعود المعشني

غادر الحياة في يناير 2010م، اللواء مصطفى بن لوصيف، أو بلوصيف، كما يُعرف شعبيًا وفي وسائل الإعلام الجزائرية (1939-2010م)، عن سبعين عامًا.
ولم يغادر الحياة شخصًا عاديًا أو طارئًا على حياة الجزائر والجزائريين بل غادرها شخصًا كان قاب قوسين أو أدنى من حكمها ورسم مستقبلها وإعادة إنتاج واقعها، بما يليق بها بين الأمم.
ولد بلوصيف عام 1939م في مدينة عنابة بأقصى الشرق الجزائري، والتحق بصفوف الجيش الوطني الشعبي الجزائري منذ عام 1955م، كسكرتير للعقيد مصطفى بن بو لعيد أب الثورة الجزائرية وأسد الأوراس، والذي كلف والد مصطفى بالبحث له عن سكرتير أمين وكفء، فرشح له ابنه مصطفى بن لوصيف، حيث خرج من السنة الثانية ثانوي حينها، والتحق بالنضال في صفوف جبهة التحرير.
وبعد الاستقلال (5 يوليو 1962م) تلقى تدريبات عسكرية عالية، في كل من مصر والاتحاد السوفييتي، وتدرج في الرتب العسكرية.
عيّن عام 1968م مستشارًا بالمحكمة الثورية برتبة نقيب، ثم مستشارًا بوزارة الدفاع.
كلفه الرئيس الجزائري الراحل هواري أبو مدين عام 1974م بتنظيم جيش غينيا بيساو، بناءً على طلبها من الجزائر، وكان حينها برتبة رائد، وفي عام 1979م عين عضوًا في اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري. وفي عام 1982م عيّن أمينًا عامًا لوزارة الدفاع (رئيس البلاد هو وزير الدفاع).
في عام 1984م رقي إلى رتبة لواء (كان أول من حمل هذه الرتبة في تاريخ الجيش الجزائري)، وعيّن رئيسًا لأركان الجيش الوطني الجزائري، وعضوًا في المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري، (أعلى سلطة سياسية وتنفيذية في البلاد، وكان يضم حينذاك 12 شخصًا).
أتحدث هنا عن مصطفى بن لوصيف (رحمه الله) كشخصية عسكرية محترفة، ومناضل منذ نعومة أظفاره، وشخصية جدلية أثارت السُخط والإعجاب معًا في تاريخ الجزائر الحديث، وتحديدًا جزائر الاستقلال، أضيف عليها إعجابي الشخصي وانطباعاتي الخاصة عن مصطفى بن لوصيف كرجل وقيادي وإنسان، كان يفترض أن ينال أكثر مما نال من الرفقاء والوطن، حيًّا وميًتًا.
كانت المرحلة الفاصلة في حياة بلوصيف الوظيفية، والإنسانية، عام 1982م، هذا العام الذي ترقى فيه إلى رتبة عقيد (أعلى رتبة في الجيش الجزائري حينها) وتوليه لمنصب أمين عام وزارة الدفاع (أهم منصب بوزارة الدفاع).
فبعد توليه هذا المنصب، أعد كشوفًا بأسماء الضباط الجزائريين الذين خدموا في الجيش الفرنسي، والتحقوا بالثورة قبيل الاستقلال، ويطلق عليهم البعض طلقاء الاستقلال، كطلقاء مكة، وقصد بلوصيف من ذلك تطهير الجيش الوطني الجزائري منهم، وحين تعذر عليه ذلك من واقع منصبه، عرض الأمر على المكتب السياسي للحزب لتبرئة ذمته.
كانت هذه الخطوة منه، بمثابة ناقوس الخطر تجاه من عُرفوا شعبيًا بضباط فرنسا.
في عام 1984م، تمّت ترقيته إلى رتبة لواء، وكان أول من يتقلد تلك الرتبة في تاريخ الجزائر وأصغرهم على الإطلاق (45 عام) وأنيطت به مسئولية رئاسة الأركان كذلك، وعضوية المكتب السياسي لحزب جبهة التحرير الوطني الجزائري.
عرف العام 1986م أحداث شغب في مدينة قسطنطينية بشرق الجزائر، فطلبت منه القيادة تدخل الجيش، لقمعها، فرفض بلوصيف إقحام المؤسسة العسكرية في الشأن الداخلي، وقال إنّ دور الجيش الوطني حماية الوطن وكرامة المواطن وليس قمع الشعب، فحماية الأمن الداخلي واستتبابه من شأن الأجهزة الأمنية ومسؤولياتها.
وفي عام 1986م كذلك نشب النزاع المسلح بين ليبيا وتشاد على واحة أوزو الحدودية، ووقفت فرنسا بكامل ثقلها مع الطرف النشادي، وطلبت ذات يوم تصريحا لعبور سرب طائرات حربية فرنسية للأجواء الجزائرية في طريقها لتشاد فرفض بلوصيف التصريح لها، وحين استنكرت فرنسا و أوعزت لوكلائها في الداخل بحفظ ماء وجهها وتجاوز تصلب بلوصيف، أمر بلوصيف بإسقاط أيّ طائرة فرنسية تعبر الأجواء الجزائرية، في ظل الحرب المشتعلة بين ليبيا وتشاد، ففهمت فرنسا الرسالة، وبحثت لها عن طريق آمن آخر.
رفض بلوصيف صفقة رادارات فرنسية للجيش الجزائري، بقيمة عالية جدًا (مابين 5 -6 مليار فرنك فرنسي)، بدعوى كلفتها و وجود منافس لها، وسعي الجزائر لتنويع مصادر التسليح، وبرغم جميع المحاولات من بعض المتنفذين لترهيبه وترغيبه، وصلاحية رئيس الجمهورية كوزير للدفاع، أفشل بلوصيف تلك الصفقة وطواها النسيان.
كان مصطفى بلو صيف في وجدان الجزائريين وعقولهم هو الرئيس القادم بعد الشاذلي بين جديد لا محالة، حيث جمع كافة شروط الرئيس حينها القانونية والعرفية، من تجاوزه سن الأربعين وفق الدستور الجزائري، وكونه عسكريًا، وتقلّده لمناصب سياسية وحزبية، ولانتمائه للشرق الجزائري، والذي استحوذ على المناصب والنفوذ في جزائر الاستقلال.
أتت أحداث الخامس من أكتوبر 1988م، بما أتت به من مخاض تراكم استحقاقات العقود الخوالي، وعاشت الجزائر مراحل انتقالية، ووجد أعداء بلوصيف فرصتهم للثأر منه، فكادوا له تهمة الفساد المالي، وإهدار أموال المؤسسة العسكرية، قضية إلى اليوم ما زالت مثار سخط وجدل في أوساط الجزائريين، وحكم عليه بالسجن لعشرة أعوام، قضى نصفها، وأفرج عنه الرئيس الجزائري الأمين زروال، إفراجًا مشروطًا احترامًا وتقديرًا لخدمته وتاريخه، فقضى ما تبقى من المحكومية قيد الإقامة الجبرية، إلى أن توفاه الله بمرض عضال وهو رهين المحبسين؛ المرض وحظر السفر.
كان اللواء مصطفى بن لوصيف يثير إعجابي شخصًيا بصورة مفرطة، فقد خصّه الله عزّ وجل بصفات قلما تجتمع في شخص واحد، من ذكاء حاد، وحزم، وصدق في العقيدة، وقوة شخصية، وثقة مفرطة بالنفس، وفوق كل ذلك بنية جسمانية رائعة، ووسامة جاذبة.
وقد كان مصطفى بحق من الرجال القلائل الذين تمنيت لقاءهم ومعرفتهم عن كثب، سواء فترة مهامه ومسؤولياته التي شغل بها الجزائر والجزائريين أو بعد تقاعده، وسأموت وفي نفسي حسرة على ذلك فلم يكن بلو صيف شخصًا عاديًا برأيي، وكان يمكن لو لم يضيق الوطن والرفقاء والغرباء بصفاته وقدراته أن يعطي الكثير والكثير جدًا لوطنه الصغير الجزائر ولوطنه العربي الكبير.
رحم الله مصطفى رحمة واسعة، ولتقر عينه فإنّ حياته بدأت منذ رحيله، كحال جميع العظماء، والذين ترحل أجسادهم وتولد سيرهم لتخلدهم في دفاتر الأيام وأعماق الذاكرة والوجدان، وكم كنت أتمنى أن نذكر محاسنه حيّا لا ميتًا.

http://www.alroya.info/ar/citizen-gournalist/citizen-journalist-/44123—-