سياسة

السلطة والصحافة.. المعركة الأخيرة!

الجزائر- «القدس العربي»: دخلت السلطة في الجزائر في مواجهة وصدام مع الصحافة، في معركة يعتبرها كثيرون الأخيرة، لان نتائجها قد تحسم فصولا سابقة من صراعات متكررة، حاولت فيها السلطة ترويض الصحافة، دون ان تنجح بشكل كلي، لكن كانت في كل مرة تكسب مساحات بالترغيب والترهيب، لكنها تبدو مصممة على حسم المعركة نهائيا لصالحها، في حين يشعر قسم من الصحافيين أن المعركة ستنتهي لصالحهم، لان الحرية هي التي تنتصر في النهاية.
يجب التسليم منذ البداية بأن علاقة السلطة بالصحافة لم تكن أبدا سليمة، منذ إقرار التعددية الإعلامية بداية تسعينيات القرن الماضي، خاصة وأن هذه التعددية تم اقرارها في جو من الفوضى، تماما مثلما هو الحال بالنسبة للتعددية الحزبية، حتى وإن كان الجميع شبه متفق على ان الأمر يتعلق بمكسب في الحالتين.

صراع منذ البداية

خلال تسعينيات القرن الماضي، واجهت الجزائر إرهابا أعمى استهدف من بين من أستهدف الصحافيين. أكثر من100 صحافي قتلوا على أيدي الجماعات المتطرفة، وبعضهم اختطف ولم يظهر له أثر حتى اليوم، وفي الوقت نفسه واجهت الصحف المستقلة أو الخاصة كما يسميها البعض سلطة كانت تريد ترويضها بأي ثمن، فعلقت العشرات من الصحف لأسابيع وأشهر ودفعت عناوين أخرى إلى الغلق والإفلاس، لكن رغم ذلك ظلت الصحافة تتمتع بنوع من الحرية، وظلت السلطة تستعمل بعض وسائل الضغط في حالات معينة، لكنها كانت تصل إلى حد لا تتجاوزه.
منذ بداية حكم الرئيس عبد العزيز بوتفليقة سنة 1999 توترت العلاقة بين السلطة والصحافة، فالرئيس الجديد آنذاك أراد أن يُظهر للجميع أنه سيحدث ثورة في نظام الحكم، وأنه سينقلب على الكثير من الأمور التي كانت سائدة، وحتى المكتسبات التي تحققت، وكان من الطبيعي أن يحدث الإصطدام سريعا مع الصحافة، فقد وصف الرئيس الصحافيين الذين دفعوا ثمن وقوفهم في وجه الإرهاب بـ»طيابات الحمام»وكان يقول أنه رئيس تحرير التلفزيون الحكومي الذي كان وما زال يعتبره ملكا له، لا يقبل أن يفتحه أمام من ينتقدونه.
ويذكر الجميع حادثة صحيفة «لوماتان» التي هدد وزير داخلية بوتفليقة الأسبق نور الدين يزيد زرهوني بجعلها تدفع الثمن، بعد أن نشرت تصريحات لشخص اتهم الوزير بأنه مارس عليه التعذيب لما كان مسؤولا عن جهاز الاستخبارات منذ سنوات، كما أن الصحيفة شنت حملة ضد الرئيس بوتفليقة الذي كان مترشحا لولاية ثانية سنة 2004، ولم تمر التهديدات بردا وسلاما، فقد أغلقت الصحيفة وسُجن مديرها محمد بن شيكو لسنتين بتهمة تهريب سندات خزينة. (عثر عليها في حقيبته وهو عائد إلى الجزائر، وليس وهو يهم بالسفر) وهي تهمة يعلم الجميع أنها مجرد واجهة لجرم إهانة الذات الرئاسية!
وأعقبت هذه الحادثة حملة جر الصحافيين إلى المحاكم. صحيح أن أغلبية هذه القضايا انتهت إلى لا شيء، لكن تحول الذهاب المتكرر إلى المحاكم والوقوف في كل مرة يوما كاملا إلى جانب اللصوص وأصحاب الجنح عقوبة في حد ذاتها.
ولكن لما هبت رياح الربيع العربي وبدأت نسائمها تصل إلى الجزائر أعلن الرئيس بوتفليقة عن حزمة إصلاحات بهدف استباق أي عواصف، وقرر توقيف المتابعات القضائية ضد الصحافيين، وفتح وسائل الإعلام التابعة للدولة، وأقر يوما وطنيا للصحافة الجزائرية، وظن البعض أنه الربيع بعد خريف مضطرب وشتاء عاصف، لكن دوام الحال من المحال.

الرابعة المستعصية

عندما شارف عام 2013 على الإنقضاء، بدا الضباب كثيفا على قمة السلطة، فالرئيس بوتفليقة كان مريضا منذ نيسان/ابريل 2013، وكان قد قضى أكثر من 80 يوما في مستشفى ومصحة فرنسيين، بعد إصابته بجلطة دماغية، وبدا أن ترشحه لولاية رابعة مسألة مستبعدة، خاصة وأنه هو نفسه، قال في نيسان/أبريل2012 : «جيلي طاب جنانو»ما يعني أن جيله تجاوزه الزمن، وذلك عندما كان الحاضرون في قاعة في مدينة سطيف ( 300 كيلومتر شرق العاصمة) يهتفون :»ولاية رابعة، ولاية رابعة».
ولكن الأمور على مستوى قمة السلطة كانت تضطرب والغيوم تتلبد، منذرة بعواصف وأعاصير، وبدأت مظاهرها عندما شرع في الإعلان عن سلسلة قرارات وإقالات داخل المؤسسة العسكرية، وجهاز الاستخبارات على وجه التحديد، وكان من أولى القرارات التي اتخذت قرار حل المديرية التي كانت مكلفة بتسيير ملف الصحافة. كثيرون أفرحهم القرار، لكثرة ما قيل ونسج عن هذه المديرية أو الثكنة الموجودة في حي بن عكنون وعن العقداء الذين كانوا يسيرونها، إلى درجة ضاعت فيها الحقيقة منجرة برغبة المبالغة، لكن بعضهم ندموا بعد ذلك على تلك الأيام!
وتلت هذا القرار مجموعة أخرى من القرارات قيل أن الهدف منها إضعاف جهاز المخابرات، وتبينت الصورة أكثر عندما انفجر بركان لم يتوقعه أحد، إذ هاجم عمار سعداني زعيم حزب الأغلبية (المقرب من الفريق الرئاسي ) قائد جهاز الاستخبارات الفريق محمد مدين المعروف باسم «الجنرال توفيق» متهما إياه بفبركة قضايا فساد ضد رجال الرئيس، وبأنه يقف ضد ترشح بوتفليقة لولاية رابعة. تصريحات أدخلت البلاد في حالة من الذهول والترقب، لأن ما حدث كان غير عادي وخطير للغاية. وشرع في «قطع» رؤوس كل المحسوبين على الفريق مدين داخل الجهاز وخارجه، وبدا أن الولاية الرابعة أصبحت قضية حياة أو موت!
وفي خضم الصراعات التي سبقت ورافقت عملية الولاية الرابعة أُغلقت قناة «الأطلس» بطريقة عنيفة، إذ حاصر مقرها من رجال الدرك وصادروا عتادها، كما تم توقيف صدور صحيفتي «جريدتي» و»مون جورنال» لصاحبهما الصحافي والضابط السابق هشام عبود، والذي وجد نفسه ممنوعا من مغادرة التراب الجزائري، قبل أن يتمكن من مغادرته بطريقة ستكون لها عواقب على غيره!
وانقسم البلد في خضم هذا الصراع إلى قسمين، الأول مساند لولاية رابعة، والثاني مساند (أو صنف كذلك) لكل ما هو ضد الولاية الرابعة، سواء مع جهاز الاستخبارات الذي كسب تعاطفا غير مسبوق، أو مع علي بن فليس مرشح الانتخابات الرئاسية، الذي أسال العرق البارد لجماعة الولاية الرابعة، وصلت حد أن الرئيس بوتفليقة( الذي لم يقم بحملته لأسباب صحية) وفي أواخر أيام هذه الحملة الانتخابية استقبل وزير خارجية اسبانيا، ولم يجد حرجا في أن يشكو إليه بن فليس!

مطاردة الساحرات

عندما وضعت الانتخابات أوزارها، وانتزع الفريق الرئاسي ولاية رابعة، لم تتكشف خيوط فاتورتها بعد، كان طبيعيا أن يحين وقت الحساب والعقاب، وأن تنطلق حملة اصطياد الساحرات، وكانت الصحف التي وقفت ضد الولاية الرابعة، هي أول من استهدف من خلال مطالبتها بدفع ديون المطابع، صحيح أن هذه الصحف كانت تجر وراءها ديونا بملايين الدولارات، لكن أصحابها تساءلوا لماذا يطالبون هم فقط بتسديد الديون، فيما يُسكت عن الآخرين، الذين كانوا في جوقة الولاية الرابعة، وخُنقت هذه الصحف حتى رفعت الراية البيضاء، وأغلقت أبوابها وعلقت النشر، بسبب عجزها عن دفع الديون.
هناك من اعتبر أن هذه العملية شأن داخلي، فأغلبية هذه الصحف تأسست بغرض واحد وهو التطبيل للسلطان، وكانت تستفيد من ريع الإعانات التي تغدق بها عليها السلطة، رغم ان هذه الصحف لم تكن تسحب سوى ثلاثة إلى خمسة آلاف نسخة، وبأنها ساندت كل الولايات السابقة، ولما حان وقت الرابعة، وصار السلطان سلطانين اختلطت عليها الأمور، ووقفت في الصف الخطأ ( على الأقل في الوقت الراهن) وبالتالي دفعت الثمن.
لكن الوضع زاد تعقيدا عندما بدأت صحف كبيرة وعريقة تشتكي مما سمته محاولة «اغتيالها» موجهة أصابع الإتهام لوزير الإعلام حميد قرين، الذي قالت أنه يحرض عليها الشركات المعلنة التابعة للقطاع الخاص.
وفي خضم هذه الحملة دفع صحافي ثمن صراع أكبر منه، فالصحافي عبد السميع عبد الحي ألقي عليه القبض وزُجّ به في السجن، بدعوى أنه ساعد هشام عبود على الهرب، في حين أن هذا الأخير يؤكد أنه خرج بطريقة نظامية، وللتدليل على ذلك نشر صورة عن جواز سفره، يظهر فيها ختم شرطة الحدود، لكن عبد السميع موجود في السجن دون محاكمة منذ قرابة سنة ونصف السنة، في خرق واضح للقانون.
الحلقة التالية في هذا المسلسل كانت عندما أعلن مدير شركة اتصالات أجنبية عاملة في الجزائر، وهي من أهم المعلنين، أن شركته لن تمنح الإعلانات للصحف والقنوات التي تنتقد المسؤولين الجزائريين، وكان هذا الكلام أمام أصحاب الصحف والقنوات الذين صفقوا وأخذوا هاتفا من آخر طراز كهدية وغادروا، قبل أن يتسرب هذا الكلام ويُتداول على شبكات التواصل الاجتماعي، ويتحول إلى موضوع للجدل!
وانقسمت الصحافة بين منتقد لهذا الكلام باعتباره تدخلا في الخط الإفتتاحي للصحافة الجزائرية، وبين صحف أخرى نشرت مقالات بأسماء مستعارة لتدافع عنه وتهاجم من يهاجمه! وتدخل وزير الإعلام في النقاش، ليقف إلى جانب مدير الشركة في كلامه الذي قاله، مؤكدا على أن الإعلانات تمنح على أساس المصداقية والانتشار.
وفي آخر حلقة من مسلسل الصراع بين السلطة والصحافة، تحول الكلام إلى الصحافة الأجنبية العاملة في الجزائر، فقد أصدر الصحافي بوعلام غمراسة بيانا أكد فيه أن وزارة الإعلام قامت باستدعائه وسحبت منه الإعتماد كمراسل لصحيفة «الشرق الأوسط» وأن مسؤولين في الوزارة أبلغوه أنه غير مرغوب فيه، بسبب مواقف عبر عنها في قناة «المغاربية» وهو البيان الذي أثار جدلا، ولم تنف الوزارة ما تضمنه من معلومات، فيما أكد الصحافي أنه ما كان على الجهة التي ترى أنها تضررت من القذف في قضيته سوى رفع دعوى قضائية ضده في المحاكم.
وأكد الوزير حميد قرين على أن مراسلي الصحف ووسائل الإعلام الأجنبية مطالبين بإحترام القانون والتنظيمات المعمول بها، وأن وزارته يحق لها سحب الإعتماد ممن تشاء، إذا ما رأت أن هناك تجاوزا أو خرقا للقانون، فيما يتعلق بالسب والقذف. ولعل الجملة التي أثارت زوبعة هي قول الوزير إنه يتعين على مراسلي وسائل الإعلام الأجنبية «الدخول في الصف»! لكن بعض المسؤولين في الوزارة قالوا إن الوزير قصد من عبارة الدخول في الصف احترام القوانين.
وعاد الحديث عن الصحافة في خطاب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بمناسبة عيد النصر الموافق 19 آذار/مارس، عندما هاجم من وصفهم بأدعياء المعارضة الذين يمارسون سياسة الأرض المحروقة، مدعومين من طرف صحافة لا تتخلق بأخلاقيات المهنة. الغريب أن الكلام الخاص بالصحافة سقط من النسخة العربية للخطاب، وأُبقي عليه في النسخة الفرنسية.

كمال زايت
http://www.alquds.uk/?p=365803

كلمات مفتاحية

شارك بالتعليق

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق