تاريخ مقالات

الدروب الملغمة لتاريخ الثورة الجزائرية | مليكة القورصو

هناك رسالتان محل نقاش، وإن كان ذلك وفق اتجاه واحد، والذي أثاره المجاهد العقيد بالمنطقة المستقلة للجزائر، السيد ياسف سعدي، بحوزتي منذ سنة 2010، وبالتالي فتلك الرسالتين لا تعتبران بالنسبة إليّ بمثابة اكتشاف. وتطرح هاتان الرسالتان، مشاكل فعلية فيما يتعلق بالتعامل الحالي والمستقبلي مع كل الوثائق الأرشيفية، بالأخص تلك القادمة من المكتبين الثاني والخامس التابعين للجيش الفرنسي بين 1954 و 1962.

إن نظرة المؤرخ ليست هي نفس نظرة السياسي ولا الصحفي. فالإثارة لا تدوم سوى بعض الوقت، لكن نتائجها تعتبر كارثية، بالأخص بالنسبة لطلبة التاريخ والباحثين الشباب. إن الانسياق وراء كل ما هو مثير،يمكن تفسيره وفق عدة أسباب. يوجد أولا التلاعب المزعج لأغراض حزبية، لتاريخ الجزائر بصفة عامة، وتاريخ الحركة الوطنية، هو الأكثر عرضة للتلاعب، إلى جانب تاريخ الثورة الجزائرية. يوجد كذلك، الصعوبات والعوائق التي تحول دون الحصول على المعلومة التاريخية. وهذا ما جعل الأرشيف الموجود فيما وراء البحار يحظى بالانبهار لدى الجزائريين. لأن طلبتنا وباحثينا يصطدمون بأبواب موصدة في بلدانهم، فهذا الأرشيف الفرنسي يحظى حسب اعتقادهم بالمصداقية التي تدفعهم إلى التوجه (في حالة تمكنهم من ذلك) نحو مركز أرشيف ما وراء البحار، الموجود في “أكس أونبروفانس”، وأرشيف المركز التاريخي للقوات البرية الفرنسية بقصر “فانسنس”، دون أخذ الوقت الكافي، ولا التحلي بالحذر، وإخضاع هذا الأرشيف للنقد التاريخي.

عمل المؤرخ

في هذه الحالة، الرسالتان محل النقاش تثيران الشك حول مسار الثورة الجزائرية، وبالأخص حول هذه المرحلة الفظيعة التي تسمى بفخامة “معركة الجزائر”.

يوجد المؤرخ نفسه في وضعية الناقد، الذي لا يعتمد على مصدر واحد، بل على المطابقة بين عدة مصادر. وهذا الشك الدائم، هو الذي يصنع تميز مادة التاريخ. ليس للمؤرخ مهمة إيجاد خطاب مثير، ولا توجيه اتهامات، بل تحليل الوثيقة استنادا إلى عدد من الثوابت الأساسية التي تأخذ بعين الاعتبار اللحظة الآنية، والوضعية التي صنعت من خلالها، والحالة الجسدية والنفسية للشخص الذي يزعم أنه أمضى على الوثيقة. وعليه، يجب على المؤرخ أن يتساءل عن صحة المصادر الموضوعة أمامه، والتأكد من صحة المعلومات التي تتضمنها. على المؤرخين عدم نسيان أن الوثيقة الواحدة تعد غير كافية لتحديد “الحقيقة”. وهذه الوثيقة الواحدة، لا تعتبر سوى نقطة انطلاق أي عمل تاريخي يتطلب إجراء تقاطع مستمر بين مختلف المصادر (المكتوبة، الشفوية، السمعية البصرية، الصحافة …إلخ) باختصار، يجب أن يتحلى المؤرخ بمعرفة كيف يستنطق الوثيقة. الأرشيف مهما كانت طبيعته له تأثير مزدوج حسب من يستعملها.

لا يجب على المؤرخ القيام بقراءة حزبية وذاتية للأرشيف، وعليه أن يتجنب الانغماس في الحقل السياسي الذي يعد حقلا غريبا عنه. كما أن المؤرخ لا يمكن أن يكون قاضيا. هذه ليست وظيفته. مهمة المؤرخ تتمثل في محاولة الفهم ومساءلة وتفسير وتحليل الأحداث. لكل هذه الأسباب، على المؤرخ أن يتحلى بالصبر والتسرع يضر به، ويؤدي به إلى قدر مشؤوم.

الرسالتان الموجهتان لحسيبة بن بوعلي

في إطار بحث أقوم به منذ سنوات عديدة حول المرأة الجزائرية في الثورة، وجدت نفسي أطلع على بعض الوثائق المحفوظة في المركز التاريخي للجيش البري الفرنسي (شات) الذي كان خاضعا آنذاك لترخيص وتلك الوثائق كانت مصدر “تسونامي” على مستوى الذاكرة الذي أثاره المجاهد والعقيد ياسف سعدي الأسبوع الفارط حينما اتهم المجاهدة زهرة ظريف بـ “الخيانة”. تفحصت عدة علب (دون التوقف عن التفاصيل): العلبة 1H1245 التي تضم عدة ملفات منها1H1245/d1 الخاصة بـ “الشبكة الخاصة” القنابل”، أو الملف 1H1245/d3 المتعلق بمحاضر الاستماع لياسف سعدي، في نفس العلبة دائما: ملف رقم n2/20 حول علي لابوانت، والرسالة الجميلة والمؤثرة التي أرسلتها حسيبة بن بوعلي لوالديها”، العلب 1H1652 إلى غاية 656 1H1 تتعلق “باستنطاق المساجين”، العلب 1H2046/D1 و 1H2460 1H2462تتعلق بـ“العمل النفسي تجاه النساء”، …الخ.

الرسالتان الموجهتان لحسيبة موجودتين في علبة ضخمة 1H1612 تضم عدة ملفات، الملف 1H1612-1 الموجود تحت تسمية “توقيف ياسف سعدي: الوثائق المتحصل عليها في مخبئ ياسف سعدي أثناء إلقاء القبض عليه”، وفي أحد الملفات “أعمال بسيكولوجية”، تظهر وثائق مرتبطة خطة التنظيم النسوي الذي كان كل من ياسف سعدي وزهرة ظريف يستعدان لوضعه قبل إلقاء القبض عليهما، وكذا رسالتان موجهتان لحسيبة بن بوعلي تحمل إمضاء “أختك زهرة”.

في مختلف هذه العلب نعثر على رسائل المكتب الخامس للعمل البسيكولوجي (على سبيل المثال نداء حاج بن علا المدعو بوزيد المؤرخ في 16نوفمبر 1956….) تقارير، ملاحظات سرية، أرشف جبهة وجيش التحرير الوطني التي تم مصادرتها، أغلبها غير خاضع لعملية الجرد والتصنيف، وتوجد تحت اسم “وثائق تم الحصول عليها لدى المتمردين”..الخ

هاتان الرسالتان اللتان تتكونان من ورقتين بالنسبة لكل واحدة، تبرز في أعلى كل واحدة الإشارات التالية، في ثلاثة أسطر بخط مكتوب بالآلة الراقنة.

السطر الأول، عند أقصى اليمين: “قطاع الجزائر ساحل” وعند أقصى اليسار:D.O. P/ZNA “، مع كتابة عند الوسط بخط غليظ وكأنها أرقام خاتم ذو تاريخ، الأرقام 2923 و 2924 بالنسبة للرسالة الأولى والثانية. تعتبر هذه الأرقام هويات تعطى لكل وثيقة أرشيف المركز التاريخي للجيش البري الفرنسي (شات).

السطر الثاني: وثائق متعلقة بنشاط عمار علي، المدعو “علي لابوانت”.

السطر الثالث: “بين 24 سبتمبر 57 (توقيف ياسف سعدي)”.

من المؤكد أن نسخا من الرسائل التي تكون قد أرسلت لحسيبة، التي كان ينتظر منها أن تسلّم نفسها، لا يمكن أن تحمل في أعلى الصفحة إشارة “قطاع الجزائر ساحل”، D.O. P/ZNA “. في المقابل لا يوجد أي اشارة تعلمنا بتواريخ تحريرها. حسب محمد حربي وجيلبير مينيي، فمن المحتمل أن تكون قد حررت خلال منتصف سبتمبر1957. تم إلقاء القبض على زهرة ظريف يوم 25سبتمبر 1957، بين الثالثة والرابعة صباحا. وتؤكد في مذكراتها: “لم أكتب أبدا هذه الرسائل لحسيبة. في منتصف سبتمبر، وإلى غاية إلقاء القبض عليّ يوم 25سبتمبر 1957، كنت أعيش مع حسيبة. فلماذا أكتب لها؟”

الرسالتان المكتوبتان بخط اليد، تبدآن مثل كل الرسائل المرسلة لأحد المقربين بـ“عزيزتي حسيبة”. وهما متمركزتان عند وسط الخط، متبوعتان بأرقام مسجلة 7 و8 بالنسبة لكلتيهما. هذان الرقمان المحصوران ضمن دائرة تتجه من اليمين الى اليسار، أي في اتجاه عقارب الساعة، هي حتما أرقام متعلقة بهوية المركز التاريخي للجيش البري الفرنسي (شات).

كتبت الرسالة الأولى بخط رقيق، مهوى ومثابر. أما الثانية فخطها مختلف، فهو مضغوط أكثر وأكثر طولا وتحتوي على كثير من الشطب. تركز المحتوى حول أربعة أفكار على شكل رسائل موجهة مباشرة وحصريا لحسيبة. تريد كاتبة الرسالة “منع (حسيبة) وعمر من الموت بغباء”. وبغية تحقيق ذلك تطلب منها إن كانت “تريد…التوجه للكلام مع شخص معين”، مع ضمان لها أنه “بإمكانها أن تغادر دون أن تخشى من أن يلقى عليها القبض أو تكون محل متابعة”. ومن أجل مصداقية أكثر، تشير الكاتبة المزعومة أن “الوعود موجودة”. الرسالة الثانية المبنية على نفس النموذج وبنفس الجمل المفاتيح على غرار الرسالة السابقة، تعد أكثر خطورة. الشيء الذي تغير، هو النبرة، والنهاية المعلن عنها بالنسبة للجماعة الصغيرة: “أنت رفقة علي، وفي حالة حدوث عراك، سوف تنفجرون جميعا، عمر وعلي”، المطالب “بالتعقل” (الصفحة الثانية الرسالة رقم 8) كاتبة الرسالة المزعومة، تلح، وفي نداء أخير، على إعلام حسيبة بأنها لم يتم “اللعب” بها، وأنه يجب أن تقبل “بالتفاوض” حتى “لا تموت بغباء”.

هذا هو محتوى الرسالتين اللتين أخذهما ياسف سعدي من كتاب حربي – مينيي، واللتين أشهرهما كدليل قاطع عن “خيانة” زهرة ظريف التي مكنت بالتالي الجنرال ماسو من تحديد مخبئ علي لابوانت عقب التعذيب الذي تعرض له كل من غاندريش المدعو زروق، المدعو صافي وكمال.

المؤرخ المحترف يجب أن يتحلى بالموضوعية والحياد. التسرع والتعاطف، وتغييب وتضخيم الأحداث لا تخدم التاريخ ولا المؤرخ. هل يمكن اعتبار السيدة زهرة ظريف – بيطاط، هي من كتب هاتين الرسالتين؟ عدم طرح هذا السؤال، يعني الإخفاق في أداء “مهنة المؤرخ”. كما يعد تخل عن المبادئ التي أشرنا اليها سالفا، والتي من الضروري أن نذكر بها طالما أن الموضوع حساس “قطاع الجزائر ساحل” D.O. P/ZNA . يضاف لها جملة مفتاح تبدأ بها الرسالة الأولى: “انتهت اللعبة” (نحن من يسطر) تشير هذه الجملة إلى الحالة النفسية لكاتبة الرسالة المزعومة، وتلك التي تقف وراءها. يوجد بالأخص، السياق العام، الذي ساد قبل وبعد إلقاء القبض على ظريف – سعدي. إضراب الثمانية أيام المحطم، في الجزائر العاصمة التي أصبحت عرضة لمضليي العقداء بيجار، غودار، ترانكيي وجان بيار، والأفواج الدموية للرائد “أو”(اختزال صوتي للرائد أوساريس). تم إلقاء القبض على خمسة عشر ألف مشتبه فيه خلال الليلة بين 14 و 15 جانفي1957. واضطرت لجنة التنسيق والتنفيذ لمغادرة الداخل إلى الخارج. تم اغتيال ببرودة كل من العربي بن مهيدي، موريس أودان، والمحامي علي بومنجل في برباروس، كان الإعدام يجري بشكل مستمر.. كل هذا نال من إرادة رجال ونساء القصبة، ولو لوقت قصير، بعد أن أرهبتهم الزيارات الليلية للمضليين و”الزرق” من هؤلاء “البياعين” وعلى رأسهم “غاندريش”، المدعو زروق، المدعو صافي بعد أن تلاعب به ضابط استعلامات بيجار، النقيب ليجيي، صاحب الذكاء الخارق في مجال التلاعب. بعد أن ألقي القبض على ياسف سعدي، لم يبق للجنرال ماسو وعقدائه إلا المربع الأخير للمناضلين الفاعلين الذين يمثلهم علي لابوانت. وقصد إخراجه من مخبئه بعد تحديده من قبل عناصر “الزرق” التابعين للنقيب شعبان، أصبح يوجد حل واحد: تفجير المنزل بما أن المضليين يعلمون جيدا أن علي لابوانت لن يسلّم نفسه. لكن كيف يمكن إنقاذ حسيبة (ثمانية عشر سنة) وعمر الصغير (إثنتا عشرة سنة) من هذا الموت المؤكد.

النجاعة الفظيعة للمصالح البسيكولوجية التابعة للجيش الفرنسي

لا يجب على المؤرخ أن يعتمد على الارشيف العسكري الفرنسي، بالأخص ذلك الأرشيف الذي فبركته مصالح “العمل البسيكولوجي”، خاصة إذا كان يدرك النجاعة الفظيعة التي كان يتحلى بها “الرزق” الذين صنعهم المكتب الثاني، الذي تمكن من جعل الولاية الثالثة تنقلب نحو الفظاعة، طالما كانت رسائل العقيد غودار ونائبه النقيب ليجيي المزيفة تبدو صحيحة بالنسبة للعقيد عميروش. في المقابل، البحث عن الحقيقة لا يجب أن تخضع لتأثيرات الأشخاص.

الرسائل محل نقاش تفترض ثلاث فرضيات على الأقل. الفرضية الأولى: هاتان الرسالتان كتبتهما الكاتبة المزعومة بمحض إرادتها لإنقاذ “أخت” من موت مبرمج. وهي الفرضية التي لا تقاوم التحليل لأن التضحية السامية تعتبر جزء من الالتزام الثوري، ثم أن حسيبة كانت محل متابعة منذ مدة، وكانت تدرك جيدا مصيرها في حالة إلقاء القبض عليها، وفي الأخير، كانت زهرة ظريف تعرف جيدا عزم حسيبة، العزم الذي تتقاسمه مع علي لابوانت. الفرضية الثانية: هاتان الرسالتان أملاهما طرف ثالث، عقيد أو نقيب، وكتبتا تحت الضغط. فالتأثير والتعذيب البسيكولوجي له تأثيرات مدمّرة أكثر من التعذيب بالكهرباء. الفرضية الثالثة: هاتان الرسالتان كتبهما طرف ثالث قام بتقليد إمضاء “زهرة”. ومن هذه الفرضيات الثلاث، تتمثل الرسالة التي تبدو لي أقرب إلى الظرف التاريخي، وبالتالي الأكثر احتمالا للحقيقة، في الفرضية الثالثة. إن تعابير مثل “انتهت اللعبة”، “أريد أن أنقذكما أنت وعمر من الموت بغباء”، “أنت تعرفينني بما يكفي، لكي تدركي أنني تصرفت وفق هذا التصرف، فإني فعلت ذلك لعدة أسباب”، “أنت رفقة علي، وفي حالة حدوث عراك، سوف تنفجرون جميعا، عمر وعلي”، “أنت لم تخون أي أحد، وأنا شخصيا لا أخون أيا كان، أقسم لك بذلك”. “أنت من يجب عليه اتخاذ القرار”، عبارة عن نسخ مطابقة للمناشير التي كانت تنزل من السماء كأنها حبات من الثلج في عز الصيف على المدن والقرى خلال الثورة، إضافة إلى وجود أخطاء نحوية لا يمكن لطالبة في السنة الثانية حقوق أن ترتكبها.

إن الرسالتين اللتين تم إسنادهما لزهرة ظريف، تعتبران منتوجا بشكل مباشر أو غير مباشر، جزئيا أو كليا مصالح الجيش الفرنسي التي كانت تحاصر القصبة، والحالة هذه نجد أن مصلحة “العمل البسيكولوجي”، مرتبطة بالعمل البسيكولوجي، كجزء مكمل لعمل الجيش بواسطة السلاح والمدافع والمدرعات والنبالم ..الخ. وبوضعهما خارج سياقهما، هاتان الرسالتان موضوع الاتهامات، تفتح ثغرة مخربة في متاهة الثورة الجزائرية، القالب المؤسس لجزائر اليوم والغد.

سيتم اكتشاف رسائل أخرى من هذا النوع وعلى المؤرخين والباحثين الشباب ورجال الإعلام، وعلى الذين يريدون أن يعرفوا أكثر عن الثورة الجزائرية، أن يتحلوا بالحذر وبالروح النقدية وبالذكاء خاصة. ليس كل شيء عبارة عن تاريخ. القصص الرخيصة موجودة دائما.

أستاذة التاريخ بجامعة الجزائر2 بوزريعة
04-02-2014
http://www.elkhabar.com/ar/autres/mousahamat/384113.html

كلمات مفتاحية

شارك بالتعليق

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق