مقالات

واقع السلطة بالجزائر وكيف توارث (الفرقاء – الرفقاء) الشعب والنخب

موعد انتخابي آخر يقترب في الجزائر ولا شيء ينبئ بتحول جذري في المسرح السياسي للبلاد، ليتأكد بذلك أن مفهوم السياسة اختزل في العلمية الانتخابية، وأن اي سعي أو دعوة للشذ عن هذا التقليد، الذي أرسي بعد أحداث العشرية السوداء، سيعني بالضرورة العودة إلى المربع الأول الذي منه تفجرت مجددا أزمة شرعية السلطة، وأسئلة النظام القديمة منشأ ومسلكا، مذ تأسست الدولة القطرية بالجزائر بعد الاستقلال عام 1962.
التلاقح داخل رحم السلطة.. أجيال تتبدد وأخرى تتبدى
واليوم إذ طفقت الاجيال تتبدل وبالانقراض الطبيعي المطرد والجذري لجيل الثورة الذي أحكم سيطرته على مفاصل الدولة، تبرز للعيان ظاهرة توريث وتلاقح جيلي لشهوة السلطة وغنائمها، تشكل ‘البوتفليقية’ مسار بناء قاعدتها التأسيسية القائمة على الدعم والتأييد الدبلوماسي الخارجي، والاقتصاد الخراجي الريعي الداخلي، اتجاه بات العديد من الاطراف يحذر منه لكونه يشكل خطرا داهما ودائما على مصداقية الدولة في عمقها الشعبي، ويتهددها بالحالة المصرية، حين اختطف رجال المال والأعمال الاجهزة الرسمية وعاثوا فسادا في البلاد طيلة حكم مبارك وآله.

غرائبية مسار تطور الصراع

هو إذا تطور غريب في عمر الصراع السياسي على السلطة والهيمنة عليها، إذ تحول من صراع مؤسسي صنع توازنا نديا بين الاطراف التي اغتنمت الدولة واغتنت بها بعد تحييد الشرعية التي جسدتها الحكومة المؤقتة، مرورا باختفاء المدني من السلطة في عهد البومدينية، وصولا إلى تقاسم الادوار والمصالح والمتاع، من دون نية لبلوغ حالة من الانتظام المؤسسي الذي تتغنى به مواد الدستور الراسمة لشكل الدولة وسريانها، إلى صراع جماعات مؤسساتية بين موال لهذا وموال لذاك، لا لمصالح الامة بالضرورة، بل لمصالح تلكم الجماعات وهؤلاء الاشخاص ليس إلا.
لم يعد الاجماع على لاشرعية أجيال السلطة أمرا طارئا على أجيال الشعب في الجزائر، بل أضحى ثابتا من ثوابت النظر إلى مسألة الازمة السياسة الازلية التي تعيشها البلاد، مذ تم الانقضاض على الشرعية المؤسسية ممثلة في الحكومة المؤقتة بعيد الاستقلال إلى يوم الناس هذا، بيد أن السؤال المتفرع الذي تتطارحه هاته الأجيال هو، من يصنع اللاشرعية هاته بالجزائر؟ ومن يضمن بقاءها؟ وهل التوازن الازلي الحاصل في ميدان السلطة ذاتها في شكل ائتلافي التفافي هو من يعمل على استدامة لاشرعية السلطة تلك؟ هي كلها تساؤلات تنبع من رحم سؤال كبير، الذي هو سؤال الشرعية بحسبانه يمثل محور المرض السلطوي الذي تحياه الجزائر على مر العقود والأزمنة، ما اسهم في ترسيخ الشكوك حتى بلغت حد اليقين لدى العامة والخاصة، ان ثمة رؤوس عدة تتدافع على مستوى الهرم للاستحواذ على أوسع حد من الصلاحيات، لكنها تتقاطع على صعيد المصالح، وهذه الثنائية المتضادة في جهة والمتعاضدة في جهة أخرى هي ذاتها التي أفرزت هذا الشكل الغريب المريب للسلطة بالجزائر، وهي التي تعمل على ادامة قلق سؤال الشرعية الذي لا تكف الالسن عن اجتراره رغم الكم الخرافي من العمليات الانتخابية التي يعز لحجمها نظير في العالم العربي والاسلامي.

الانبثاق والانغلاق الافقي للسلطة

ولعل غرابة مسار وكيفية تشكل السلطة هذا بالجزائر هو الذي افرز غرابة الصراع عليها، إذ تشذ الجزائر عن كل النماذج في العالم التي يبدو فيها التنافس أو حتى الصراع ـ إن جاز الوصف ـ على سلطة ممتدا عموديا وأفقيا في مجتمعاتها السياسية، فيشمل الدوائر ذات النفوذ السلطوي ذاتها والنخب السياسية الاخرى في المعارضة وهيئات المجتمع المدني، في حين يكاد سلم الوصول إلى السلطة ينكسر عموديا ويظل أفقيا في ما بين من هم في هرمها من (فرقاء رفقاء). ما يحدث في الغالب الأعم هو أن هؤلاء الفرقاء الرفقاء، يوظفون أتباعا على مستوى القواعد يتم الحاقهم بدائرة السلطة المتعالية عن طريق انتخابات محسوبة العواقب محسومة النتائج قبل موعد اجرائها حتى، لإضفاء الشكل والشرعية الشعبيين على تلكم السلطة، مما كرس مفهوم ديمقراطية الواجهة الذي ساهم في إدامة أزمة الشرعية، أكثر من ذلك تسبب في استشراء ظاهرة فساد السياسة وسياسة الفساد.

شعب لأعراس انتخابية

قد يتساءل البعض عن محل الشعب من الاعراب في كل ما تقدم من الخريطة الجينية للسلطة بالجزائر، والجواب هو أن الشعب أيضا كان له نصيب من اسئلة الغموض التي تكتنف المشهد السياسي بالجزائر، فهل هو مستقيل سياسيا كما تروج بعض الأطراف؟ أم مُقال؟ الثابت أن الشعب ظل مغيبا عن صناعة سلطته مذ استقلت البلاد، والمرة الوحيدة التي أعطي فيها الحق كانت سنة 1991 استغلها الناخب السياسي ليصفي حساباته مع تلكم السلطة، بيد أن ضعف أداء المعارضة لا سيما الاسلامية منها خطابيا وتنظيميا، عصف بحلم التصحيح الشعبي لشكل السلطة المشوه بالجزائر، وأعاد الكل إلى مربع البداية المغلق الذي ولدت في صحنه الدولة الجزائرية الحديثة بسلطتها المستشكلة، وقد ذكر بهذا الخصوص وزير الخارجية الاسبق في إحدى حلقات شهادته على العصر مع أحمد منصور صحافي الجزيرة أنه حين دُعي إلى حوار مع من دعي من شخصيات بعيد وقف المسار الانتخابي عام 1992 سأل اصحاب القرار في ذلك الوقت عما إذا كانوا حقا يدركون خطورة المبادرة التي اتخذوها بإجهاض العملية الديمقراطية وما قد ينجر عنها، أجابوه بأن ‘الظروف فرضت ذلك لأن الشعب قاصر ولا يعرف مصلحته’، هكذا كانت ولا تزال رؤية (فرقاء رفقاء) السلطة لدور الشعب ووزنه السياسي بالجزائر.

سلطة نخب أم نخب السلطة؟

التحييد الدائم والمستمر وعيا وسلوكا للإرادة الشعبية في رسم سلطة البلاد وضبطها عبر مسار تاريخي طويل متسم بهيمنة الارادة الأفقية، صاحبه سقوط مدو للنخب الفكرية والسياسية التي انشطرت إلى جزيئات لا فاعلية تاريخية لها في بناء المجتمع، وهذا بدءا من تخليها عن دورها في قيادة المجتمع لاستعادة حقه الطبيعي في تشكيل وضبط سلطته وفق الأدوات والآليات المعتملة في الدولة الحديثة، مرورا بتأسيس مجتمع سياسي قوي يقفز على ارادة سلطة (الفرقاء الرفقاء) في الاستفراد بالدولة واغتنامها وتوريثها جيليا على نحو يبقيها حكرا في فئة معينة من الشعب.
لقد أخفقت النخـــــب اخفــــاقا ذريعا في المعركة التي كان مفترضا أن تتصدرها لإعادة تشكيل المجتمع السياسي وعيا ومؤسسات، وانخرطت في صراع أيديولوجي بيني كبير امتد شرخه إلى مكون الهوية، وهذا ما ساعد سلطة (الفرقاء الرفقاء) على تعميق هذا الشرخ واظهاره أمام الرأي العام على أنه عميق ومهدد لمستقبل الدولة والمجتمع ولا بديل بالتالي على نموذج الأمر الواقع الذي تجسده هذا السلطة عبر مشروعها المجتمعي التلفيقي، الذي يمتح بشكل مشوّه ومشوه من كل مشارب الاختلاف الايديولوجي لتلكم النخب، حتى انتهى الامر بتلكم النخب إلى الانقسام الكلي بين موالاة للسلطة لأغراض غنائمية انتفاعية، مصادم مخاصم مبعد عن المشاركة في العملية الانتخابية بالخصوص، كون العملية السياسية منعدمة بالجزائر.

البورجوازية الهجينة التي تسند السلطة اليوم

إن تركيبا كـــهذا نشأت واستمرت عليه السلطة في الجزائر وبه غُيب منطــــق حكم الدولة لصالح منطق حكم العُصب (بدل النخب) التي تستمد شرعيتــــها من الشعب، هو الذي حال ولا شك في عــــدم وصول موجة الغضــــب الكاسر للنظم الذي عرفه العالم العربي، فتحــــييد إرادة الشعب عبر توظــــيف خبيث لوصولييه وانتهـــــازييه من عمق أعمــــاقه في بعض المراكز القريبة من صنع القــــرار، كشكل من اشــــكال التضليل الديمــــقراطي، مثلما يحدث من توجيه إداري مسبق للعــــملية الانتخــــابية في كل مستــــوياتها، لتوظيــــف المال السياسي الذي تراكم طيلة فترة المأساة الوطنية وصُنعت به طبقــــة بورجــوازية هجينة غير ذات أصول اجتمــــاعية، ولا حقيقة اقتصادية ميدانية، بقدر ما هي مديرة بل مـــبددة للمال العام عبر مشاريع انمائية خدماتية، الكثير منها هو اهــــدار للمال العام وتوجــــيه إلى الجيوب بدلا من بناء اقتصــــاد انتاجي حقيـــقي وقوي، وهاته الطبقة هي التي تسند نظام الفرقاء الرفــــقاء، كل يعــــمل لمن تولى نعمته، والصراع على من يأتي على النصيب الأوفر من الكعكة ماض بينهما.
هذا التحييد للإرادة الشعبية على النحو الذي ذكرناه اربك رؤية الشعب لحتمية التغيير، وزاد من ذلك استرابته لمآلات الربيع العربي وبلوغه مرحلة الدم والقتل الوحشي والتدخل الاجنبي بشقيه العسكري والدبلوماسي، مع ما تختزنه الذاكرة الوطنية وأشرطة وصور فترة المأساة الوطنية وفوضى الموت الممنهج الذي عرفته البلاد، في ما عرف وقتها بالعشرية السوداء، كل ذلك صب في صالح السلطة بتركيبتها المتضادة المتعاضدة، كما اسلفنا الذكر.

غياب السياسة والارتهان للخارج

إن غياب السياسة بالجزائر، غيب كل فرص كسر الازدواجية في السلطة، وحــــرم الشعب من مراكمة تجربته الديمقراطية، التي تسمح له بمزاولة حقه في فرض الرقابة على الميزانية العامة وفق تمثيل نيابي حقيقي وليس ‘تمثيليا’.
انحراف كهــــذا أثر في فهم المواطن لجمــلة من القضايا المتصلة بحقوقه الدستورية ـ فغــــذت الحــــرية السياسية وسياسة الحرية في عرف المواطن الجزائـــــري مقرونة بالعملية الانتخابية فقط، بالموازاة مع تحول الاحزاب المصنوعة منهــــا والمصطنعة إلى دكاكين بيع المقاعد الانتخابية الوثــــيرة، من خــــلال واجباتها الموسمية، كل ما هل هــــلال انتخابي ما في فضاء البلاد، ولعل سائل يسأل عما يراهن الفــــرقاء الرفقاء لكسب معركتهم الفوقية إذا لم يســــتندوا الى المخزون الشعبي والجــــماهيري، شــــرعية السؤال كامنة وكائنة ومؤلمــــة، لكن حقيـــقة عنه الاجابة تظل أكثر إيلاما ووجعــــا حين تقر بأن الفرقاء ـ الرفقاء يراهنون في تثبيت واستـــدامة وجودهم في مواقعهم العالية المتعالية بالسلطة، على قوى الخارج أكـــثر من الداخل، لأن الشعب لم يعرف له حضور سيادي في المشهد الصراعي (السياسي)، وكما لم يُعرف حتى هاته إذا ما كان قد أقيل أم استقال.. من منصبه كشعب.

‘بشير عمري . كاتب صحافي جزائري
http://www.alquds.co.uk/?p=93413

كلمات مفتاحية