مقالات

النخب السياسية في الجزائر بين مداهنة السلطة وتغيير المواقف والمواقع !!

مداهنة السلطة في الجزائر أو تغيير المواقف والمواقع وحتى المبادئ من قبل النخب السياسية والجامعية وجمعيات المجتمع المدني أصبحت هي السمة البارزة في تحركات هؤلاء ومعاملاتهم. فلماذا وصلنا إلى هذا المستوى المتدني من الممارسة، وإلى أي مدى سيساهم ذلك في استمرار حالة الانغلاق السياسي في البلاد؟ وكيف بإمكاننا تجاوز هذا الوضع الخطير وإذابة الجليد المتراكم في طريق الممارسة السياسية الحرة والنزيهة؟

لست بصدد اتهام أحد أو التهجم عليه، هذا ليس من ديني؛ فيجب أن نترفع عن الصغائر ونتعفف من اتخاذ أبواب وصفحات الجرائد والمواقع ساحة لتبادل الاتهامات الجزافية التي لا تسمن ولا تغني من جوع؛ وبعيدا عن هذه الصغائر فإن مداهنة السلطة، وفي أحسن الحالات تغيير المواقف والمواقع بين عشية وضحاها، أصبحت ظاهرة تطبع كثيرا من سلوكيات المسؤولين السياسيين والعسكريين والمدنيين وحتى التيقنوقراط عندنا؛ ولذلك فإن التطرق إليها وتحليل مخاطرها وإماطة اللثام عنها أعتقد أنها قد أصبحت حتمية لمعرفة وتحليل أهم الأسباب التي ساهمت في خلق الأزمة الاصطناعية التي تعيشها البلاد وساعدت على استمرارها، خاصة وأن هذا السلوك غير السوي أصبح معلوما لدى العام والخاص، وهو عنوان كبير يرفعه كل من أراد تحقيق مأرب سلطوي أو مهني، سواء من قِبل كبار رجال السياسة والضباط السامين، أو حتى من قِبل الإطارات المتوسطة في مختلف المؤسسات الإدارية والمدنية في البلاد.
أتحدث هنا عن كبار رجال السياسة المدنيين، الذين في جلساتهم الخاصة، وعند استعراض أوضاع البلد، يحمّلون المسؤولية بالدرجة الأولى لرموز القيادة العسكرية والأمنية، بل ويتجرأون على اتهام كبار ضباطها وقياداتها بالفساد والإفساد، ويذهبون إلى أبعد من ذلك بوصفهم بما لا يمكن ذكره.
شخصيا سمعت من كبار المسؤولين السياسيين في الإذاعات والقنوات التلفزيونية، وقرأت ما قالوه وكتبوه أحيانا، كلاما يمكن وصفه من دون مبالغة باتهام هؤلاء الأشخاص بالإجرام، مؤكدين في عدة مناسبات أنهم يقتلون ويعذبون ويفعلون الأفاعيل التي لا تمر بخيال عاقل– خاصة خلال مرحلة التسعينيات-، حين يقوم مسؤولون بنشر صورة كهذه بين الناس حول أشخاص آخرين ينتمون إلى مؤسسة يفترض أنها قائمة على أساس ضمان أمن المواطن وصون كرامته الإنسانية، سواء كانت هذه الصورة حقيقية أو فيها مبالغة؛ فماذا بقي من ثقة لدى المواطنين في دولتهم ومؤسساتها؟ لو كان مصدرها رجل معارضة أو ممن خرجوا من مؤسسة الحكم ربما قد تفهم دوافعه! هذا الاتهام ما لم يقم على دليل قطعي مرفوض من المعارضة، فضلا عن شركاء في الحكم وإدارة شؤون البلد؛ لكن ولأنني رجل متواضع القدرات العقلية حسبت أن هذه الصورة يشهرها رساموها لتبييض صورتهم الملوثة لأنهم شركاء في نظام أفسد الزرع والحرث، بيد أن الأمر يتجاوز ذلك، فحين نحاججهم بالسؤال: لمَ لا تسعون إذن للإصلاح والتغيير؟ بادروا بالرد فورا: وهل تريدوننا أن نقتل أو نسجن؟ لا يا أخي سلامتك، وليذهب الوطن إلى الجحيم؛ والملاحظ بأم العين هنا، سواء صحت الصورة التي ينشرونها أم لا، فإنهم حين يلتقون بأفراد الجيش والأمن يظهرون لهم كل الولاء والاحترام والإجلال، حتى يخيل إليك أنك أصبت بلوثة عقلية اختلطت فيها الصور مع الكلام، فوضى لا تكاد تميز أطرافها. وما التصريحات التي أدلى بها أمين عام الأفالان– عمار سعيداني- حول الجنرال توفيق إلا أحسن مثال على ذلك.
هذا السلوك لا يختلف كثيرا لدى بعض كبار ضباط الجيش والأمن، هم كذلك من ناحيتهم ينظرون إلى كبار الساسة المدنيين بالعين ذاتها؛ إن الساسة والإداريين عندهم فاسدون ومفسدون، بل ويتهمونهم بارتكاب جميع الجرائم من فساد ورشوة ونهب، ومتوقع أنك حينما تكلم أحدهم أو بعضهم مثلا سيعرضون بين يديك أمثلة حية تراها بعينيك، ويمكن أن يسمعوك الآتي: هذا من أتباع الفيلسوف مالك بن نبي– يقصدون نور الدين بوكروح- أو هكذا يقدم نفسه، يحسب أنه من رموز الطبقة المثقفة في الجزائر الذين ولجوا عالم الحياة السياسية من باب تأسيس حزب ووصل الأمر به حتى كان مرشحا لمنصب رئيس الجمهورية، كثيرا ما دكّ المؤسسة العسكرية بمقالات قوية وعنيفة في مختلف الصحف لا سيما تلك الناطقة بالفرنسية، ولكنه لمجرد أن عرض عليه منصب وزير ماذا فعل، ولى ظهره لمبادئه وأقبل على متع الحياة، وتخلى عن حزبه الذي أنهكته الانقسامات، ولولا المرض الذي أجبره على التخلي عن منصبه ثم إبعاده من الحكومة لرأيناه ربما يقود حملة انتخابية لصالح السلطة ورموزها وليذهب الشعب إلى الهاوية، ولكنه تحوّل في المدة الأخيرة وبقدرة قادر إلى أكبر مناهضي العهدة الرابعة.. وهذه زعيمة سياسية ومعارضة سابقة من التيار اليساري التروتسكي الراديكالي كثيرا ما شنفت آذاننا بخطاباتها الرنانة وصوتها الجهور في دفاعها المصطنع حول مصالح العمال، ولكنها سرعان ما تحوّلت إلى عراب كبير في ساحة الرئيس بوتفليقة مدافعة حتى الممات عن سياسته، بالرغم من النتائج الكارثية التي وصلنا إليها بفعل هذه السياسة الفاشلة، بل ولدينا مثال آخر من صفوف ورموز التيار الإسلامي، إمام وخطيب جمعة وأستاذ جامعي (كان رئيس حزب إسلامي معتمد يدّعي الوسطية) لطالما هاجم المؤسسة العسكرية ومنظومة الحكم بأكملها، سواء بقلمه أو من على منابر المساجد، وكان يتهم المسؤولين العسكريين والمدنيين بسوء التسيير وفساد الأخلاق، دعي لمنصب وزير دولة دون حقيبة أي أنه كان ولا يزال يأخذ مرتبا بعد مرتب رئيس الجمهورية والوزير الأول، أي أن مرتبه هو من بين المرتبات العشرة الأعلى في الوطن، ولولا الرياح التي عصفت بحزبه لما تخلى عن هذا المنصب الهلامي الذي لا يقدّم فيه شيئا لأمته.
انظر بأم عينيك ما قيل وما كتب عنه من قبل رفقائه في النضال والعمل الإسلامي، ألا تجسد تهتك الأخلاق وتنسف القيم الإنسانية فضلا عن الدينية، واستبدل مبادئه بأخرى تقوم على ”أنا ومن بعدي الطوفان”، أما عن تبديد المال العام فحدث ولا حرج، وها هو يتحول مع حزبه إلى معارض شرس لأنه كان يرى أن الربيع الجزائري سيحمله إلى أعلى هرم السلطة كما حمل زملاءه وإخوانه في تونس وتركيا، ولكن شتان بين هؤلاء وهؤلاء، وغير بعيد عن أبو جرة سلطاني؛ وعن أمثاله ممن يدّعون الدفاع عن حقوق المواطن في الصحف والمواقع الإلكترونية.
والأمثلة لا تعد ولا تحصى، إذ يمكن تعداد عشرات الأمثلة من جميع الأصناف ومن كل التيارات والأطياف السياسية على اختلاف ألوانها، ولذلك فإن أي ضابط أو عسكري يواجهك بمثل هذه الحقائق الدامغة التي تذهب عنهم التهمة، وبأنهم لم يفسدوا هؤلاء المسؤولين أو ممن يسمون أنفسهم النخبة السياسية أو المثقفة، بل هم دجالون وأفسدوا علينا سماع كلمة حق من أحد، ذلك أنه استقر فينا شك نحو كل من يرفعها بأنه يريد التقرب منا ومساومتنا بمنصب رفيع ليفعل الأفاعيل. والأمثلة كثيرة وكثيرة. هذا الواقع الذي صورته في هذه المقاربة المتواضعة، هو ليس وليد خيال، بل حقيقة ما يدور في أذهان المسؤولين العسكريين والسياسيين عندنا، لكن لا يجرأ أحدهم أن يواجه به الآخر، بل على العكس، ففي المجالس الخاصة والعامة يشبعون بعضهم بعبارات الإطراء والمصافحة والعناق، إلى ذلك هل استعراض مثل هذه السلوكيات يعتبر ضربا من النميمة؟ قطعا لا، لأن هذه حقيقة يعرفها الجميع، لأن كلا الطرفين يعرف جيدا ما يقال عنه من قبل الطرف الآخر وكيف ينظر إليه؛ وبالمناسبة هذه الحال لا تختلف عن بقية شركاء السلطة في العالم العربي، والقصد من هذا ليس التشويه أو اتهام أو الدفاع عن أحد، وإنما لأقول لهؤلاء جميعا لقد رسختم في الوعي المجتمعي صورة بائسة وحقيرة جعلت الشعب في حسابات المسؤولين على اختلاف موقعهم وتوجهاتهم مجرد كم مهمل في حساباته، وتلك ظاهرة خطيرة بكل المقاييس لا نعلم مدى كارثية عواقبها، ذلك أن المواطن العادي وهو الطرف المهمل في معادلة ذات مجاهيل كثيرة ومتعددة، ورغم كونه طرفا مهملا إلا أنه يحمل جميع أطراف الصراع المسؤولية الكاملة فيما آل إليه الوضع، ويراكم بداخله ازدراء هذه الأطراف المتسببة في الأزمة الخانقة التي نعيشها بالضرورة، وقد يؤدي هذا الازدراء، وهذا الوضع إلى ثورة لا تبقي ولا تذر- لا قدر اللّه-. وذلك مما قد يلحق بالبلاد إساءة كبرى إضافة إلى الإساءات والهزات التي ما زلنا نجني أشواكها إلى اليوم، وإذا كنا نقدم مثل هذه الانتقادات لهذا الوضع المتردي، فلا يعني على الإطلاق أننا ضد الجزائر ومصلحة شعبها، بل على العكس من ذلك تماما، فنحن نريد أن نكشف الداء ونتحسس مواطن الداء والخلل والأعطاب من أجل إصلاحها قبل فوات الأوان، فالانتقادات التي توجه من قبل الكتاب والمثقفين والصحفيين لشخصيات عامة، أو للسياسة المتبعة داخل مؤسسات دولة، إنما هو حفاظ على صورة الجزائر، وسعي صادق للفصل بينها وبين من يزعم تمثيلها، فالجزائر أكبر وأعظم. ومع الأسف مازالت تبحث عن رجل رشيد يخرجها مما هي عليه عن طريق هبة حقيقية، على غرار ما شهدته دول أخرى هي أقل منا بكثير من حيث الإمكانيات البشرية والمادية. ولا أظن أن رئاسيات 2014 بالتخريجات والوجوه التي قدمت لها بإمكانها تحقيق هذه الوثبة المفقودة والمنتظرة.
يزيد بوعنان كاتب سياسي
ybouanane18@yahoo.fr
http://www.elkhabar.com/ar/autres/mousahamat/398245.html

كلمات مفتاحية