تاريخ

المجاهد لخضر بورقعة : عدد الحركى غداة استقلال الجزائر تجاوز مليون خائن

الحركات المناوئة للثورة أخّرت الاستقلال 3 سنوات
فيالق “الحركى” عرفت ذروتها مع مجيء دوغول إلى الحكم
ما كان متواترا لدينا أن عدد “الحركى” في حدود 250 ألف فرد، لكن عمليّا أظن أن الرقم أكبر بكثير، شخصيا أعرف في إحدى مناطق الولاية الرابعة أن هناك 1500 حركي يتوزعون على 3 عروش فقط.

وعليه، بحساب المسلحين المهيكلين و”البيّاعين” وأعوان الإدارة والمتعاطفين مع فرنسا ممن يرفضون الثورة، سنجد أضعاف هذا العدد المتداول، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير على 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري.

قضية “الحركى” في الجزائر إبّان فترة الاحتلال الفرنسي، واحدة من القضايا الساخنة التي ما تزال تصنع الجدل التاريخي والسياسي والإعلامي بين ضفتي المتوسط، وبعد نصف قرن من الاستقلال الوطني تبقى راسخة في الذاكرة الشعبية والجماعية، وتحتل مكانتها وسط المهتمين بالعلاقات الثنائية بين البلدين، تتضارب الأرقام والروايات، لتحتجب الحقيقة فوق طاولة اللعب بأوراق الماضي، ولا يبدو أن هذه الصفحة ستُطوى قريبًا، لأن فرنسا تسعى إلى هيكلة وتوريث “الفكر الحرْكي” لدى الأجيال الناشئة فوق أراضيها .

في السلسلة التالية تفتح “الشروق” دفاتر الملف الشائك، لتستنطق الحقيقة من أفواه صنّاعها وشهودها العدول، وإليكم نص الحوار الكامل بهذا الخصوص مع الرائد سي لخضر بورقعة .

نريد أن نعرف في البداية الأسباب التي دفعت بقطاع واسع من الجزائريين (الحركى) إلى أن يضعوا أنفسهم في خدمة الاستعمار ضد ثورة شعبهم، هل الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية حينها يمكن أن تفسِّر لوحدها تلك الخيانة، أم أن هناك دوافع أخرى سياسية وأيدولوجية؟

أولا أوضح أن ثمة فرقاً في الاصطلاح التاريخي بين لفظين يُستعملان عادة للتعبير عن هذه القضية، وهما الحركى أو (الڤومية)، والبيّوعين أي (المخبرين)، فالشريحة الأولى تعني المسلحين الذين رافقوا قوات الاستعمار، وهي محلّ حوارنا الآن، أما الفئة الثانية فكانت تتكفل بمتابعة ومراقبة نشاطات المجاهدين والسياسيين، ثم تتولى التبليغ عنهم ورفع التقارير إلى الأجهزة الفرنسية.

ثانيا، أودّ أن نعرج سريعا على نشأة جهاز “الحركى” أصلا، كيف ظهرت هذه الشريحة بين الجزائريين، لقد كانت لفرنسا منهجيتها المتكاملة في التعامل مع الثورة، ولهذا بادرت منذ البداية إلى تأسيس قوى “الحركى”، والفكرة جاءت من خلال استقصاء فرنسا لأخبار المجاهدين، حيث كانت تنزل إلى القرى والمداشر وتسأل عمن تسميهم “الفلاڤة”، فيجيبها عملاؤها عن تحركات الثوار، وكيف يجندون ويأخذون المال والمؤونة من السكان بالقوة، وفق رواية المُخبرين، هذا الأمر جعل فرنسا تصنّف المواطنين إلى موالين ومعادين للثورة، فاقترحت على المتعاطفين معها والخائفين من بطشها أن تضع السلاح في متناولهم للدفاع عن أنفسهم ضد “الفلاڤة”، قبل أن يتحول هؤلاء مع مرور الوقت إلى مجندين عسكريين في صفوف القوات الفرنسية ضد شعبهم، وهذه الخطة سمحت لفرنسا من جهة أخرى باكتشاف الفئات الموالية للثورة وهي التي رفضت أن تتسلح في وجه المجاهدين، ولكن تشكلت شريحة معتبرة بين الفريقين (الموالين والمعادين)، وهي التي تبدي تعاملا ظاهرا مع الاستعمار بفعل الضغوط الممارسة ضدها، بينما هي غير مقتنعة بذلك، وهؤلاء لم يكونوا في الحقيقة “حركى” ولا مُخبرين خالصين، لكن الظروف كانت أقوى منهم.

أما عن الأسباب فلا شك أن كلّ الدوافع التي تفضلت بها في سؤالك واردة لكن تبقى الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية هي الأساس، لأن الشعب كان يعيش الفقر المدقع والاحتياج والخوف والجهل والبطش العسكري، في نفس الوقت، كانت هناك قطاعاتٌ عريضة غير مؤمنة بإمكانية نجاح الثورة، وبالتالي يرفضون الرهان على الفشل، وثمة جناح ثالث موالي قلبا وقالبا للاستعمار، أي مقتنعين عقديا وايديولوجيا بفرنسا وهم الأقلية.

كيف كان الجزائريون يتعايشون مع هؤلاء “الحركى” وهم يعيشون بين ظهرانيهم في القرى والمداشر والمدن، ويعرفهم العام والخاص؟

بكل تأكيد كان هؤلاء منبوذين من طرف عموم الشعب، وأفعالهم مستنكرة، لهذا وجدنا منهم من يتحلى بشيء من الحياء، فيغادر محلّ إقامته إلى منطقة أخرى حتى يتخفى ولا يُكتشف أمره، في حين فضّل “حركى” آخرون المكوث في قراهم ومداشرهم بهدف توفير الحماية لعائلاتهم والحفاظ على امتيازاتهم الخاصة مع الاستعمار، لكن لا تنسى أن الشعب الجزائري كان يعاني الأمرّين خلال الثورة، وكان الضغط النفسي والأمني شديدا جدا على السكان، ما دفع ببعضهم إلى تقبّل هؤلاء الخونة، بل كانوا يطلبون منهم قضاء حاجاتهم الشخصية والعائلية.

أنت كنت من رجال الميدان في الثورة، وتعرف عن قرب دور هؤلاء “الحركى” في دعم وإسناد الجيش الفرنسي، هل ترى أن تأثيرهم الفعلي قدّم “خدمة إستراتيجية” للاستعمار، وبالتالي قد أخّر حتى إنجاز الاستقلال؟

طبعا، فرنسا استفادت كثيراً من خدمات هؤلاء “الحركى” على المستويين العسكري والدِّعائي بصفة أكبر، فقد شكَّل الاستعمار من خلالهم حاجزا تجاه الثورة، وظفته الدعاية الفرنسية للتأثير في الرأي العام وتحطيم معنويات الشعب، عبر إبراز صورة وموقع “الحركى” إلى جانبها ضد مشروع التحرير، إلى درجة من التغليط والإشاعات يظهر معها أن نصف الشعب على الأقل كان رافضا لاحتضان الثورة المسلحة.

أما على الصعيد العملياتي، فقد كان للحركات المصاليّة المناوئة تأثيرٌ هائل على مسار الثورة، فقد انبثقت من رحم الوطنيين المصاليين 5 حركات مضادة للثورة، وتركزت في منطقة الوسط، وهي جماعة: كوبيس، الشريفي، السعيدي، بلونيس، ومصمودي، وقد استمرت تحركاتها السلبية إلى غاية وقف إطلاق النار، باستثناء حركتي بلونيس وكوبيس اللتين أجهضتا بعد تصفية زعيميهما.

وهذه الفصائل المناوئة من المصاليين هي التي كان لها تأثير سلبي في عمل الثورة، عشرات الآلاف من المجندين المهيكلين في صفوف الجيش الفرنسي من “الحركى”، وتسببت تلك الحركات في تأخير الاستقلال 3 سنوات على أقل تقدير، لأن فرنسا سعت من خلالها إلى إيجاد “تيار ثالث”، مستغلة في ذلك الجذور الوطنية لأفرادها، في إرباك المواطنين وهزّ قناعاتهم الثورية، بخلاف “الحركى” الذين كانت خيانتهم مكشوفة لا غبار عليها لدى السكان.

لقد كان من الممكن أن تحسم الثورة مشروع التحرير بعد 3 سنوات من انطلاقها، لكن تأثير هؤلاء المصاليين أوصل الثورة إلى المرحلة الثالثة التي تزامنت مع عودة دوغول إلى السلطة في فرنسا عام 1958، وقد كانت تلك الفترة (58-62) الأشد فتكا وقساوة، وعرفت سقوط 80_ من شهداء حرب التحرير.

ما دمت قد تحدثت عن المراحل، هل يمكن أن ترسم لنا “منحنى بيانيّا” عن تصاعد وتراجع “الحركى” مع سنوات الثورة؟

فيالق “الحركى” رافقت الثورة منذ البداية، لكنها عرفت ذروتها مع مجيئ ديغول في 13/05/1958، حيث رمى هذا الأخير بكل ثقله التاريخي والعسكري والسياسي لإجهاض الثورة، فعمد إلى تجنيد أكبر عدد ممكن من “الحركى” في صفوف الجيش الفرنسي، وخطط بكل السّبل لخلق غطاء سياسي ومعنوي لإضفاء صبغة شرعية تعمي على علاقة هؤلاء بالاستعمار، من خلال ربطهم بالحركات المناوئة مثلاً، بدل أن يتجندوا مباشرة مع جيش الاستعمار، لكن الثورة كانت لها بالمرصاد، وركزت على وأد تلك الحركات المضادة لسحب البساط من تحت أرجل دوغول وأذنابه الخونة.

حتى مع نهاية الخمسينات حيث تقوّى عود الثورة وأصبح لها حكومة مؤقتة وحضور أممي، لم تتراجع وتيرة “الحركى”.. لماذا؟

هذه المرحلة مثلما أكدت لك سابقا كانت الأعنف والأقسى على حياة الجزائريين عموما وعلى مسار الثورة خصوصا، فقد تجسدت خلالها سياسة ما يعرف بـ”الأراضي المحرَّمة” التي يُمنع فيها التواجد مطلقا، في المقابل، لم تكن الثورة في الداخل تملك وسائل إعلام للتبليغ والتواصل مع السكان، حتى أننا للوهلة الأولى، لم نصدِّق نحن القيادات الميدانية إعلان بن يوسف بن خدة عن وقف إطلاق النار في 19 مارس 62، وبالتالي الجزائريون في عمومهم لم يكونوا مواكبين للتطورات العسكرية للثورة، بل كان مفعول الإرهاب النفسي والاجتماعي والأمني شديدا على معنوياتهم، ومن ثمة بقي منحنى “الحركى” مرتفعا تقريبا حتى أواخر الثورة، مع أن البعض استيقظ ضميره وصحا من غفوته ليلتحق بصفوف الثورة إلى جانب شعبه وينال شرف المشاركة في حرب التحرير وإن متأخرا.

لو نتحدث بلغة الأرقام، وقد نظمت الثورة بشكل دقيق مع مطلع الستينات وحتى قبلها، هل كان لدى قيادات جيش وجبهة التحرير الوطني إحصاءات مضبوطة أو تقديرية، حول عدد “الحركى” غداة الاستقلال، لأن المتداول منها متضارب وفي عمومه فرنسيّ المصدر؟

بصراحة لم تكن هناك تقديراتٌ دقيقة لأن الملف كما أسلفت لك كان يُعالج بشكل محلّي، فقط ما كان متواترا لدينا أنهم في حدود 250 ألف فرد، لكن عمليّا أظن أن الرقم أكبر بكثير، شخصيا أعرف في إحدى مناطق الولاية الرابعة أن هناك 1500 حركي يتوزعون على 3 عروش فقط. وعليه، بحساب المسلحين المهيكلين و”البيّاعين” وأعوان الإدارة والمتعاطفين مع فرنسا ممن يرفضون الثورة، سنجد أضعاف هذا العدد المتداول، لكن حتى لو اقتصرنا على رقم 250 ألف مهيكل في الجيش الفرنسي، فلا يمكن أن ننسى أن كل واحد منهم له تأثير على 4 إلى 5 أفراد من عائلته، وبالتالي هم في المجموع يتجاوزون مليون جزائري.

وفي ذات السياق، أريد أن أصحح مغالطات يروّجها البعض حول تمركز “الحركى” في مناطق وولايات بعينها، حتى أن مجاهدين كباراً ما فتئوا يرددون أن مناطقهم لم يوجد بها “حركى”، أقول إنّ مثل تلك الإشاعات والدعايات غير موضوعية وتنبع من حسابات تاريخية وعصبية مقيتة، والحقيقة أن كل المناطق حيثما وجدت فرنسا، كان هناك “حركى” وعملاء، لأن الظروف والضغوط والواقع نفسه، والإنسان هو الانسان.

على حد ذكرك لتراجع بعض “الحركى” عن موقفهم وانضمامهم إلى جيش التحرير الوطني، نودّ أن نعرف سياسة ومنهجية الثورة في التعاطي معهم؟

في الحقيقة لم تكن هناك سياسة موحدة أو منهجية مشتركة في التعامل مع “الحركى”، بل خضعت القضية للاجتهاد المحلي بحسب ظروف وخصوصيات كل ناحية، بل داخل كل ولاية كانت هناك توجهات مختلفة في معالجة حالات “الحركى”، لأن النظام الثوري بشكل عام لم يكن يخضع للقرار المركزي، بل منح لكل قائد حقّ استعمال سلطاته في نطاق الحيز الجغرافي، فالبعض لجأ إلى تصفيتهم ومطاردتهم بالقوة، في حين غضّ البعض الآخر الطرف عنهم وتفادى أسلوب المواجهة معهم، من باب العمل بأخفّ الضررين، حتى لا يسقط ضحايا أبرياء، أو نتسبب في تضييق الخناق أكثر على الثورة، وبالتالي كان التساهل معهم شفقة على الثورة بالأساس. في مقابل ذلك، وقعت بعض الهفوات في التقدير حتى لا أقول أخطاء جسيمة، وهو ما ينطبق على ما يُعرف بحادثة “ملوزة”.

وفي حالات ثالثة، كان المجاهدون يقومون بأسر “الحركى” ثم إطلاق سراحهم لاحقا، بهدف الدعاية الإعلامية لقدرات الثورة على ملاحقة الخونة، ورفع معنويات المواطنين.

وفي مواقف أخرى أكثر إيجابية، تمكنت بعض قيادات الثورة من التوظيف العسكري لـ”الحركى”، من خلال استيقاء المعلومات وتحصيل الدعم اللوجستي أحيانا من خلالهم.
يتبع
http://www.echoroukonline.com/ara/articles/188208.html

ضباط فرنسا التحقوا بالثورة ضمن مخطط الاستيلاء على الحكم
مجاهدون توفّوا في السجون بعد الاستقلال بتهمة تصفية الخونة!
عائلات كانت تحتفي بعودة “الحركى” على طريقة استقبال حجاج بيت الله!
جمعنا “الحركى” في الثكنات والسجون حماية لهم من الانتقام ولنحاكمهم لاحقاً، لكنهم فلتوا من العقاب العادل بفعل الفوضى السائدة.

معلوم أن فرنسا إثر وقف إطلاق النار ركزت على نقل المعمرين الأوروبيين وتخلت عن “الحركى” باستثناء 5 من كبار العملاء، كيف هرب الآخرون وماذا كان مصير الباقين منهم هنا في جزائر الاستقلال؟

المؤكد أن أعيان “الحركى” تمكنوا من الفرار واللحاق بجحافل الاستعمار، وحملوا معهم المئات من أعوانهم ومقربيهم وذويهم من البداية، مثل الباشاغا بوعلام الذي رافقه عددٌ هائل من ناحية الشلف، وغيره كثير في الواقع، فيما هرب الآلاف أيضا في وقت لاحق عبر موانئ الجزائر المختلفة، لقد كانت الفترة الانتقالية التي طبعتها الفوضى والانقلاب على شرعية الحكومة المؤقتة (62 -63)، حيث طغى الصراع على السلطة، في غضون تلك الأشهر الساخنة والمتوترة، استغل هؤلاء الفرصة السانحة وحقبوا أمتعتهم نحو فرنسا تحديدا، لكن عددا معتبرا كذلك لم يغادر البلاد .

ماذا كان مصيرهم، خصوصا أن هناك روايات كثيرة تتحدث عن تصفيات انتقامية طالتهم من طرف ذوي الضحايا والأسرة الثورية بشكل عام؟

هذا الكلام غير صحيح وتم ترويجه بهدف الإساءة إلى الثورة واستعمال ورقة “الحركى” ضد الجزائر، شخصيا لم أشاهد ولا سمعت عن أي عمليات تصفية مبرمجة ضدهم، إلا إذا كان في إطار فردي ومحدود، أؤكد لك أنه لم يصدر أي قرار لا مركزيا ولا محلّيا بهذا الخصوص مطلقا، بل بالعكس تماما، حين وقعت بعض التصفيات الفردية ضد بعضهم، بادرت قياداتُ الولايات بعزل “الحركى” في الثكنات والسجون لاسيما المشهورين منهم، حماية لهم من الانتقام، وعاد جزءٌ من هؤلاء إلى ممارسة حياتهم بشكل عادي فيما بعد، وبعضُهم ذهب للمشاركة في رد العدوان المغربي على حدودنا الغربية .

فيما يخص قضية الحماية بالذات، هل صحيح أن بن بلة وبومدين أصدرا تعليمات إليكم بخصوص تأمين حياة “الحركى”، وما خلفية ذلك؟

لم نتلقّ أي تعليمات من أي طرف، لكن تصرفاتنا مع “الحركى” كانت منسجمة مع مضمون اتفاقيات إيفيان من جهة، حتى نحترم أنفسنا أولا. ومن جهة أخرى، كان تفكيرنا ينطلق من التأسيس لسلطة العدالة، لأننا أردنا أن نعطي الفرصة حتى تتهيكل الدولة الجديدة بمؤسساتها، ثم تحاكم هؤلاء وتطبِّق القانون، بدل إشاعة الفوضى من خلال الأعمال الانتقامية بشكل فردي قد تكون مظالمُها أسوأ، لكن للأسف هرم سلطة الثورة، أدخل البلاد في مرحلة الفوضى، وبالتالي فلت هؤلاء من العقاب العادل.

هل صحيح أن بعض “الحركى” ممن حاولوا العودة، اعتقادا منهم أن الجزائريين قد نسوا القضية، لقوا مصرعهم في السبعينات؟

لا، لا… لم أسمع بمثل هذه الوقائع، وإن حصلت فأظنها محدودة جدا، وربما لا تتعدى أصابع اليد الواحدة، لكن الذي أعلمه وأؤكده، أن عودة هؤلاء جوبهت باحتجاجات واسعة من طرف المجتمع، وأعطيك أحداثاً أعرفها جيدا في مليانة والبرواڤية مثلا، احتج السكان ضد المسؤولين على دخول “الحركى” إلى مناطقهم، لكن لم تحدث عملياتُ تصفية أو اعتداءات جسدية.

وهل تمّ دخولهم إلى الجزائر بصفة نظامية؟

نعم، جزءٌ منهم عاد إلى أرض الوطن عبر الموانئ والمطارات والحدود، ويوجد من دون شكّ من ساعدهم في ذلك، من أقاربهم ومعارفهم، بل الأسوأ والمخزي، أن بعض العائلات كانت تحتفي بقدوم ذويها من “الحركى” كما يستقبل عامة الجزائريين الحجيج العائدين من بيت الرحمان، وأنا أعرف أحد الخونة قتل 14 مجاهداً خلال الثورة، دخل الجزائر ورافقه أهلُه في موكب احتفالي، بل رافقوه إلى المقبرة للوقوف على قبر والده الذي كان هو الآخر حركيّا خائنا، ما أثار حفيظة المواطنين ودفع بهم إلى الخروج إلى الشارع للاحتجاج على هذا السلوك الاستفزازي، ففرّ هارباً بجلده.

سمعت من روايات متواترة أن مجاهدين دخلوا السجن بتهمة قتل الحركى بعد الاستقلال، هل تؤكد هذه المعلومة؟

للأسف هذا ما حصل، وأنا شخصيا حينما نقلت إلى سجن لامبيز بباتنة في 1970، وجدت مجاهدين مسجونين هناك، وكنت أعتقد قبل ذلك أنهم سقطوا شهداء في ساحة الشرف، لأُصدم حين اكتشفت أنهم كانوا خلف القضبان منذ 1962، وأذكر لك مثلا: المجاهد عبد القادر مطرف من مليانة، وهو ابن شهيد وأمه استشهدت كذلك، قام بتصفية “حركي” كان قد قتل والديه في زمن الثورة، فحُبس وظلّ في السجن حتى توفيّ في لامبيز، وعاشور رحماني أيضا من بريكة، كان في منطقتنا وحكم عليه بالإعدام من طرف فرنسا، وقمنا بتهريبه من سجن البليدة، ولم نلتق من وقتها إلى أن قابلني في سجن لامبيز في السبعينيات فتقدم نحوي ليسلم عليّ، فلم أتعرَّف عليه، حتى ذكرني باسمه وقال لي: “أنا عاشور رحماني”، فاستغربت الأمر، وبادرته بالسؤال: ما الذي جاء بك إلى هنا؟ فأجابني بحسرة: أنهم أدخلوه السجن بسبب اقتصاصه من “حركي” قتل والدَه خلال الثورة.

ووفق أي قانون زُجّ بهؤلاء المجاهدين في السجن؟

للأسف تم اعتقالهم في عهد الحكومة المؤقتة بتهمة قتل “الحركى”، لكنهم أهملوهم وتركوهم في السجون دون محاكمة ولا حريّة، وبعضهم توفّي في محبسه، وحينما تولّى بوعلام بن حمودة وزارة العدل، راسلته شخصيّا عن طريق واسطة، وقلت له: “لا أريدك أن تتدخل لصالحي لأني فعلتها.. لكن أطلب منك أن تفرج عن المجاهدين الموقوفين منذ 1962 دون ملفات قضائية”، وأرفقت رسالتي بقائمة هؤلاء المحبوسين، لكن الوزير لم يردّ على رسالتي حينها.

عرفنا تعامل السلطة الجديدة وقيادات الولايات التاريخية مع “الحركى”، بالنسبة للشعب في ذلك الوقت، هل كان متسامحا مع هذه الشريحة التي تسبَّبت في مآسيه وجراحه الغائرة؟

قطاعٌ واسع في الشعب كان يريد الانتقام لشهدائه، ولكنه احترم أوامر القيادة الثورية التي كان لها حضورٌ معنوي وسياسي كبير وسط المجتمع، أما في البداية فقد همّ الكثير بالهجوم على مراكز تجميع “الحركى” بنية القتل والتصفية.

أنت تطرقت إلى نقطة مهمة قبل قليل تتعلق ببعض “الحركى” الذين خدموا الثورة من داخل النظام الاستعماري، نريد أن توضح لنا ذلك، هل كان العمل مهيكلا أم مبادرات فردية بطابع إنساني؟

نعم هذا موجود رغم أنهم كانوا قلّة، لكن كان هناك متعاونون مع الثورة من داخل “الحركى” أنفسهم، وهم فئتان: الأولى “حركى” في أصلهم تم توظيفهم لصالح الثورة، والثانية مجاهدون دفعت بهم القيادة بشكل سرّي جدا لاختراق جبهة العدو، حتى أن بعضهم يدفع حياته في تلك المغامرة الثورية، وقد حصل معي شخصيا، حيث اخترت أحسن مجاهد أثق فيه، ويمكنني إقناعه بسهولة لأداء المهمة ثم العودة إلى صفوفنا في الوقت المناسب، إذ ادعى هذا الأخير أمام الفرنسيين أنه قضى على المحافظ السياسي زيتوني الذي كان مطلوبا من طرف سلطات الاستعمار في المنطقة، فقبلوه بينهم ووثقوا فيه، ليتحول بذلك إلى عين للولاية الرابعة على تحركات الجيش الفرنسي وعملائه، يزوّدنا بكل المعلومات الضرورية، لكن العملية فشلت، لأنه لم يطق تحمّل الوضع الجديد مع “الحركى”، حيث أبت نفسُه الثورية أن يتّصل بالسكان بصفته خائنا ويخطب في الأسواق وبين الشعب ضد المجاهدين، فهرب حاملا معه 3 بنادق رشاشة من نوع ” mat 49 ” ، لكنه حينما هرب عائدا للثوار، قابله مجاهدون لم يكونوا على علم بتكليفه من طرفي بالاندساس في صفوف العدو، فقتلوه، اعتقادا منهم أنه تنكَّر من قبل للثورة وجاء الآن للتجسس عليهم، لأني الوحيد الذي كنت على علم بتفاصيل المهمة الموكلة إليه.

نعود إلى قضية مثيرة للجدل في ملف “الحركى”، وتتعلق بالعسكريين الذين التحقوا بصفوف ثورة التحرير في منتصف الطريق، وبعضهم في اللحظات الأخيرة من عمرها، هل استقبلتهم القيادات بطمأنينة أم ارتابت منهم، هل اندمجوا مباشرة في صفوفها أم مكثوا مدة تحت المراقبة، وكيف تمّ التحاقهم أصلا على المستوى التنظيمي والعسكري؟

هذا الموضوع أسال حبرا كثيرا، يجب أن نفرق أولاً بين مستويين من هؤلاء، الفريق الأول هم نخبة الضباط الجزائريين في المعسكر الفرنسي، والفريق الثاني هم عسكريون بسطاء من عموم الشعب كانوا في الجيش الفرنسي، لكنهم تراجعوا عن مواقعهم وقرروا أن يلتحقوا بكل عفوية بالثورة، فلم تكن لهم حسابات إستراتيجية أو مخططات سياسية، وقد استقبلنا الكثيرَ منهم في ولايتنا مثل باقي النواحي، فكانوا يفرّون بأسلحتهم وبعضهم تسلل إلى صفوف المجاهدين في قلب المعركة مع العدو، هؤلاء في العموم كانوا يندمجون عن طريق وساطات واتصالات مسبقة، وسوف أذكر لك قصة مؤثرة تعكس صدق نواياهم، فقد التحق بنا ثلاثة شبان يوم 18/09/1958، أحدهم شاوي من القليعة ينحدر من ولاية خنشلة، فتوجهنا يوم الغد أي 19 سبتمبر للقيام بعملية رمزية استعراضية بمناسبة تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة، فنصبنا كمينا لقوات العدو، كان تقديرنا أن نواجه 4 إلى 5 شاحنات، فإذا بنا نجد أنفسنا أمام قرابة 40 شاحنة من الجنود، فجرح من المجاهدين خمسة أفراد ثم استشهدوا جميعهم، لا زلت أحتفظ بصورهم وأسمائهم فردا فردا، وكان من بينهم هذا الشاب بلقاسم الذي انضم إلى صفوف الثورة قبل 24 ساعة فقط، فكانت خاتمته الشهادة لصدق نيته وإخلاصه للوطن.

ماذا الآن عن النخبة العسكرية التي كانت موالية لفرنسا قبل أن تلتحق بالثورة؟

فيما يخص هذه الشريحة، في الحقيقة أنا أقدم لك وجهة نظري فقط، لأني لا أعلم كل تفاصيل اندماجها، فهم التحقوا بالثورة عبر جيش الحدود، ولم يكونوا أبدا جزءا من مجاهدي الداخل والولايات، وبالتالي قناعتي الخاصة، أن فرنسا في المرحلة الثالثة (ماي 58 إلى مارس 62)، كيفت إستراتيجيتها العسكرية والسياسية وفق الأمر الواقع القائم على استقلال الجزائر على المدى القريب، وبمقتضى ذلك، منحت الاستقلال لمستعمرات إفريقية بناء على “طلب خطّي”، وتشكلت لديها تجربة من خلال تلك الدول الإفريقية التي ظلت حكوماتها الجديدة تابعة لها بالمطلق، لأنها قامت باستدعاء نواب في الجمعية العمومية وكلفتهم بإدارة شؤون بلادهم الإفريقية.

من هنا توجّه آنذاك التفكير الفرنسي إلى الاستثمار في العنصر البشري بدل استنزاف قواها العسكرية والاقتصادية في حروب الاستعمار التقليدي، لذا أعتقد أن التحاق هؤلاء الضباط الجزائريين بالثورة ربما يندرج ضمن هذه الرؤية الإستراتيجية، التي تهدف إلى الاستفادة من ولاء وخدمات تلك النخبة في المستقبل، والفرق هنا، هو أن المخطط الفرنسي في الجزائر كان على المدى البعيد (في غضون 20 إلى 30 سنة) لأنها واجهت تراكمات ثورة شعبية عارمة، في حين وضعت برنامجها في الدول الأخرى بشكل علني ومباشر، كان يفترض واقعيا أن تبدأ المفاوضات عام 1957 بعد سقوط الجمهورية الثالثة والإطاحة بثلاث حكومات متعاقبة بفعل تأثير ضربات الثورة الجزائرية، لكن فرنسا أخرت فتح القضية، حتى تتيح لنفسها وضع لبنات برنامجها المستقبلي، ولأنها تعلم أن العمود الفقري لأي ثورة بعد التحرر هو الجيش الوطني، فركزت على اختراقه والتغلغل في دواليب المؤسسة العسكرية، دون أن تغفل القطاع الإداري، الذي ورث 10 آلاف من الموظفين المفرنسين في غياب شبه تام للأعوان المعربين الذين يمكنهم بناء مؤسسات تنسجم مع قيم ومبادئ الثورة التحريرية في أبعادها الثقافية والاجتماعية.

http://www.echoroukonline.com/ara/articles/188346.html

المجاهد بورقعة لـ”الشروق” / الجزء الثالث والأخير
“الحركى” هيمنوا على مفاصل الدولة بعد الاستقلال
قضية “الحركى” ما تزال ورقة ضغط لدى الفرنسيين لأن الجزائر أهملت الجالية

هذه المقاربة معلومة، لكن ماذا عن الإجراءات التي تم بها الاندماج رغم خطورة مواقعهم الأصلية؟

هؤلاء الضباط انخرطوا في صفوف الثورة على دفعات، وجزء منهم لا شك أنه التحق ولبّى النداء بإخلاص كباقي الجزائريين منذ السنوات الأولى، بينما الباقي انضم على مراحل وهذا في حدّ ذاته ضمن إجراءات الخطة، كان التحاقهم كما أسلفت عبر وحدات الحدود، وبالتالي هم لم يعايشوا أصلا جرائم الاستعمار، الوحيد الذي واجه منهم العدو هو الضابط زرقيني الذي كان تحت إشراف هواري بومدين وجرح في معركة قرب مدينة تبسة، أما عن اتصالهم الأولي فقد جرى عبر دفعات، وتمّ بشكل رئيسي عن طريق فيدرالية الأفلان في فرنسا.

هذا يعني أنهم كانوا في أوروبا ولم يشاركوا قبل ذلك في مواجهات ضد المجاهدين؟

نعم، هذه أمانة للتاريخ، في حدود علمي، أنهم لم يتجندوا ضد الثورة في الداخل، بل كانوا في مدارس التكوين العسكرية في فرنسا وبعضهم خدم في ألمانيا، إلى غاية الالتحاق بالثورة.

هل هم من اختار الاندماج في وحدات الحدود أم هو توجيه قيادات الثورة؟

الأمر كان محسوبا ومحسوما بدقة من طرفهم، لأنه يتعلق بالتفكير في السلطة مستقبلا، وهذا ما تفطن له بومدين بذكاء واستعمله فيما بعد لصالحه، أدركوا من البداية أنهم لن يكونوا شيئا من دون العقيد بومدين، وهذا الأخير فهم أنه بدونهم لا يمكن أن يستقرّ بين يديه الحكم.

عفوا، لماذا تتهم قائد الأركان؟ ألم تكن نيته توظيف كفاءاتهم الفنيّة والعسكرية لتنظيم الجيش وخدمة الثورة؟

هذا ليس صحيحا، كان بمقدوره أن يخدم الثورة بأبناء الشعب في الداخل، الذين كانوا بمئات الآلاف مستعدين للتجند والعمل الثوري المسلح، لقد صوّب العقيد بومدين بصره نحو سلطة الاستقلال، لأنه عايش الثورة المصرية حينما كان طالبا في الأزهر بداية الخمسينيات، وبعدها عاصر استقلال تونس والمغرب، فكان هواري بومدين يدرك تماما أنه يستحيل عليه استلام الحكم من ضباط جيش التحرير وقيادة الولايات التاريخية ورموز الثورة والحركة الوطنية، فوضع هؤلاء (ضباط فرنسا) إلى جانبه، وأشعرهم بالحماية العليا، والتاريخ يسجل مقولته الشهيرة في مؤتمر الأفلان عام 1964، حينما ظلت القاعة تهتف وتدوي تحت شعار “التطهير التطهير لجيش التحرير”، فردّ عليهم وزير الدفاع بومدين قائلا: “مَن الطاهرُ ابن الطاهر الذي يريد أن يطهِّر الجيش؟”، بل أضيف لك قصة حقيقية، وهي أن بومدين لمّا بلغه نشوب الصراع بين ضباط الجيش الوطني مع نظرائهم من ضباط فرنسا، وعلم أن هؤلاء يعيّرونهم بذلك، استدعى وزيرُ الدفاع تلك المجموعة من ضباط جيش التحرير وقال لهم بالحرف الواحد: “من الآن فصاعدا لو يتكلم أحدكم بسوء في حقهم، سأضع حجرة في فمه”، هذه حقيقة ثابتة يعرفها الجميع، لذلك وقف هؤلاء (الضباط الفرنسيون) مع حاميهم الذي صنعهم، وخدموه بإخلاص طيلة وجوده في الحكم.

عندما يقول بومدين: “من الطاهر ابن الطاهر الذي يريد أن يطهر الجيش؟”، هل كان بذلك يتهم الجميع؟

طبعا لا… رسالته كانت محددة وموجهة لأهلها، لم يقصد أبدا عامة الجنود والمناضلين الذين هتفوا وصفقوا، بل هي مصوّبة لمن يعتقد بومدين أنهم ألّبوا وحرَّكوا ضده قاعة المؤتمر، قد يكون منهم أحمد بن بلة والعقيد شعباني وعبد الحفيظ بوصوف ولخضر بن طوبال وكريم بلقاسم وغيرهم ممن كانت لهم صراعاتٌ وخلافات مع وزير الدفاع وقتها.

أفهم من كلامك في المحصلة، أن تحالف بومدين مع ضباط فرنسا كان تكتيكيا للاستيلاء على الحكم وليس قناعة بهم أو ولاء لأيديولوجيتهم حتى لا نظلم الرجل؟

بكل تأكيد.. بومدين لا يلتقي مع هؤلاء في شيء، لكنه استقوى بهم ضد خصومه فقط، لهذا حافظ على وجودهم في مؤسسة الجيش دون أن يمنحهم أي مناصب نوعية إلى غاية 11/12/1967 بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التي قادها العقيد الطاهر زبيري، إذ سيغير الرئيس هواري بومدين من منهجيته، حيث يصبح تموقع “ضباط فرنسا” واضحا بعدما ظلّ محتشما لسنوات، وتبدأ بالتوازي، عملية التصفية ضد ضباط جيش التحرير الوطني، لأنه فقد الثقة في هؤلاء، وصار يخشى من الإطاحة به مجددا، لم تكن له عداواتٌ مبدئية معهم، غير أن نفوذهم لم يكن ينسجم مع طموحاته في السلطة، فقدَّم عليهم ضباط النخبة الفرنسية في إسناد مواقع المسؤولية، مستغلاّ نقطة ضعفهم وعقدتهم التاريخية تجاه الثورة.

وعليه بعد انقلاب 1967، انطلق التطهير العكسي الآن، ولم يُبق بومدين من ضباط جيش التحرير في مراكز النفوذ سوى 3 مجاهدين، كانوا قد امتثلوا للمحاكمة التي ترأسها بومدين شخصيا في تونس إثر الاجتماع الشهير للعقداء التسعة، وهم أحمد دراية وبلهوشات والشريف مساعدية، وتعمد اختيارهم دون سواهم، لأنهم يدينون له بفضل التخليص من الإعدام المحتوم من جهة، ولأنهم من جهة أخرى، لا يتفاهمون فيما بينهم أبدا، وبالتالي يستحيل أن يتآمروا ضده.

وبالتالي ليس صحيحا ما يُتداول حول بروز ضباط فرنسا في الحكم على عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد رحمه الله؟

لا، لا…في عهد الرئيس الشاذلي طفا نفوذهم على السطح الخارجي، أما وجودهم الفعلي فقد سبق ذلك منذ عام 1967.

هؤلاء وأبنائهم في مفاصل الدولة، إلى أي مدى ترى أن هذه الأقاويل موضوعية، أليس هناك مبالغة مفتعلة بهذا الخصوص لحسابات متعددة؟

من دون شك هناك مبالغات ناجمة عن الحساسيات التاريخية من جهة والحسابات السياسوية أحيانا من جهة أخرى، فيما يخص “الحركى” بالمفهوم التاريخي الدقيق (أي المسلحون المهيكلون سابقا في صفوف العدو)، لا أعتقد مطلقا أنه يوجد بينهم من وصل إلى مواقع مسؤولية عليا في الجزائر، أو أن البلاد شهدت انتشار هؤلاء في دواليب الدولة، لكن هناك الفئة الثانية، وهم الذين خذلوا الثورة وتعاونوا مع فرنسا عبر الإدارة، فهؤلاء تمكنوا فعلا من التموقع وأخذ المسؤوليات، لأنهم واصلوا مهامهم الإدارية بعد خروج الاستعمار حتى بلغوا غاياتهم المطلوبة، أعطيك مثلاً قد يستغربه البعض يتعلق بابن عم الشهيد البطل العربي بن مهيدي، فقد كان رئيسا لدائرة خراطة في عزّ الثورة أي عام 1959، ما يعني أنه كان مقتنعا بسلطة الاستعمار، ومع انطلاق المفاوضات بين الأفلان وحكومة ديغول، أخذ الطائرة عبر باريس والتحق بالثورة في تونس، ليُحدث ضجة إعلامية بحكم قرابته العائلية مع الزعيم العربي بن مهيدي، ثم يصبح بعد الاستقلال رئيس ديوان لدى العقيد محمد بن أحمد عبد الغني في وزارة الداخلية.

على العموم، هذه الفئة العريضة اغتنمت الفرصة بسبب نقص المتعلمين في العقود الأولى للاستقلال، فتوغلت في المواقع الإدارية واخترقت حتى صفوف الجهاز (الأفلان) فيما بعد، لاسيما بعد تمييع الجبهة- الرمز عقب مؤتمر 1964.

هل تعمّد بومدين ذلك حتى يهمّش الحزب ويضعف نفوذه في الحكم؟

هذه القراءة صحيحة نسبيّا، لكن في الحقيقة الأحداث والواقع الموروث أيضا لعبا دورا حاسما في القضية.

طيب، قبل أن نغلق هذا الملف الشائك، وبعد نصف قرن من الاستقلال، هل ترى أن قضية الحركى ما زالت إشكالية واقعية في الجزائر، أم أنها طوت هذه الصفحة نهائيا؟

أعتقد أنه صار في مقدورنا أن نطوي هذه الصفحة اليوم من دون أن نمزقها، لكن البعض حاول أن يمحوها في وقت مبكر، وهذا ليس جديدا في مسار التاريخ القديم والحديث، إذ أن كل ثورة عظيمة ناجحة تركت بصماتها، إلا وجوبهت بثورة مضادة لتزييف الحقائق والوقائع، حتى لا تحتفظ برمزيتها كنموذج للآخرين، يستلهمون منها روح الكفاح والمقاومة، حدث هذا حتى مع ثورة الرسول الأعظم سيدنا محمد (ص)، حينما اندلعت أحداث الفتنة الكبرى.

عفوا.. هل تعتبر الخطاب الترويجي في هذه القضية، مزايدة سياسوية تلعب ورقة التاريخ في حسابات خاصة؟

صحيح لا أنكر ذلك، لأن جيل الحركى ربما انقرض بيولوجيا.

لكن ماذا عن الجيل الثاني والثالث من الحركى، ما المقاربة المثلى للتعامل مع هؤلاء، علما أنهم يتمايزون من حيث الانتماء والهوية والعلاقة بالماضي؟

أعتقد أن فرنسا هي التي تمارس الضغط في هذا الاتجاه، لكن للأسف الجزائر لم تقدم شيئا للجالية بشكل عام، فالإشكالية لا تتعلق فقط بمقاربة الحركى، بل بالسياسة الخارجية ككل، فهي قاصرة في ميدان التكفل واستقطاب الإطارات الجزائرية، وبالتالي لا يمكن الحديث في هذه النقطة بمعزل عن أداء الدبلوماسية في عمومها.

يعني من حيث المبدأ، أنت مع السماح لهؤلاء بالاندماج في الوطن، طبعا أقصد البُرآء من الفكر الحركي؟

ولما لا إذا كان ذلك في إطار إستراتيجية متكاملة وبرنامج شامل لاستيعاب الجالية، لأنه من غير مقبول أن نبقى قرنا من الزمن تحت تخدير الانفعالات العاطفية نرمي الجميع بتهمة الانتساب للحركى، دون أن نأخذ معطيات الواقع بعين الاعتبار.

ختاما، هل تعتقد أن قضية الحركى ما تزال ورقة ضغط وابتزاز لدى الطرف الفرنسي ضد الدولة الجزائرية؟

ما زالت ورقة وستبقى كذلك، وقد وفروا في سبيل ذلك جمعيات ومؤسسات ومنابر إعلامية وكتاب ونشطاء مدنيين للتحسيس بهذه القضية وتوريثها للأجيال، في المقابل لا نملك نحن شيئا وتركنا المبادرة للفرنسيين، وقد لاحظنا قبل سنتين حينما شارك علي هارون في نقاش عام بفرنسا حول الملف، أحضروا له فتاة ابنة حركي لا يتعدى عمرها 20 سنة لتجادل مجاهد ووزير وحقوقي في الثمانين من عمره، لتتحداه أمام الملايين على شاشة التلفزة، في حين رفض المؤرخ الكبير محمد حربي تلبية دعوتهم لأنه يعرف جيدا الواقع هناك.

وبالتالي فرنسا تسعى إلى توريث الفكر الحركي لدى الأجيال الجديدة من أبنائهم، وتحاول بكل وسعها غرس فكرة “المظلومية التاريخية” في نفوس الناشئة من خلال روايات القتل والتصفية والملاحقات التي تعرض لها آباؤهم وأجدادهم.

http://www.echoroukonline.com/ara/articles/188460.html

كلمات مفتاحية

3 تعليقاً

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق