مقالات

سعداني يرشح بوتفليقة.. مَن لا يملك لمن لا يستحق!! توفيق رباحي

لماذا صفّق كل أعضاء اللجنة المركزية لحزب جبهة التحرير الوطني بالجزائر، وهللوا لطلب أمينها العام عمار سعداني تزكية الرئيس عبد العزيز بوتفليقة مرشحا لولاية رئاسية رابعة؟
في الجزائر عشرات الأحزاب لكن لا تعددية سياسية وحزبية، وصحف حرة بلا حرية، وتلفزيونات غير حكومية أكثر ولاءً للحكومة من تلفزيون الحكومة، ونقابات مستقلة بلا استقلالية، وحرية تظاهر تقمع المظاهرات.. ووضع غريب شاذ نادر الحدوث.
عليه، يصعب على من يجهل هذه التشعبات وغموض السياسة الداخلية الجزائرية أن يقف على الأسباب التي دفعت الحاضرين في اجتماع اللجنة المركزية السبت الماضي إلى الوقوف بسرعة كرجل واحد والتصفيق بحرارة على طلب يفتقد للعقل والمنطق والذوق.
من أجل قليل من المعرفة يجب الوقوف عند الحالة السيكولوجية لهذا الحزب وقياداته. ولهذا وجب العودة قليلا الى الوراء: هذا حزب لم يقل أبداً ‘لا’ لما يـُطلب منه. أساس وسبب وجوده التزكية والتصويت على ما تريده الجهة القوية في الحكم، مخابرات كانت أم رئاسة أم قوى إدارية ومالية، أو إفساد المبادرات الجادة إن وُجدت، كتلك التي تصدر من أحزاب تـُعرف ببعض المعارضة في مواقفها. عندما لم تسر قيادة الحزب في بداية التسعينات ضمن هذا المنطق، أُطيح برأسها المرحوم عبد الحميد مهري بسرعة واستعيض عنه بقيادة ‘طبيعية’ طيـّعة تعرف واجبها وتنفذه على أحسن وجه.
قيادات هذا الحزب هي عبارة عن ناد لخليط من بقايا من زمن الحرب الباردة ووجوه التحقت بالسياسة في الأربعينات وأخرى تولت مسؤوليات في الدولة منذ الاستقلال وما بعده، بالأضافة إلى تلاميذهم النجباء من أبناء الاستقلال، الذين وإن كانوا أقل عمرا، لكن بعضهم يتفوقون على اساتذتهم بقايا الحرب الباردة.
تقوم قيادة الحزب بهذا الدور منذ الاستقلال مقابل امتيازات مادية ومعنوية، كالظفر برضا الرئيس والجهات الحاكمة المتنفذة، وببعض المناصب وحضور الولائم الرئاسية والاستحواذ على سفريات العلاج بالخارج. أما الذين هم في الصفوف الثانية والثالثة من القيادة فتنالهم امتيازات أقل إغراءً لكنها تتناسب وأحجامهم ومحدودية طموحاتهم.. شقق سكنية في مناطقهم وجوازات سفر خاصة بالحج ووساطات تسهّـل حاجياتهم وحاجيات ذويهم في المعاملات الإدارية لكي يحافظوا على نفوذهم واحترامهم بين ذويهم وفي مناطقهم.
يوم السبت وضع سعداني أعضاء اللجنة المركزية أمام الأمر الواقع. جدول أعمال الاجتماع كان تزكية أعضاء المكتب السياسي (التنفيذي)، لكن الأمين العام زاد بأن اقترح على الجميع الموافقة على تزكية بوتفليقة مرشحا رئاسيا لفترة رابعة. فعل سعداني ما فعل وهو يدرك الكثير من الاشياء، منها أن نسبة من الحاضرين، إن لم يكونوا كلهم، على دراية بالأمر سلفاً لأن مسألة كهذه لا يمكن أن تبقى سرا في الصدور، وأنهم جاهزون للتزكية لأنهم مستعدون لها، مروّضون عليها ولا يعرفون غيرها. ويعرف أن الرافضين، بل حتى المترددين منهم إزاء ترشيح بوتفليقة لن يجرؤوا على المجاهرة برأيهم، خصوصا في ذلك الاجتماع، لأن ذلك سيـُعتبر خروجا على إجماع الحزب، والأهم خطيئة وخيانة لبوتفليقة ستصله اخبارها وسيدفّع أصحابها ثمنا يلاحقهم طيلة حياتهم. والجميع يعرفون ثمن أن ‘تخون’ أمنية بوتفليقة، ولهم في علي بن فليس وعبد الحميد أبركان درسا وعبرة.
في ذلك الاجتماع كان أمام المترددين والغامضة مواقفهم لحظة واحدة للحسم: إما الموافقة بالوقوقف والتصفيق عاليا (حتى تلتقط كاميرا التلفزيون صورتك وأنت تفعل)، وإما انتهيت سياسيا وقلْ وداعا لجوزات السفر الخاصة بالحج والنفوذ والوساطات لدى الولاة ورؤساء الدوائر ومدراء السكن.
لقد مرت أغلب مؤتمرات الحزب واجتماعات هيئاته القيادية منذ الأزل بهذا الشكل: فرض الأمر الواقع.. يـُعلن أمر، يـُطلب من الحاضرين المصادقة عليه برفع اليد، تسود حالة من الإرباك أو الذهول، وفي غمرة التصفيق أو المفاجأة يحسم الشخص المكلف بالمهمة الموقف بسرعة وخبث لتفادي خروج الاجتماع عن السيطرة. مرات يسود هرج ومرج وصراخ وضرب، وأحيانا كثيرة يمضي الموضوع كما هو مخطط له. بعض مؤتمرات الحزب لم تنته أصلا واشهرها مؤتمر طرابلس غداة إعلان الاستقلال بسبب خلافات بين القادة سادها السباب والشتائم.
إذن، زكت اللجنة المركزية لجبهة التحرير بوتفليقة مرشحا لولاية رابعة وهي تعلم أن الأخير لم يعلن بعد ترشحه، ولم يكشف بعد عن نواياه. ورغم أن نواياه معروفة سلفا وإعلانه مسألة وقت لا غير، كان الأصل انتظار أن يصدر شيء من المعني بالأمر. ورغم أن سعداني في اقتراح تزكية بوتفليقة ربما كان يعبـّر عن رغبة وأمر من الأخير، الأصل (مرة أخرى) أن يصدر شيء من المعني.
ومثلما فعل سعداني ما فعل وهو يعلم اشياء كثيرة، صفق الحاضرون بحرارة لاقتراحه وهم يعلمون حقائق أكثر، منها أنهم يزكون رجلا عليلا لا يقوى على الوقوف (احتـفى به الإعلام المحلي عندما أظهره التلفزيون الحكومي في ثلاث ثواني يصطنع الوقوف).. رجل عندما يحين موعد الانتخابات في الربيع المقبل يكون قد تخطى عتبة السبعة والسبعين من عمره.. رجل اعترف بلسانه في خطاب علني أمام مئات الطلاب الجامعيين في مدينة سطيف في مايو (مايو) 2012 بأنه من جيل ‘طاب جنانه’ (انتهت صلاحيته).. رجل لا يبدو أن له هدفا أو برنامجا في الحياة سوى الموت رئيسا.. رجل اتسمت فترة حكمه بالفشل والجمود، نمت خلالها صناعة واحدة هي صناعة اللصوصية والفساد.
أسوأ ما في الأمر أن الحاضرين في مسرحية السبت لم يفعلوا فعلتهم حبا في البلاد، ولا إيمانا ببوتفليقة ولا بالانتخابات. بل فعلوها حفاظا على مصالحهم الصغيرة المباشرة أولاً وأخيرا.
ما فعله أعضاء اللجنة المركزية يوم الخميس هي ‘منحة من لا يملك لمن لا يستحق’. كيف لجهاز بيروقراطي عقيم ومفلس عجز أن يجد لنفسه قائدا يليق به، أن ‘يختار’ للجزائريين من يحكمهم؟ لو في اللجنة المركزية صوت خيـّر كان يجب أن يصرخ إن أفضل خدمة يقدمها بوتفليقة للجزائر إعلانه أنه زاهد في الكرسي وعائد إلى بيته. لا الجزائر تستطيع تحمله أربع سنوات أخرى، ولا هو يقوى على تحمل غليانها ومشاكلها أربعة أيام.
إن الجزائر تستحق أحسن مما حل بها يا ناس.. فمن لها يا رب العالمين؟؟
http://www.alquds.co.uk/?p=104675