مقالات

سعيد سعدي من البؤس السياسي إلى العبث بالتاريخ :علي رحالية

كنت أرتب أشيائي القليلة في خزانتي الرمادية الصغيرة بعد رحلة سفر طويلة وبعيدة أردتها أن تكون فرصة وهبة لأسترد أثناءها ومن خلالها جزءا من ” إنسانيتي” المسلوبة والمشوهة وألملم بعض ما تبقى من “كرامتي”المبعثرة والمهدورة على عتبات”مملكة” “صاحب الفخامة” السلطان “المعز لنفسه وذاته”.
كانت الرحلة ، التي تمنيت أن لا تنته،فرصة لأتنفس هواء باردا نقيا وأسمع كلاما صادقا حقيقيا وأشاهد وجوها بشرية من لحم ودم وحياء..هناك سرت وسط الناس و البشر لا وسط “الغاشي” و “القطيع”..ومشيت على أرصفة واسعة و نظيفة تفوح برائحة ندى الصبح وعطور وابتسامات المارين،لا بروائح الرشوة و”الشمة” ووجوه اليأس والبؤس!!
كانت الساعة العاشرة صباحا عندما رن الهاتف لأول مرة بعد ثلاث وثلاثين يوما من الغياب المبرمج ..غياب تمنيت أن يطول ويطول قدر ما أستطاع وما استطعت لكني عدت مرغما لا راغبا وها هو صوت صديقي يصلني صافيا، ضاحكا ومتشفيا:”..ها قد رجعت..ما ستقرأه هذا الصباح “سيطير” كل لحظات الراحة والمتعة التي عشتهما بعيدا عنا أيها الأناني..هذا الصباح على الأقل “سيزفت” سعيد سعدي يومك..أما باقي الأيام فسيتكفل سعداني وغول وبن يونس و كل شياتي فخامته بتخريب ما تبقى من عمرك”..توقف صديق عن الكلام غير المباح وراح يضحك وهو سعيد بتخريب أول يوم لي بعد عودتي من عطلتي الطويلة والبعيدة !
في تلك الصبيحة أخبرني صديقي بأن ‫#‏سعيد_سعدي‬ قد اتهم مصالي الحاج بالخيانة وبن بلة بالعمالة وعلي كافي بالجهوية..لم أجد في “اتهامات” و”أحكام” سعيد سعدي أي شيء جديد أو مثير..فهذه الاتهامات والأحكام مدونة في كتابه “عميروش..حياة موتتان ووصية” الذي أصدره منذ خمس سنوات،أي سنة 2010، بل ان “اتهامات” سعدي تبدو اتهامات وأحكام “مؤدبة” و”مفهومة” مقارنة بتصريحات فرحات مبارك )أحد رفقاء عبان( الذي وصف علي كافي ب “المتشرد” (clochard) !!..وتصريح خليدة تومي الوزيرة في حكومة فخامته التي لم تتردد في وصف بن بلة ب “كلب وجدة”!! أما أرملة عبان رمضان فشبهته ب”الحمار المبردع”!!
ما كنت لأكتب عن سعدي وكتابه لأن لا سعدي يستحق الكتابة عنه ولا كتابه يستحق التعليق عليه لأن سعدي حالة “سياسية مرضية” ميؤوس منها،فبعد أربعين سنة من”العمل السياسي” السري والعلني،لم يستطع أن يحدد أعداءه ولا حتى أن يعرف أصدقاءه!
ان مسيرة سعدي “النضالية والسياسية” عبارة عن سلسلة من “الشطحات السياسية السوريالية” فهذا النظام الذي يصر سعدي على وصفه ونعته بالنظام “القمعي/التسلطي”، نظام بومدين وبوصوف ،”نظام العسكر والمخابرات”،هو نفسه، “النظام”القمعي/التسلطي”،”نظام بومدين وبوصوف”،”نظام العسكر والمخابرات” هو الذي سيمنح لسعيد سعدي )وباقتراح من هذا النظام و”بمباركته”(الاعتماد لحزب الأرسيدي ليعض سعدي يد “الزعيم” الذي علمه معنى السياسة ومبادئ النضال وليضرب في العمق،الحزب الذي اكتشف فيه سعدي هذا الشيء النبيل الذي يسمونه ” المعارضة”.. هكذا بدأ سعيد سعدي نشاطه الساسي العلني.. بالخيانة!
وفي الوقت الذي بقى الأفافاس في خندق المعارضة،ارتمى سعدي،وفي مشهد سوريالي عجيب،في أحضان”النظام”القمعي/التسلطي”،”نظام بومدين وبوصوف”،”نظام العسكر والمخابرات” ليصبح حليفا وشريكا في الانقلاب على “اختيار الشعب” و”الشرعية الشعبية”،وسيطالب بما طالب به جنرالات العسكر والمخابرات..ضرورة استئصال “الاسلاميون/الارهابيبون”؟!
وسيكون سعدي أيضا،سببا وشريكا لجنرالات العسكر والمخابرات، في الترويج لكذبة “إنقاذ الجمهورية” من “الظلامية الاسلاموية”،بالتطبيل والتصفيق لفكرة جلب رجل و رمز من رموز نوفمبر واغتياله على المباشر.
ولن يتوقف سعدي عند هذا الحد من”العمالة السياسية” لنظام العسكر والمخابرات، ففي سنة 1995، نزل به المستوى الى درجة قبوله لعب دور” المهرج السياسي” بمشاركته في انتخابات “النظام القمعي/التسلطي” وهو متأكد بأنه لن يفوز بها أبدا لأنه كان يعرف الفائز بها مقدما!
ان انبطاح سعدي وعمالته السياسيين لن يتوقفا عند هذا الحد،ففي سنة 1999، سيكتب سعدي رسالة طويلة استعمل فيها كل مهاراته الإنشائية وكل ثروته اللغوية لإقناع “أصدقاءه الصحفيين” بضرورة “منح الفرصة” للتمرشح الذي جاء به و فرضه جنرالات العسكر والمخابرات رئيسا بالتزوير ! والغريب أن هذا المرشح الذي سانده سعدي لم يكن واحدا من رجال نظام بومدين وبوصوف فقط، بل كان أكثر من ذلك..لقد كان ابنا “حقيقيا” لبومدين وبوصوف !!
وبعد أن ساند “مرشح” العسكر والمخابرات الذي زور الانتخابات، شارك سعدي في حكومة “ابن بومدين”!! بومدين الذي كتب يصفه ويصف نظام حكمه قائلا:” بومدين الذي بنى حكمه على الاغتيالات والرقابة وتزوير الانتخابات والفساد وانبرى في أبشع عمل تضليلي ظهر بعد الاستقلال”(ص15)..هذا هو سعدي المعارض والسياسي الكبير،يسب ويشتم الشيطان ويصفق ويرقص لابنه؟!
وعندما توفي الشاب مسينيسا و اندلعت أحداث القبائل الذين طالبوا برحيل الدرك حاول سعدي أن يعود أدراجه ولكنه لم يجد لطريق العودة أي أثر..فخرج يصرخ ” توفيق(محمد مدين) أراد اغتيالي” ولكن ولأن للناس ذاكرة،لا أحد صدقه أو اهتم بأمره أصلا..فرحلة “عمالته السياسية” لتوفيق ونزار والعماري وغبرهم من جنرالات “نظام العسكر والمخابرات”، كانت ظاهرة ومفضوحة ورائحتها “النتنة” شمتها كل الأنوف.
وفي جوان 2014 و بزرالدة غرب العاصمة تحديدا،وفي مشهد سوريالي وتراجيدي/كوميدي، سيجلس حزب سعيد سعدي جنبا إلى جنب مع أولئك ” الاسلاميون/الارهابيون” مع أولئك “الظلاميون/القتلة”، الذين تمنى وسعى قبل سنوات رفقة الجنرالات،لاستئصالهم،لميطالب بضرورة “رحيل” نظام العسكر والمخابرات؟!
إن سعدي حالة إنسانية تستحق الشفقة وحالة سياسية تستحق الدراسة،انه أحد ضحايا تأثيرات ومخالفات “الأزمة البربرية” لحزب الشعب وأحد “بقايا” الاحقاد التاريخية والتفسير المؤامراتي للتاريخ . انه نموذج للفشل البشع الذي أنتجه النظام لأن سعدي،وغيره من أشباه السياسيين،مجرد ابن “مشوه”((défiguré و”معقد”(complexé) لنظام غير شرعي وفاسد،انه “معارض كاذب”،تماما مثل الحمل الكاذب،لنظام جاء نتيجة لاغتصاب الشرعية الشعبية.
.
“النبي القبايلي” والعرب “العنصريون القتلة”
قلت ما كنت لأكتب عن سعدي وكتابه لأن لا سعدي يستحق الكتابة عنه ولا كتابه يستحق التعليق عليه،ولكن ها هو سعدي الذي بعد سنوات من “الضياع” و”الغباء” السياسيين عاد بسببهما إلى ما قبل نقطة الصفر إذ خان الرفاق وخانوه وخسر الأصدقاء وخسروه وأضاع أتباعه الذين تركوه و أضاع المبادئ ودفن القيم وأطلق رصاصة الرحمة على النضال في زمن الخيانة و البزنس، ها هو سعدي يحاول العودة،يحاول الرجوع إلى واجهة الأحداث من “خرم” إبرة التاريخ بعد أن سد في وجهه، بنفاقه وغبائه،أبواب السياسة.
عاد سعدي في جبة المؤرخ ليقول لنا في حصة “كرتيكا” على قناة الخبر:” لست هنا لأصفي حسابات..راني هنا باش أنضوي تاريخ الجزائر بالفترات الايجابية وبالغلطات أنتاعهم”.وراح سعدي طوال وقت الحصة يتحدث بلغة العارف بالخبايا وثقة الماسك بعنق الحقيقة والعالم بأمور الغيب.لكن و بالاستماع جيدا لكلامه والقراءة المتأنية لكتابه سنكتشف بأن سعدي لم يأت لكي “أضوي” التاريخ كما قال بقدر ما جاء ليزيده تشويها وتحريفا وتضليلا وبأن “الأخطاء” و”الجرائم” التي عرفتها الثورة هي أخطاء وجرائم ارتكبها “الآخرين” وليست أخطاء وجرائم “أبطال” سعدي لأن “أيطال” سعدي ناس فوق البشر.
وعميروش واحد من “أبطال” سعدي الذين هم “فوق البشر”،الذين لا يرتكبون الأخطاء وإذا ارتكبوها يمكن تبريرها،والذين لا يقترفون الجرائم وإذا فعلوها فهي دائما غلطة وخطأ الآخرين.
انطلاقا من هذه الخلفية،خلفية “البطل” لذي هو “فوق البشر”،الذي لا يرتكب الأخطاء وإذا ارتكبها يمكن تبريرها،والذي لا يقترف الجرائم وإذا فعلها فهي دائما غلطة وخطأ الآخرين .كان من الطبيعي أن يأت كتاب سعدي،بعد 40 سنة من البحث،في شكل “قصيدة مدح طويلة” لا كتاب تاريخ ولا حتى في شكل تحقيق صحفي جاد.
فعميروش حسب وصف وتقييم سعدي هو : “أشهر عقيد”،”القائد الفذ”،”زاباتاالجزائر”،”شخصية ساحرة فيها شيء من تشي غيفارا”،عميروش ” الرجل الذي يسكن القلوب والعقول”،”رجل من طراز خاص،بسيط وساحر،محبوب ومهاب،قريب وبعيد”، “كان كل شيء يتم كما لو كان عميروش يطبق في عمله الملموس تخطيطا أعد له منذ الأزل” !،”كان عميروش يتمتع بموهبة تمكنه من الإبداع انطلاقا من لا شيء أو من الشيء القليل”،و”لقد ألهمت سرعة تنقلاته روايات ملحمية تصوره في عدة أماكن في تفس الوقت”،”دعونا نعترف أن العقيد وصل الى مرتبة خارقة في بعض جوانبها”،”لقد كان قائدا”يؤدي مهمته كما يفعل رجل دولة عصرية”،”عميروش المتبصر العادل والحامي”، الذي استطاع بفضل “دهائه أن يحبك كل المكائد”؟ !،كان “عميروش في الثلاثين أو يقل قد أصبح أسطورة حية في بلاد الفبائل وخارجها”.”عميروش الذي ذاع صيته بسرعة عبر كل الجبال”.عميروش ” العقيد الذي يتمنع بسمعة تميزه عن نظرائه، وتظهره كقائد غير معلن للثورة في الداخل”.انه الرجل الذي”كان الجميع ينظر اليه في حياتهم اليومية كشخص استثنائي، كان شخصا فريدا لكنه كان عادي وينتمي الى كل الناس،كان هو الأب والأخ والابن لكل واحد لكنه كان فوق الجميع” !!
فأي نوع من الحقائق والموضوعية والحياد والمهنية والنقد الذي يمكن أن نعثر عليه في كتاب يقدم لنا عميروش في صورة “نبي” أو “نصف اله”؟
كتب سعدي يقول :”..وكنا بمخيلتنا سرعان مانضخم تلك العمليات(التي يقوم بها عميروش) ونحكيها في قالب سنيمائي لرفاقنا،ونحن نقسم بأننا استقينا روايتنا من مصدرها،ثم يأتي الشاهد التالي متحمسا ليعيد نفس الرواية ويطعمها بتفاصيل أخرى من الهامه الشخصي”(ص27) ويبدو أن سعدي لم يتوقف أبدا ومنذ الصغر عن ممارسة هذه الهواية وهذه اللعبة،هواية ولعبة “التضخيم”و”التمديد” والرواية والحكي في”قالب سنيمائي” فبعد 40 سنة سيكتب سعدي” وكان عميروش قد ألف في صائفة ذلك العام،الطبعة الأولية للفيلم الأمريكي(يجب انقاذ الجندي ريان)(il faut sauver le soldat rayan)”(ص152) !
إن كتاب سعدي عن عميروش هو أشبه بحكايات العجائز(un conte de faits) التي ترويها الجدات للأحفاد على ضوء الشموع في يوم شتوي بارد في أعالي جرجرة،حكايات يتصارع فيها الغول مع الأمير والطيبون مع الأشرار. و”الطيبون”هم عميروش وعبان وكريم وغيرهم من”القبايل” المناضلون والمكافحون المخلصون الذين لم تكن لهم أية طموحات أو حسابات أو مناورات سياسية للاستحواذ على الثورة والانفراد بالقيادة،”القبايل الطيبون”،”الوطنيون” الذين لم تتحكم فيهم ولم تحركهم أبدا الجهوية والعرقية والطمع في الاستحواذ على السلطة؟!،في مواجهة “العرب العنصريون القتلة”( بوصوف،بن طوبال،بومدين،بن بلة،علي كافي وغيرهم) المتعطشين للسلطة والدم.والذين في سعيهم للانفراد بالثورة والاستيلاء على السلطة قاموا بتصفية عبان(لأنه قبايلي) (سعدي سيبرأ كريم من العملية)،و تخلصوا من عميروش(لأنه قبايلي) ومنعوا كريم من ترأس الحكومة المؤقتة (لأنه قبايلي أيضا) (القبايلي الشرير والوحيد في كتاب سعدي هو العقيد محمدي السعيد لأنه التحق بصفوف الفيس في 1989).
و العرب “العنصريون القتلة”، لن يتوفقوا عند هذا الحد بل سيمنعون،عن طريق النظام الذي أسسوه (نظام العسكر والمخابرات) (وكأنه لا يوجد قبايل في الجيش والمخابرات؟!) سعيد سعدي وأي قبائلي يفكر أو يطمح للوصول إلى قمة السلطة والتربع على عرش الجزائر.
هذه هي الفكرة الأساسية والمركزية في كتاب سعدي الذي وللأسف لم تكن لديه الشجاعة الأدبية والسياسية،لم تكن لديه الشجاعة أصلا، وفضل الاختباء خلف رفات عميروش وجثتي عبان وكريم ليلمح عن طريق أنصاف الكلمات والجمل والحقائق، لقضية و موضوع كان بإمكانه أن يطرحه علنا،كان في امكانه مثلا أن يكتب كتابا يسميه “القبايل ومسألة السلطة” أو” العرب والقبايل وصراع السلطة والريع في الجزائر المذبوحة” أو “لماذا لن يتركوني أصبح رئيسا للجزائر؟”.
لكن فكرة و طرح سعدي جاءا متأخرين جدا،كان من الممكن أن يجد لهما “مستمعين” في ستينيات وسبعينيات وتمانينات وحتى تسعينيات القرن الماضي،لكن في القرن الحالي،قرن “غوغل” و”الفايبر” و”السكايب”و”الفايسبوك”،من الصعب جدا أن يجد سعدي من”يستمع” أو يلتفت لطرحه “العنصري”المفضوح،لأن الحلم الكبير للشباب الجزائري “الكافر بالتاريخ والجغرافيا وبالسياسة”)بسبب النظام الفاشل وسعدي المعارض المزيف(،في زمن العولمة والكوكبنة(mondialisation et globalisation) هو كيف يقفز إلى الضفة الأخرى وكيف يتحصل على الجنسية الاسبانية والايطالية والبريطانية والفرنسية والكندية والأمريكية بأي شكل لأن الحصول على تلك الجنسية تلك الدولة أو ذاك البلد هو وحده الذي سيخرجه من “إسطبل الحمير” وسيحرره من”قصر العبيد” ليدخله إلى عالم “المواطنة”، ويمنحه فرصة الانتماء إلى عالم البشر.
https://www.facebook.com/ZdzNews?fref=nf