سياسة

هيكلة المخابرات..الطريق إلى الجمهورية الجديدة

تابعت باهتمام كبير النقاش الدائر حول التغييرات التي أجراها رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة على جهاز المخابرات الجزائرية، بهدف تحديثه وعصرنته، وعجبت أيّما عجب من تصريحات وتأويلات بعض الجهات والدوائر، التي ارتابت من إعادة الهيكلة هذه، والتغييرات التي صاحبتها، ومسّت العديد من القيادات السامية في المخابرات الجزائرية، فالبعض رأى أن ما جرى ويجري يصُبّ في اتجاه إضعاف جهاز المخابرات، وجعله تحت سُلطة رئاسة الجمهورية، وهذا ما أصابني بحق، بحالة من اللاّفَهم، فكيف يُعقل في أيّ دولة كانت، أن تسعى السلطة السياسية بها، إلى إضعاف نفسها، بإضعاف الجهاز الذي تُبصر به، والذي هو تحت إمرتها، ويمُدّها بالمعطيات والحقائق، ما ظهر منها وما بطن، والتي تُمكن السلطة السياسية من تحديد تموضعها وتموقعها على الساحة الداخلية والخارجية؟
قُلت إنني لم أفهم مقاصد ومرامي أصحاب هذه الإنتقادات غير المُؤسّسة، لأنّني وبصفتي رجل قانون، اشتغلت بالمحاماة لأكثر من عقدين، كنت أتابع انتقادات البعض لجهاز المُخابرات الجزائرية، بل واتهاماتهم له بالعمل خارج أطر القانون، وانتهاجه لأسلوب الإعتقالات العشوائية، والإختطافات في جنح الظلام، بل وحتى تسيير الأحزاب السياسية بحسب أهوائه ومَراميه، وتسلُطه على كلّ مؤسسات الدولة، واختياره للإطارات المُسيّرة، من أعضاء الحكومة وغيرهم، وحتى النُّواب والمنتخبين باستعمال التزوير، وتسلُّطه على وسائل الإعلام، وتحريكها كيفما يشاء، وتحكّمه في كواليس السّلطة القضائية، وإملاء الأحكام والقرارات القضائية على القُضاة، قُلت، بصفتي رجل قانون، أتعجّب اليوم، كيف أن هذه الجهات نفسها التي كانت تتحامل على جهاز المُخابرات، وتُشوه سُمعته وسمعة الجزائر في المحافل الدّولية، باتت اليوم تنتقد الإصلاحات التي يجريها رئيس الجمهورية في إطار عملية إعادة الهيكلة التي تُعيد الأمور إلى نصابها، وتُخرج هذا الجهاز من دائرة المُزايدات والمُساومات الرخيصة، وتـضعه بشكل واضح تحت إمرة السلطة السياسية، وتحت رقابة القانون.

أقول ذلك، لأنني إشتغلت في هذا الجهاز كضابط في ريعان شبابي، ورأيت كيف كان السيّاسيون والإداريون، يُحمّلونه مسؤولية أخطائهم، وكيف أنّ هذا الجهاز أُجبر في وقت مضى، على التدخل لإيجاد الحُلول لمشاكل وأزمات، هي من صُلب عمل أجهزة الأمن العادية، الأمر الذي جعله يحيد عن مهامه الرئيسية، ويجعله ينشغل بقضايا لم يُسجّل في التاريخ أن أجهزة مخابرات دول أخرى انشغلت بها، إنني إذ أقول هذا الكلام، فمن منطلق أنني اشتغلت كذلك في مكاتب دولية للمحاماة بكندا، وكانت لي الفرصة أن أتعرف عن قرب على طبيعة تسيير دواليب الدولة في العديد من الدول المُتقدمة، في إطار المهام الإستشارية التي كان يُكلفنا بها البنك الدولي لتكريس الإصلاحات في العديد من البلدان، فقد كنت أرى بجلاء ووضوح كيف أن مخابرات بلدي، لم تكن تهتم بقضايا الإقتصاد والإستثمارات الكبرى، لأنه تمّ إغراقها في قضايا الإرهاب والأزمات السياسية وكفى، وهنا أتذكرّ كيف أن الجنرال محمّد بتشين الذي كان وزيرا مستشارا أمنيا للرئيس ليامين زروال، سبق له وأن عرقلني لمّا نجحت في جلب استثمار للجزائر، بقيمة 200 مليون دولار، لإنتاج اللقاحات في بلدي، سنة 1996، أي في الوقت الذي كانت تُعاني فيه الجزائر من عُزلة شبه تامة، وعزوف كامل للمستثمرين الأجانب، للقدوم إليها، وأتذكر هنا أن كندا وافقت آنذاك، على تخصيص مبلغ 500 ألف دولار، لدراسة جدوى ونجاعة المشروع، لكن إرادة الجنرال بتشين ولوبيات استيراد الدواء، كانت هي الأقوى، وحرمت الجزائر من مشروع في غاية الأهمية، ولا أزال أتذكّر كيف أننّي تعرضت لمُضايقات كبيرة جرّاء ذلك، وصلت إلى حدّ التهديد بالتصفية الجسدية.
اليوم مع إعادة هيكلة جهاز المُخابرات وعصرنته، وإعادته إلى مهامه الرئيسية، أرى أن الجهات المُستفيدة منذ الإستقلال، على حساب الشعب الجزائري، هي من ترفض هذه العصرنة التي ستمتد بحسب ما أرى إلى كل المُؤسسات الأخرى، ولا أقول العصرنة وحسب، بل إن رئيس الجمهورية السيد عبد العزيز بوتفليقة وإضافة إلى ذلك، قد إنطلق بشكل فعلي في إعادة الإعتبار لأبناء جيل نوفمبر، من ذوي الكفاءات، والمشهود لهم بوطنيتهم وحبّهم للجزائر، بتعيينهم في المناصب الحساسة، بما في ذلك المراكز القيادية في المخابرات، والجيش، وباقي المؤسسات الفاعلة في الدولة.

وبرأيي أن رئيس الجمهورية هو بصدد التأسيس لجمهورية جديدة، لخلفه، تكون فيها الكلمة العليا للشعب والقانون، وهذا بطبيعة الحال هو ما يُقلق المستفيدين من حالة الفوضى وتداخل الصلاحيات، التي عاشتها الجزائر منذ الإستقلال.

وهنا أستحضر بقوة، تصريحات إحدى المستفيدات من ريع الفوضى، والتي وصل بها الأمر إلى حدّ التدخل في أمور لا دخل لها فيها أصلا، وأعني هنا رئيسة حزب العمال السيدة لويزة حنّون، التي رأت في توقيف الجنرال حسان المسؤول السابق لمصلحة مكافحة الإرهاب، مُحاولة ل”تدمير” جهاز المخابرات، وهنا لا يسعني إلا أن أتساءل، هل إشتغلت السيدة حنون في جهاز المُخابرات لتكون لها معرفة كبيرة بزميلها الجنرال حسان؟

بصراحة لا أعرف بشكل دقيق دوافع دفاع حنون عن الجنرال حسان، وكمحام أستغرب كيف أن من يجهل بتفاصيل ملف متهم ما، يسمح لنفسه بالخوض في أمور لا يعرف عنها أي شيء، بل ولا دخل له فيها، وهنا أعود مرّة أخرى للتذكير بتداخل السياسي بالمخابراتي في الجزائر، لكن بشكل “بيزنطي” لا غير، فشخصيا لا أسمح لنفسي أبدا أن أتدخل في ملف هو الآن بيد العدالة دُونما أن أكون وكيلا عن المتهم أو أحد الأطراف المدنية، فهل السيدة حنّون قد غيّرت وظيفتها للدفاع عن شخص لم تثبت إلى اليوم إدانته؟
ما يحزّ في نفسي كثيرا هو أنه في الوقت الذي كان يتوجّب على الجميع أن يدعو إلى إعادة تصويب البُوصلة، باعتبار أن تحديات الوقت الراهن على الصعيد المحلي والإقليمي والدّولي، تتمثل في التحديات الجيوإقتصادية، والجيوإستراتيجية، نرى أن بعض منابرنا الإعلامية، وأقطاب السياسة، لا يزالون ليومنا هذا، يُجهدون أنفسهم لتوجيه أنظارنا إلى ما هو أسفل سافلين.

عبد القادر حبيبي. “محام وخريج معهد الدراسات الإستراتيجية والدبلوماسية بباريس”

كلمات مفتاحية

تعليق واحد

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق