تاريخ سياسة

اتفاقيات إيفيان … نصر أم استعمار جديد

تستخدمها فرنسا لتكريس اللاعقاب على جرائمها في الجزائر

اتفاقيات إيفيان … نصر أم استعمار جديد
لأول مرة في التاريخ سيشارك رئيس فرنسي في الاحتفال بيوم 19 مارس المصادف لدخول اتفاق وقف إطلاق النار. الرئيس هولاند يشارك بعد غد السبت رسميا، فيما يسمى رسميا “يوم الوقفة لتكريم الضحايا العسكريين والمدنيين لحرب الجزائر والمعارك في تونس والمغرب” وسط رفض واستياء شرائح واسعة من الطبقة السياسية خاصة اليمين وجمعيات قدماء المحاربين والحركى. في الجزائر يحتفل منذ بضعة سنوات فقط بهذا التاريخ تحت تسمية “عيد النصر” احتفاءً بالاتفاقية التي صادق عليها كريم بلقاسم وممثلين للحكومة الفرنسية مساء 18 مارس 1962 .

بنودها غير مصنفة ضمن النصوص المؤسسة للجمهورية الجزائرية، ولا تستخدم كمرجع أومصدر لأي قانون، ما يسمى اتفاقيات إيفيان في رأي العارفين بشأن التاريخ هو مجرد نص فرنسي لا قوة قانونية له، صيغ تحت السيادة الفرنسية لكنه يستعمل فقط بالخصوص اليوم لحماية فرنسا من المساءلة في محاكم دولية عن فظاعتها اللاإنسانية في الجزائر.

فرغم أن بنود مشروع ميثاق طرابلس، المصنف ضمن النصوص التأسيسية للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية إلى جانب بيان أول نوفمبر 1954 وميثاق مؤتمر الصومام، أو على الأقل الملخص المنشور على موقع رئاسة الجمهورية (المرادية. دي. زاد)، هو النص الوحيد الذي يذكر إتفاقيات 19 مارس 1962 ويعتبرها نصا كولونياليا جديدا، يهدف إلى تحريف الثورة الجزائرية عن مسارها الثوري، ويكرس ويضمن مصالح الاستعمار الجديد، إلا أن خطابات رسمية جزائرية ومسؤولين خلال الثورة لا يزالون يعتبرون اتفاقيات إيفيان، التي تم من خلالها وقف إطلاق النار، انتصارا عظيما، متجاهلين أفخاخ هذه الوثيقة التي جاءت أيضا لتكريس مبدأ اللاعقاب لفرنسا على مجموع الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب المرتكبة خلال حرب التحرير الوطنية ومرحلة الاحتلال الفرنسي البغيض لبلادنا.
المرحوم أحمد بن بلة في لقاء متلفز مع السيد أحمد منصور في حصة “شاهد على العصر” بقناة الجزيرة، والتي نشرت في كتاب بعنوان “الرئيس أحمد بن بيلا.. أسرار ثورة الجزائر،” كان تبرّأ من اتفاقيات إيفيان وقال إنه ليس مسؤولا عما ورد فيها، وأنه اعترض على العديد من بنودها، رغم أنه وافق عليها مع آيت أحمد وبوضياف وخيذر وبيطاط من سجنهم، ولم يرفضها صراحة إلا قائد أركان الجيش هواري بومدين والرائد علي منجلي والرائد قايد أحمد “سي سليمان”، وقائد الولاية الخامسة عثمان الذي عوض الشهيد سي لطفي خلال جلسات طرابلس بداية سنة 1962.

والغريب في تصريح بن بلة تعليقه على قضية اختطاف الطائرة الملكية المغربية التي كانت تقله مع كل من آيت أحمد، بوضياف، خيذر ومصطفى لشرف في الثاني والعشرين من أكتوبر 1956، قوله إنه كان يتفاوض مع الحكومة الفرنسية منذ ثمانية أشهر، وأنه وصل معها إلى صيغة اتفاق، لكن الجيش الفرنسي باختطافه الطائرة دمر الاتفاق. ولم يشرح بن بلة موضوع الاتفاق المزعوم مع الحكومة الفرنسية، والتي لا نعلم عنها سوى لقاءات مع ممثل حركة “آس. في. أو” والتي لا تمثل الحكومة، كما أن اللقاء مع بيغارا أحد أنصار الكولون من وهران لا يمكن أن يسمى اتفاقا، لكون حكومة الجبهة الديمقراطية التي انتخبت في آخر 1955 وعلى رأسها غي مولي انضمت إلى توجه غلاة الجزائر الفرنسية منذ السادس من شهر فيفري 1956 بعد حادثة “الطماطم”.
وفي حديثه مع عسكري طلب منه التفاوض، قال بن بلة لأحمد منصور “.. استمر حديثي معه أكثر من عشر دقائق.. وكان يريد منا أن ندخل معهم في مفاوضات مباشرة مع الجيش الفرنسي وليس مع الحكومة القائمة التي كنا نتفاوض معها بالفعل منذ ثمانية أشهر، بل والتي كنا قد توصلنا معها إلى صيغة… أنا لم أقبل أن أسمع منه شيئا، وقلت له.. أنت عسكري ونحن منذ ثمانية أشهر نتفاوض مع حكومتك السياسية، وقد توصلنا إلى صيغة وهذه الصيغة عندي، قال: نحن نعرف هذا ونعرف هذه الصيغة لكننا نرفضها…”. الشعب الجزائري والمؤرخون لا يعرفون حتى اليوم هذه الصيغة، بن بلة، ادعى في الكتاب نفسه أنه كان ضد التنازل عن مرسى الكبير لفرنسا، وأنه رفض إجراء تفجيرات نووية في الصحراء الجزائرية، في حين أن فرنسا قامت بتفجير قرابة عشر قنابل نووية خلال الفترة التي كان فيها رئيسا للجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية، وكان بن بلة في كتاب أحمد منصور قد تبنى كل الأشياء الإيجابية ورمى بالأشياء القبيحة على عاتق الحكومة المؤقتة وفرحات عباس، وقال إن محادثاته مع الحسن الثاني وعبد الناصر والتونسيين كانت حول “مصيبة مؤتمر الصومام”.
بالإضافة إلى ما يسمى بقضية “تيلسيت” أو وفد الإليزيه، حيث نقل الجيلالي بونعامة “سي محمد” ومحمد زعموم “سي صالح” ولخضر بوشامة إلى مكتب ديغول بالإليزي في 13 جوان 1960 وتفاوضوا معه، لتنتهي القضية بعملية تصفية واسعة في الولاية الرابعة. كما تبقى قضية لقاء ياسف سعدي في جويلية وسبتمبر1957 مع جرمين تليون غامضة، ولم يفصح ياسف سعدي المعروف بكثرة الكلام والأفلام عن محتواها، كما لم يوضح إذا كان هذا التفاوض قد جاء بمبادرة شخصية منه، أم بأمر من لجنة التنسيق والتنفيذ، أم المجلس الوطني للثورة الجزائرية، المخول الوحيد لإجراء مفاوضات أو اتصالات مع الحكومة الفرنسية، حسب أرضية مؤتمر الصومام.
فبالإضافة إلى المفاوضات السرية الأولى بين جبهة التحرير الوطني وممثلين غير رسميين لحكومة غي مولي، والتي تعود إلى سنة 1956 حتى اختطاف طائرة بن بلة، كان أول لقاء رسمي للمفاوضات الفرنسية الجزائرية من 25 إلى 29 جوان 1960 بمحافظة مولان prefecture de Melun دون نتائج.

وفي بداية سنة 1961 قرر الجنرال ديغول ووزيره الأول ميشال ديبري Michel Debré البحث عن اتفاق سياسي حول شروط تطبيق تقرير المصير مع قيادة جبهة التحرير في الخارج.

مفاوضات إيفيان الأولى
تم التحضير لعدة اتصالات سرية في سويسرا، وحددت ليوم 07 أفريل، وتم الإعلان عنها في30 ماي من طرف الحكومة الفرنسية، لكن الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ألغت اللقاء بعد إعلان الوزير جوكس عن محادثات موازية مع الحركة الوطنية الجزائرية MNA وزعيمها مصالي الحاج. وبعد فشل محاولة الانقلاب التي قام بها الجنرالات الأربعة (سالون، شال، زيلر وجوهو)، في 21 أفريل، افتتحت ندوة إيفيان الأولى يوم 20 ماي، حيث قامت الحكومة الفرنسية بمضاعفة التنازلات للوصول إلى الندوة، بعد أن رفضت التنازل قبل ذلك لمدة طويلة، حيث تراجعت عن شرط وقف إطلاق النار كشرط مسبق لتقترح (وقف العمليات الهجومية من جانب واحد)، وهو الاقتراح الذي لم تتبعه جبهة التحرير ونددت به معتبرة إياه فخا.
توسيع جدول الأعمال إلى المبادئ الأساسية للتنظيم المستقبلي للدولة الجزائرية وعلاقته بفرنسا، والاعتراف (كتحصيل حاصل) بالحكومة المؤقتة، كمفاوض مفضل، هذه التنازلات اصطدمت بقضية النظام الخاص لفرنسيي الجزائر، وقضية الصحراء، لتتوقف ندوة إيفيان الأولى يوم 13 جوان1961 بطلب من الحكومة الفرنسية، ثم افتتحت ندوة لوغران lugrain يوم 17 جويلية لتتوقف يوم 28 من الشهر نفسه، بطلب من الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.
اخترقت فرنسا الهدنة من جانب واحد لتنطلق مواجهات مثلثة، أطرافها بين أجهزة القمع وجبهة التحرير والمنظمة السرية العسكرية OAS في الجزائر وفي فرنسا. وللخروج من المأزق، توقع الجنرال ديغول كل الاحتمالات: انسحابا من جانب واحد وتقسيم الجزائر (حيث كلف وزيره آلان برفيث Alain PEYREFITH) بتعيين جهاز تنفيذي جزائري دون إشراك جبهة التحرير، وكلف المندوب العام للحكومة جون موران، بالتحضير لتنصيبه لها الجهاز، والذي كان مقررا لـنهاية أكتوبر من سنة 1961، لكن الحكومة المؤقتة المعدلة من طرف المجلس الشعبي للثورة الجزائرية، والمهددة بعدم الخضوع العقيد بومدين وجماعة قيادة أركان الجيش طلبت استئناف المحادثات السرية.
من جهته، قدم الجنرال ديغول تنازلا جديدا يوم 5 سبتمبر1961 باعترافه بانتماء الصحراء للقطر الجزائري، ورغم المجزرة والقمع الوحشي لمظاهرات 17 أكتوبر بباريس، ورفض الحكومة الفرنسية الاعتراف كشرط مسبق باستقلال الجزائر تحت سلطة الحكومة المؤقتة (كما طالب بذلك الرئيس بن يوسف بن خدة يوم 24 أكتوبر)، انطلقت يوم 28 مفاوضات “بال”، وقدمت الحكومة المؤقتة تنازلا طلبه ممثلو حكومة فرنسا، يقضي بعدم معاقبة الجزائريين الذين عملوا ووقفوا مع فرنسا.

قبول هذا المبدأ من طرف الحكومة المؤقتة سمح بإعادة بعث المفاوضات يوم 09 نوفمبر، بعد الزيارة السرية التي قام بها الوزيران كريم بلقاسم ولخضر بن طوبال إلى القادة الخمسة المسجونين بقصر أونوا.

من 11 إلى 18 فيفري 1962، جمعت ندوة سرية كلا من نائب رئيس الحكومة المؤقتة كريم بلقاسم، سعد دحلب، لخضر بن طوبال ومحمد يزيد بثلاثة وزراء فرنسيين، هم: لويس جوكس، جان دي بروغلي، وروبيرت بيران، اللقاء الذي أجري في شاليه منطقة ليروس، نتج عنه مشروع اتفاق كان من الواجب المصادقة عليه من الطرفين قبل مناقشته رسميا في ندوة جديدة في إيفيان.

الحكومة الفرنسية أعلنت مباشرة قبولها، والحكومة المؤقتة الجزائرية جمعت المجلس الوطني للثورة، الذي ناقش مشروع الاتفاقيات مطولا، وصادق عليه بالإجماع ما عدا 04 أصوات رافضة، 03 من قيادة الأركان العامة للجيش (بومدين، منجلي، وقايد أحمد)، والرابع عقيد الولاية الخامسة.

من 07 إلى 18 مارس 1962، حاول ممثلو الحكومة المؤقتة تحسين محتوى مشروع إيفيان ـ ليروس، ما جعل الحكومة الفرنسية حتى اللحظة الأخيرة تلوّح بإيقاف المفاوضات.

وأخيرا، يوم 18 مارس، على الساعة الخامسة و30 دقيقة، أقدم الوزراء الفرنسيون وكريم بلقاسم على إمضاء كل صفحة من الاتفاقيات، وأعلنوا للصحافة أن وقف إطلاق النار يدخل حيز التنفيذ ابتداء من اليوم الموالي على الساعة منتصف النهار، وفي المساء نفسه تم الإعلان عن الاتفاق من طرف الجنرال ديغول بالتلفزة، ثم أعلن بإذاعة تونس من طرف الرئيس، بن يوسف بن خدة.

رغم أن الوزراء الفرنسيين أمضوا مرة واحدة فقط على اتفاق وقف القتال، فإن كريم بلقاسم رئيس الوفد الجزائري المفاوض أمضى وحده على 93 صفحة، صفحة بصفحة. ونشرت الحكومة الفرنسية اتفاق وقف إطلاق النار و”تصريحات حكومية” يوم 19 مارس 1962 متبوعة بمرسوم تنفيذي بالجريدة الرسمية يوم 20 مارس لإعطائهم * * صبغة القرارات السيادية.

الطبعة الفرنسية لديباجة التصريح العام ترتكز على استفتاء 08 جانفي 1961، الذي صادق فيه الشعب الفرنسي على مبدأ تقرير المصير، غير أن النسخة المنشورة في المجاهد في 19 مارس 1962 تجاهلت الاستفتاء الفرنسي، وذكرت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية مكان جبهة التحرير الوطني، وهكذا تكون الحكومة المؤقتة قد ادعت أنها فاوضت معاهدة دولية حكومة مع حكومة، في حين تقول الحكومة الفرنسية إنها تفاوضت مع حزب جزائري، برنامج مشترك مقترح للمصادقة عليه من طرف الشعبين، وأعلن أنه يحتفظ بالسيادة على الجزائر إلى حين يخلق تقرير المصير الدولة الجزائرية. هذه الاختلافات في اتفاقيات إيفيان لم تنه الاختلافات في الأطروحات المبدئية للجانبين، ومازال الغموض والخلاف يخيم عليها حتى اليوم.

ففي 20 مارس 1962 مثلا، كتب بيار بوتونغ، في جريدة ناسيون فرانساز (الأمة الفرنسية) “وقف إطلاق النار ليس السلم، بل هو تحويل لحرب أهلية وتغيير لتحالفات ميؤوس منها داخل هذه الحرب الأهلية، إنها جهاز حربي يتشكل فيها العدو الافتراضي الذي يجب إزاحته من مليون أوروبي ومليوني مسلم وفيّ لفرنسا، يكون فيه الجيش الفرنسي محايدا يتفرج على نهاية التراجيديا في انتظار إجلائه”.

أما الصحفي جون دانيال، فكتب في جريدة “ليكسريس” في 22 مارس 1962، أن “اتفاقيات إيفيان لها أبعاد عملاقة لأنها ليست فقط وقف إطلاق النار الذي تم إمضاؤه، بل هي أيضا تحالف. نعم، تحالف حقيقي بين شعبين يعترفان رغم كل شيء أن الوضع وربما الطبيعة تجعلهم مرتبطين أحدهما بالآخر في الحرب الجديدة التي اندلعت ضد منظمة الجيش السري”.

من جهته، يقول الرائد قايد أحمد (سي سليمان) عن اتفاقيات إيفيان، كما ورد في كتاب جون لاكوتير “هذه النصوص كانت لثورتنا بمثابة أقراص منومة، بمنحهم إيانا استقلالا شكليا، فإنهم يحرفوننا عن المهام الحقيقية للبناء الاقتصادي والإصلاح الاجتماعي، فالجنرال ديغول وجوكس بتواطؤ مجموعة من مفاوضينا، تصرفوا بدهاء وحنكة، وأفقدوا الثورة الجزائرية عشر سنوات، كانوا يريدون فك الالتزام، جزائر معادية للشيوعية، البترول بالفرنك الفرنسي، وهي الأهداف التي حصلوا عليها وحصلنا نحن على الخصومة”.

مهما يكن من أمر وعكس ما يشاع، فإن اتفاقيات إيفيان وقوانين فرنسا اللاحقة حول العفو وإعادة الاعتبار لمجرمي منظمة الجيش السري لن تحمي فرنسا قانونيا من المحاسبة والعقاب على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية لكون اتفاقية عدم تقادم جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تلغي كل القوانين الوطنية ولا تعترف بمدة زمنية للتقادم، وما على الدولة الجزائرية سوى المصادقة على هذه الاتفاقية في أقرب وقت ممكن.
منتصر أوبترون

المصدر: الحوار الجزائرية

كلمات مفتاحية

شارك بالتعليق

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق