مقالات

الجزائر واحتمالات ما بعد «التوفيق» : توفيق رباحي

انتهى في الجزائر أول أسبوع، بعد ربع قرن أو ما يعادل 1300 أسبوع، من دون الفريق محمد مدين ـ التوفيق كما يسميه الجزائريون ـ رئيس جهاز المخابرات السابق. استفاق الجزائريون بصحافتهم ومسؤوليهم ونخبهم من صدمة تنحية «الرجل الشبح» وبدأوا يتأقلمون مع الحياة بدونه.
الآن وقد أزاح الرئيس بوتفليقة من طريقه آخر حصن وخصم، لن يجد أحداً يعارضه أو يسائله أو يمنعه من أن يفعل بالجزائر ما يشاء.. لا أحزاب حرة ومؤثرة، لا برلمان تمثيلي وجدير بالاحترام، لا صحافة ذات مصداقية، لا نقابات قوية ولا مجتمع مدني منظم. الجزائر تعيش حالة تصحر مطلق الفضل الأكبر فيها للرئيس بوتفليقة ذاته.
في يد بوتفليقة والفريق الرئاسي الحاكم الآن عدة أوراق تخبئ عدة احتمالات، أبرزها: أن يواصل «البلدوزر» الرئاسي طريقه «المبارك» فيقود الجزائر نحو عهد جديد من الديمقراطية والحرية. أو أن يواصل طريقه «المشؤوم» فيقودها نحو تكريس نظام شمولي يضاهي نظام كوريا الشمالية. أو أن يُبقي بوتفليقة على الوضع جامداً متصحراً كما هو، ما يعني احتجاز البلاد والمجتمع ودفعهما إلى الوراء، لأن نظرية الطبيعة هي أن الذي لا يتقدم يتأخر بالضرورة.
كل الاحتمالات سهلة وممكنة لأن الفريق الرئاسي يمسك اليوم بكل الأوراق وكل مفاصل القوة والنفوذ. والاحتمالات كلها تدخل صاحبها التاريخ، لكن من أبواب مختلفة. عليه فقط أن يختار.
الأول هو الأجمل، بل الأقرب إلى الحلم. يستطيع بوتفليقة وفريقه استغلال الفرصة النادرة التي لم تتوفر لغيره وللجزائر منذ استقلالها، ومواصلة قرارات «تطهير» مؤسسات الدولة من الاشخاص والعقليات والأفكار القديمة التي قادت البلاد إلى ما هي فيه. ولا علاقة لهذه المسألة بالعمر، فهناك في دوائر الحكم الجزائري ومن حوله أشخاص في السبعين عقولهم متقدة تتطلع إلى المستقبل، وهناك شبان دون الأربعين أذهانهم بالية لا يفرقهم شيء عن تماسيح الحرب الباردة.
هذا التوجه يعني الإقرار أولاً بأن الجزائر فشلت في بناء أمة مستقلة ديمقراطية مدنية بكل ما يجب أن يرافق ذلك من شروط، وبأنها اليوم تسير نحو الهاوية السياسية والاقتصادية والمدنية. ويعني البدء في إرساء قواعد جمهورية جديدة تقطع مع جمهورية الفشل، ويضع عربات القطار الجزائري على سكة الديمقراطية ومنح الشعب فرص اختيار قادته ومصيره.
النتيجة الطبيعية لهذا الخيار ان يمتلك بوتفليقة ذاته الشجاعة السياسية والأخلاقية ليفتح ورشات إصلاح عميق وجاد ويعلن أنه يتنحى هو أيضا وينظم انتخابات رئاسية مبكرة لا يترشح لها ولا يترشح لها أحد من زمرته وأقاربه.
هذا الخيار مكلف (لبوتفليقة) لكنه ممكن. إنما يحتاج إلى نبيٍّ ومعجزة، وزمن الأنبياء والمعجزات ولّى. ويحتاج إلى شهامة سياسية وزهد في الكرسي غير متوفرَين في بوتفليقة والمحيطين به.
هذا احتمال حلم مع رجل اسمه بوتفليقة احتاج إلى 16 سنة ليخلص الجزائر من قائد مخابرات تحوّل إلى أسطورة، فكم من سنة سيحتاج لإرساء مشروع دولة ديمقراطية ونظام حكم مدني؟
الاحتمال الثاني هو الذي يدعو إلى التفكير في أن بوتفليقة خلّص الجزائر من «الرجل الشبح» ليس حبًّا في الجزائر أو تطلعا لدولة لا سطوة للعسكر والمخابرات عليها، بل خدمة لمآرب شخصية وقبلية وتلبية لغرور ذاتي وحسابات دفينة تعود 36 سنة إلى الوراء.. عندما حرمه جهاز المخابرات من تولي الرئاسة غداة وفاة الرئيس هواري بومدين وقد كان يرى في نفسه الوريث الطبيعي والأحق بالكرسي من كل الآخرين.
ترجيح كفة هذا الاحتمال يعني أن يستغل بوتفليقة انتصاراته على قادة المؤسسات الأخرى وبسط نفوذه وسيطرته على كل هيئات الحكم ليمارس مزيداً من الصلاحيات الفردية بلا حسيب أو رقيب.
صحيح أن المخابرات الجزائرية (طبعة مدين) لم تكن ـ ولم تستطع أن ـ تمنع الفريق الرئاسي من التمكن من مقدرات البلاد وإدارتها بالشكل الذي يحلو له، لكنها كانت تمتلك بعض القدرة على التشويش عليه وتأخير بعض مشاريعه، إن على حق أو باطل. كانت هذه المخابرات تلعب دور السلطة الموازية الذي كان يجب أن يلعبه برلمان منتخب وتمثيلي وصحافة حرة ومجتمع مدني منظم ومؤثر.. وهذه كلها أدوات غير متوفرة.
هذا الاحتمال مربك ويبعث على القلق، لأنه يعني المزيد من الفساد والفشل، وألاَّ احد يستطيع منع حدوثه إلا الرئيس وفريقه طواعية وبلا أي إكراهات. الذهاب في هذا الاتجاه معناه مسيرة أخرى من الفشل والإنهاك وثمنها جيل آخر من الجزائريين لا إيمان له ببلده.
هنا سيتوجب على الفريق الرئاسي أن يدرك أن هذا التوجه يضاعف فرص الانفجار الاجتماعي ويحمل بذور تفكك البلاد وانهيارها.
يبقى احتمال آخر هو أن يمتنع بوتفليقة وفريقه عن المخاطرة في الاحتمالين السابقين، وإبقاء الجزائر جامدة مشلولة والاكتفاء بمراقبة سير الأمور وانتظار اقتراب الانتخابات الرئاسية.. فربما ولاية رئاسية خامسة لبوتفليقة (كل شيء وارد وممكن)، أو تمهيد الطريق لشقيقه الأصغر أو أحد المقربين منه ومن عشيرته إذا ما استعصى أمر الشقيق.
يبدو هذا الاحتمال الأسلم والأقل كلفة للفريق الرئاسي. كلفته الحقيقية ستدفعها الجزائر والجزائريون عاجلا وآجلا.

٭ كاتب صحافي جزائري
http://www.alquds.uk/?p=454989

كلمات مفتاحية