مقالات

قراءة في مسار تحولات المعارضة الجزائرية : بشير عمري

لا تزال المعارضة السياسية في الجزائر تتخبط في الحيز الانشغالي والاشتغالي الضيق الذي رُسم لها، مذ تم تكسير التعددية ذات النسق العالي جدة وجودة، التي برزت بداية تسعينيات القرن الماضي بوصفها الانموذج الأمثل في تاريخ العمل السياسي العربي، قبل أن تتسبب في تسيبها ومن ثم تحييدها السلطة الفعلية في الجزائر، مستغلة في ذلك ضعف الخيال السياسي لقادة تلكم المعارضة القوية وقتذاك بشتى أطيافها وبرامجها وتوجهاتها، الأمر الذي أعطى الحجة والذريعة لمناوئي اصلاحات ما بعد أحداث أكتوبر 1988 للعودة إلى أخطر من مرحلة ما قبل تلكم الأحداث، وهذا حين تم الارتكاس إلى الأحادية العصبوية، لكن بغطاء تعددي تضمن حياته وديمومته الغنيمة المشتركة، وهكذا تمت مصادرة الارادة الجادة والملتزمة لكل بقايا المعارضة، وباعت شخصيات أفكارها وأحزابها حتى، حين تبوأت مناصب في شتى مستويات مؤسسات الدولة، معلنة عن انحيازها لهاته الأخيرة على حساب الوطن، وللمنصب على حساب الحزب. وضع نجم عنه موت السياسة بشكل سريري تام ودائم. ضيق الحيز الاشتغالي والوظيفي الذي طوقت به السلطة المعارضة وراودتها وروضتها به على مدار أزيد من عقد من الزمن، جعل هاته الأخيرة تتخبط في ممشاها الوظيفي ومسارها التنظيمي لتفقد مع توالي السنين كل معنى الوجود في الوعي والضمير السياسي الجمعي، تخبط عكسته تداعيات الزيارة الأخيرة لوفد سياسي جزائري إلى سورية، وموجة من الانتقادات التي طالت مبادرته من قبل بعض رموز الحركات والجمعيات الدينية والسياسية المناوئة لنظام بشار الأسد، على خلفية اضطهاده لشعبه بعد أن رفض التغيير والتغيُر، انسجاما مع اللحظة التاريخية التي يعيشها العالم العربي، فزج بالبلاد كلها في أتون حرب أهلية عسُر على المستقبليين والمحللين معرفة أنى مآلها ومنتهاها، لكون مصيرها ليس بيد السوريين انفسهم، بل بيد أطراف أخرى.
الزيارة تلك رأى فيها البعض تعبيرا رسميا بوفد غير رسمي، عن موقف الجهات المسؤولة بالجزائر، من الازمة الدامية في أرض الشام. في حين قرأ البعض الآخر تلك البادرة بكونها سعيا للفت الانتباه واستجلاب جزء من الرأي العام الوطني بالجزائر الداعم لنظام الاسد، على ما يسمى المؤامرة الكونية التي تتعرض لها سورية، بيد أن البعض الآخر يرى أن عددا من مسؤولي الاحزاب صاروا يتصرفون بمعزل عن إرادة القواعد (هذا إن كانت لتلك الاحزاب قواعد أصلا) ليظفروا بمزايا وعطايا شخصية لا أكثر ولا أقل، كل ذلك يعطي فكرة عن أزمة المعارضة في الجزائر، بشقيها الحزبي والشخصي، والتي أسست لأزمة السياسة الكبرى التي تخنق الأمة وتهدد مستقبلها في الصميم، في ظل تغييبها للإرادة والرقابة الشعبية على حسن سير المؤسسات والموارد العامة.
فشل المعارضة الجزائرية في فرض التغيير على مستوى تركيبة السلطة التي نشأت من رحم صراعات عضوية داخل الحركة الوطنية قبيل استقلال البلاد، تمظهرت بشكل جلي في مؤتمر الصومال، حيث فصل في اشكالية التداخلات الوظيفية وتم رسم إطار للأولويات الشهيرة، من أبرزها أولوية السياسي على العسكري، والداخلي على الخارجي، قبل أن تتمرد الارادات المتصارعة تلك، على مخطط الضبط هذا في مؤتمر طرابلس، وتحكم قبضتها على شأن السياسة والسياسيين بالبلاد إلى غاية يوم الناس هذا. فشل نقض بالإجماع كينونة المعارضة وشرعيتها بالمشهد السياسي للبلاد، وجعلها عنوانا آخر لسلطة تعارض نفسها وتعيد انتاج خطابها عبر ابواق موسومة بالتعددية، إذ لا يعقل ولا يصدق أن معارضة فشلت في تغيير الارادة المفروضة في الشأن الداخلي منذ الاستقلال، أن تقدر على احداث التغيير على مستوى الارادة الدبلوماسية للدولة، التي لم تتم صياغتها يوما وفق تصور جمعي إجماعي لكل مكونات الساحة السياسية، كون هاته الأخيرة مغلقة معلقة إلى إشعار غير مسمى.
وحري بالتذكير والتأكيد أن وجود اطياف المعارضة بتشكيلاتها متناثرة المواقع، والمتصارعة ايديولوجيا كان وليد إرادة السلطة ذاتها، ولم تفرض قط هاته المعارضة وجودها في المشهد السياسي بقوة خطابها وبرامج تنظيماتها ولا حتى برموزها الكاريزماتية، فأحداث أكتوبر 1988 التي أخرجت كل تلك الاطياف من كهوف السرية، اتضح بشكل جلي أنها كانت مدبرة ومبرمجة من قبل الدوائر المتصارعة داخل بيت السلطة، كأداة لتصفية الحسابات التي كانت حربها مستعرة تحت رديم التعتيم الاعلامي والسياسي آنذاك، هي إذا طبيعة انوجادية غريبة تفسر ولا شك هشاشة المعارضة بالجزائر، التي ستسبب في أزمة سياسية خانقة، اسهم الوعي الجمعي بالشأن السياسي ذي الطابع التوجسي والمتداخل في المخيال الفردي مع الشأن الوطني في إطالتها، الأمر الذي خدم السلطة بشكل خرافي.
قصة صراع السلطة والمعارضة في الجزائر لم تعرف أكثر من سيناريوهين حسمت بهما الأولى الامور لصالحها، ومحت أي مستقبل للمعارضة، لا في تسيد معترك السياسة فهذا لم يوجد في السابق ولن يوجد على المدى المنظور على الأقل، بل لفهم معنى أن تكون معارضا بكل دلالات ومعاني الكلمة، فالسلطة مذ استقلت البلاد استوعبت كل المشارب والمحارب في تنورها، وفرضت أن يأتيها المعارضون فرادى وينضموا وينتظموا داخل الوعاء الكبير (جبهة التحرير) الذي قيل انه الجامع المانع من النعرات الجهوية والتصادمات الايديولوجية، (وهذا ما يفسر سبب إبقائها على الأحادية في المجال السمعي البصري وعدم رغبتها في تحريره من قبضتها) وغيرهما من الاسباب والحجج الواهية، وحين بلغ الصراع مداه داخل دوائرها، وفرضت التعددية العرجاء منطقها، واجهت الراديكالي من المعارضة بكل الوسائل، ثم ما لبثت أن نزعت عن المعارضة كل عناصر القوة والتميز، عبر اغراق المشهد السياسي بكيانات غريبة شكلها معارض وأصلها ‘مغارض’، أي خارج من جبة السلطة، بغرض لعب دور المعارضة السلبية تأسيسا لما سيعرف في ما بعد في أدبيات الخطاب السياسي الوطني بـ’ديمقراطية الواجهة’. كما تم استدراج التشكيلات السياسية الأخرى من خلال تقاسم الريع الذي بشهوته وشراهة الجميع له تم القضاء وبشكل دراماتيكي وشبه نهائي على السياسي الملتزم وعلى رأسه التيار الاسلامي المشارك، بعد أن كُسر الراديكالي المغالب بقوة السلاح مضافا إليها قوة غباء ذلكم التيار.
السقوط المتواصل للمعارضة على مدار تجربة العملية السياسية بالجزائر في مطبات سلطة داهية، تعمل بقوة فكرين متجذرين في التجربة والمكر السياسيين، جعلها تفسد وتتعفن في المشهد السياسي والوطني وتغدو مقززة في الوعي القاعدي البسيط، أكثر من ذلك صارت تحمل في هذا الوعي، صورة المستنسَخ عن السلطة الفاسدة ولا يرى فيها المواطن السياسي الذي اختزل في كونه مجرد حامل لبطاقة الانتخاب، أكثر من أنها مشروع السلطة مكررا لا غير.
خلاصة القوا ان مفهوم السياسي المعارض الذي حملته أحزاب التعددية في جيلها الثاني، القائم على مبدأ ملء الفراغ، بغرض إفراغ العملية السياسية من محتواه، أكد بما لم يعد معه مجال للريبة، أن زمن الالتزام السياسي وسياسة اللاالتزام التي ظل يتحلى بها المعارض الجزائري في عهد السرية والاضطهاد السلطوي قد ولى وإلى غير رجعة، حيث لم يعد للمعارضة برنامج وحلم يهدفان الى تغيير السلطة، بل صارت السلطة هي التي تغير برامج وأحلامن بل ورجالات القيادة في أحزاب المعارضة، بما يضمن استمراريتها وديمومتها في تاريخ الجزائر الحاضر والمستقبل.

‘ كاتب صحافي جزائري
http://www.alquds.co.uk/?p=105422

كلمات مفتاحية

تعليق واحد

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق

  • السلام عليكم وبعد،
    شكرا جزيلا للكاتب الصحفي على اثارته لموضوع في غاية الحساسية والاهمية كموضوع المعارضة لنظام جمع كل وسائل الترغيب والترهيب من اجل ديمومته وبقائه على حساب تطور المجتمع والدولة في الجزائر. انا ارى بان المعارضة لم تكن في يوم من الايام وليدة جهد فكري وسياسي بل كانت وللاسف عبارة عن حركة تميل اكثر لتصحيح المسار وليس لايجاد البديل وذلك عن طريق حمل الشعارات وتكريرها في كل المناسبات من اجل حمل الشعب على تبنيها دون وعي سياسي على الواقع الفاسد الذي يتخبط فيه ووعي على البديل لهذا الواقع. بمعنى آخر يمكن القول بان المعارضة في الجزائر لم تكن واعية تمام الوعي بان عملها يتطلب جهدا فكريا ومبدئيا حتى يصمد في وجه دولة تريد البقاء ولا يهمها سوى البقاء بشتى الوسائل والامكانات.
    المعارضة لا بد لها من قواعد فكرية سليمة ترتكز عليها حتى تسير وفق استراتيجية معينة للوصول الى الحكم او الوقوف وبصمود من اجل محاسبة الدولة ككيان تنفيذي لمجموعة من المفاهيم والقناعات والمقاييس. كما يجب على المعارضة ان تثقف مناضليها بالثقافة الحزبية اللازمة التي توجد الشخصية السياسية القادرة على تسيير شؤون الدولة والوقوف ضد الاطماع والاغراءات مهما كانت. وعلى المناضل ان تتوفر فيه شروطا معينة ومستوى معين حتى يمكنه حمل الافكار التي يتبناها وبكل اخلاص وتضحية لايجادها في واقع الدولة والمجتمع.
    انا لا اظن ان المعارضة في الجزائر بكل اطيافها تتبنى في عملها ما يجعلها تتميز بمجموعة من الافكار والمبادئ من اجل ايجاد التغيير الايجابي المنشود. أي ان غياب المنهجية وعدم وضوح الرؤية جعل هذه المعارضة تكرر نفسها دائما سواء تعلق الامر بالعلماني منها او الاسلامي.
    لقد غيبت سياسة التعليم في الجزائر كل ما يمت الى المنهج التجريبي والعقلاني في التحليل . واذا تتبعنا منهجية التعليم المتبعة في بلدنا او في جل البلاد العربية نجد بان استقلالية التفكير والابداع لا محل لها في هذه المجتمعات الذي جعل منها الاسلوب التلقيني في كسب المعرفة والعلوم عالة في سد حاجاتها حتى فيما يتعلق بالافكار على دول ومجتمعات اخرى وهي نتيجة منطقية وحتمية للتخلف الذي نتخبط فيه لغاية اليوم.
    فالمعارضة التي لا تجتهد في ايجاد الحلول ولا تترك المجال لتجديد نفسها ومراجعة افكارها وتثقيف مناضليها بالثقافة السياسية اللازمة لا يمكن لها ان تنتج افكارا سليمة او ساسة قادرين على ادارة شؤون الناس.
    كثيرا ما نسمع عن احزاب الائتلاف وهي تتشدق ببرنامج الرئيس، رغم اننا ولحد الساعة لا نعرف ماهية هذا البرنامج سوى فيما يتعلق بشقه المادي البحت من حيث الغلاف المالي الذي يخصص لهذه الجهة او تلك، اما في ما يتعلق باصلاح شؤون المجتمع المتعلقة بالتعليم والتربية والحكم والاقتصاد والصحة والمواصلات وغيرها من الشؤون فلا نرى سوى الترقيعات والحلول الأنية لمشاكل تكدست وتشابكت بترقيعات رأسمالية وماركسية واسلامية لشهور وسنين.
    خلاصة القول هي ان المعارضة ان وجدت لا يمكن ان تلعب دورها كاملا الا في ظل ديمقراطية حقيقية يكون فيها الشعب هو مصدر السلطات، هذا في النظام الرأسمالي. اما في ما يخص النظام الاسلامي الذي يستمد تشريعه من القرأن والسنة فلا مجال للمعارضة ايا كانت ولكن هناك ما يسمى بالمحاسبة اي ان الاحزاب الاسلامية ومجلس الشورى يلعب دور المحاسب للدولة حتى لا يكون هناك افراط اوتفريط سواءا تعلق الامر بحقوق الله او خقوق العباد. ساعود ان شاء الله لهذا الموضوع أجلا حتى نتبين الفرق بين المعارضة والمحاسبة من حيث الشكل والمضمون وشكرا