مقالات

المدرسة الجزائرية بين الباديسيين والباريسيين

عاد الجدل من جديد حول المدرسة الجزائرية وتحديدا حول الحجم الساعي للغة التدريس ومحتوى المناهج وهوية المشرفين على الاصلاح، والذي لم ينته ولن ينتهي ما دامت العملية التعليمية ترتبط في جوهرها بصناعة الفرد ونمذجته حسب رؤية القائمين على التعليم ومن ثم على الإصلاح وليس انطلاقا من واقع الشعب وتجسيدا لقيمه وتعبيرا عن طموحاته. لقد احتد الجدل حول محتوى المناهج الجديدة التي تسعى وزارة التربية لتطبيقها نظرا لأن العملية التعليمية برمتها ومن ضمنها طرائق الإصلاح ومناهجه ومدخلاته ومخرجاته ترتبط ارتباطا وثيقا بمسألة الهوية وليست مجرد تحديث للمنظومة التعليمية وعصرنتها.
كما ترتبط العملية التعليمية بخيارات المستقبل وليست مجرد اكتساب للمعارف والتقنيات العصرية. وترتبط كذلك بمسعى إعادة هندسة الفرد وفق تصور القائمين على العملية من كل جوانبها تعليما وتربية وإصلاحا. ولذلك من شأن عامة الشعب وليس تيارا بذاته أو طائفة معينة أن يسعى لفهم ما يرتب لمستقبل البلاد والعباد. وهذا توجه لا يضر القائمين على العملية ما دامت تجري وفق أسس متفق عليها وقواعد محددة مسبقا. لكن عندما تدور شكوك حول ما يجري فإن الأمر يتجاوز المشرفين على إدارة قطاع التربية، وعليهم توضيح ما يجري بكل شفافية لا أكثر ولا أقل. والواقع الذي لا يختلف حوله إثنان هو وجود تيار أو طائفة ما تزال متنفذة ضمن النخبة الجزائرية تحمل عداء للعربية بوصفها لغة الشعب والحاملة لقيم دينه، والإسلام بوصفه الحائط الذي تكسرت دونه محاولات الفرنسة والتغريب.
نحن لا نقف ضد أي إصلاح هادف لخلق مدرسة تعتمد النوعية والأداء الجيد وترتقي بالفرد الجزائري وتجعل منه منافسا كفؤا لأقرانه في العالم عبر تحكمه في اللغات الحية واسعة الانتشار والتقنيات المتطورة. ولا نعارض أي تحديث يسعى للنهوض بقطاع التربية ويغرس قيم المواطنة بديلا عن قيم القبيلة ويعزز مفهوم الوطن بديلا عن منطق الجهة ويتجاوز فكرة حمارنا ولا عودهم بديلا عن الكفاءة والنزاهة. ولا نقاوم كل تغيير لمجرد أنه كذلك. ولا نضع أنفسنا بديلا عن ذوي الاختصاص لأنهم أدرى من غيرهم بقضايا التعليم. لكنه من حقنا حسبما يكفله لنا الدستور أن نساهم في نقد عمليات الاصلاح المتكررة لأننا صرنا نخشى من مآلات ذلك الإصلاح والتي لم نر لها نتائج ذات قيمة حتى هذه اللحظة باستثناء إضعاف مستوى تلقين العربية وعدم التحكم في اللغات الاجنبية والنقص في اكتساب مهارات عليا تضع أبناءنا في مصاف أقرانهم إلا القليل منهم والفضل لا يعود للمدرسة بل للرغبة في التعلم وحب التحصيل لديهم.
من حقنا أن ننتقد موجات الاصلاح المتتالية والتي لم تثمر النتائح المرجوة منها اللهم الا إضعاف المدرسة الجزائرية خاصة وأن السيدة بن غبريط رمعون وزيرة التربية كانت عضوا نشطا في إصلاحات بن زاغو فما الذي استجد حتى تبعث إصلاحات جديدة؟ ولماذا تخاف من النقد ولا تقبله، وتصف من ينتقدها بأنه يزرع البلبلة في قطاعها وأنه يمثل تيارا معروفا مما يعني أن المنضوين تحت التيار المزعوم هم خونة وغرباء عن البلاد وأن الشعب يعرفهم. لكنها لم تفصح عن أي تيار تتحدث خاصة إذا كان الشعب، عامة الشعب هو الذي وقف وقفة رجل واحد صائفة العام الماضي ومنعها من تدريس لغة العامة، لغة كرازاتو اللوطو فالطروطوار تنفيذا لمشروع فرنسي قديم كان مطبقا أيام الاستعمار الفرنسي والذي كان يضع العربية في خانة اللغات الأجنبية. فيا ترى من هو هذا التيار الذي تتكلم عنه؟
وما دمنا دخلنا سوق المزايدات و الاتهامات والحديث عن التيارات الغريبة وعن الأطراف الساعية لزرع البلبلة، من حقنا أن نقول إن الاصلاح بكل ما جاء به لا يستهدف تحسين أداء المنظومة التعليمية ولكنه يدخل ضمن مجرى الصراع القائم بين حاملي لواء المدرسة الوطنية الجزائرية من جهة وبقايا المتشبثين بالمدرسة الاستعمارية الفرنسية من جهة أخرى. كان هذا الصراع وما يزال قائما في الجزائر، منذ الفترة الاستعمارية، بين رؤيتين أيديولوجيتين إحداهما تحت قيادة الحركة الوطنية وسليلها جبهة التحرير الوطني من جهة والأخرى تقودها نخبة فرنكوفونية يسارية من جهة أخرى، وذلك كي لا أقول نخبة شيوعية بعدما أصبح هذا الاسم مبتذلا ومنبوذا حتى في عقر داره ولا ندري لماذا أتباعه يصولون ويجولون في الجزائر وصوتهم ما يزال مسموعا. ولكي يعرف هؤلاء أن المسألة ليست وليدة اليوم ولا علاقة لها بأي تيار دخيل أو غريب عن الجزائر وأهلها نسجل هنا وعي الجزائريين خلال فترة الاستعمار الفرنسي بحقيقة ذلك الصراع. ولخصت مقولة الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح ذلك الواقع في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي بقوله : ” إن هذه الأمة ليست فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت..بل هي بعيدة عن فرنسا كل البعد..في لغتها وفي عنصرها وفي دينها وفي أخلاقها..” تلك هي حقيقة الصراع الدائر اليوم في المدرسة الجزائرية. وجاءت جبهة التحرير الوطني قائدة الثورة وباعثة الجزائر المستقلة لتفصل فيه لصالح الجزائريين بصورة لا رجعة فيها. لكن يأتي اليوم، ومن خارج جسم حزب جبهة التحرير الوطني، من يسعى للانتقام من نهج التحرر من النفوذ الفرنسي باسم الحداثة والعصرنة والاصلاح. ولا يقتصر الامر هنا على الشيخ ابن باديس ومنطقة قسنطينة، بل الامر يمس الجزائر كلها وبكل رموزها. فقد شكلت منطقة تلمسان عبر تاريخها مركز دفاع متقدم عن الكيان السياسي الجزائري وعن قيمه ومعتقداته. ففي العصر الوسيط عند سقوط الدولة الموحدية، حامية بلاد المغرب، حملت تلمسان مشعل الريادة والتف حولها الجزائريون بقيادة بني زيان ليواصلوا مسيرة أسلافهم. وفي العصر الحديث كانت تلمسان في مقدمة الحواضر الجزائرية في خط الدفاع الأول ضد الوجود الإسباني. وفي التاريخ المعاصر أنجبت تلمسان رائد الحركة الوطنية ضد الوجود الاستعماري الفرنسي الزعيم مصالي الحاج رحمه الله، وأنجبت ابن الجزائر البار الرئيس أحمد بن بلة طيب الله ثراه أول رئيس للجزائر المستقلة. كما أنجبت الرئيس المجاهد عبد العزيز بوتفليقة أطال الله في عمره، إبن جيش التحرير وجبهة التحرير الوطني.
من حقنا أن نتخوف على مستقبل أبنائنا وبلدنا لأن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين كما يقول المثل العربي. فالسيدة وزيرة التربية يشار لها بأنها تمثل الجزائر في المنظمة الفرنكوفونية. وأبرزت صحف جزائرية في وقت سابق أن جهات فرنسية ترى فيها أكفأ وزيرة مما يعني أنها تدعم وجودها. وقد لجأت هذه السيدة للخبرة الفرنسية لإصلاح القطاع وهو موضوع أثارته الصحافة مؤخرا وما يزال مطروحا. كما أنها سعت لفرض توصيات ندوة محدودة كانت خاصة بقطاع التعليم الثانوي بوصفها توصيات ذات طابع عام، ولولا وقوف الشعب ضد ذلك التوجه لفرضت تلك التوصيات ومنها فرض التعليم بالدارجة بديلا للغة التعليم المعروفة على مستوى العالم العربي. وهي تسعى لما تصفه بجزأرة التعليم وكأن القامات الوزارية التي مرت على هذا المنصب منذ الاستقلال حتى يوم الناس هذا كانت أجنبية أو بعبارة أدق كانت مصرية أو سورية أو عراقية أو سعودية. فهل أحمد طالب الابراهيمي وعبد الكريم بن محمود ومصطفى لشرف ومحمد الشريف خروبي وزهور ونيسي و صخري وبن عمر مصطفى وعلي بن محمد وجبار وبوبكر بن بوزيد وغيرهم ممن لم تحضرني أسماؤهم كانوا أجانب ووضعوا برامج أجنبية والمقصود بها هنا عربية؟ وهي تقول إنها تعمل على جزأرة البرامج بنسبة 80 في المائة بمعنى أن برامح التعليم كانت أجنبية أي عربية بنسبة 80 في المائة وهذا لا يدخل ضمن المنطق ولا علاقة له أصلا بالمهنية. فأين كان الوزراء السابقون ما دامت السيدة الوزيرة جاءت لجزأرة المدرسة لأول مرة.
إن الجانب الإيديولوجي أي العقائدي هو الذي يهيمن على رؤية السيدة بن غبريط رمعون وهو الذي يحركها ولا علاقة للأمر بالجزأرة و لا بالعربزة. فالمدرسة كانت منذ الستينات جزائرية روحا ومحتوى ونحن درسنا فيها منذ تلك الفترة تعليما جزائريا بحتا لا علاقة له بأي برنامج في أي بلد عربي. ومن وضعوا تلك البرامح كانوا جزائريين مائة بالمائة. كما أن كتب التاريخ التي قرأناها وقرأها أبناؤنا لا تقول أبدا أن تاريخ الجزائر يبدأ في القرن السابع للميلاد بل نجد أن كتابا واحدا على سبيل المثال من كتب التعليم المتوسط خصص حوالي الثلث من محتواه للحديث عن الحضارة الامازيغية في حوالي 60 صفحة وباقي الصفحات تتعرض بإيجاز للجزائر في العهد الإسلامي والعهد العثماني و تتحدث عن عصر النهضة في أوروبا فأين الحديث عن العرب؟ إن السيدة بن غبريط رمعون كانت مسؤولة عن مركز بحث في الأنثروبولوجيا أي في العرقيات أو النزعة الاثنية ولا علاقة لها بالجانب التربوي إطلاقا. وقد استخلفها حسن رمعون في إدارة المركز الذي لا علاقة له أصلا بالتربية والتعليم. ومن المعروف تاريخيا أن الإستعمار البريطاني والفرنسي ركزا خلال سيطرتهما على عالم الجنوب المتخلف على تطبيق مبدإ فرق تسد. أي تدمير النسيج الاجتماعي للشعوب المحكومة لضمان ديمومة السيطرة عليها. ضمن هذا المنظور الاستعماري تم استحداث مراكز بحث تتعلق بدراسة الجانب العرقي في المجتمعات المستعمرة للبحث عن أصول القبائل والعشائر وأسماء المدن والمداشر وأساليب العيش وطرق الحياة بغرض فهم تركيبة تلك المجتمعات والتحكم في كيفية إدخالها في صراعات فيما بينها. أما في دول الغرب فهم يطبقون مبدإ المواطنة متجاوزين بذلك حتى فكرة الهوية التي لم تعد مطروحة في المجتمعات الغربية وبقيت حكرا على مجتمعات العالم المتخلف.
وخير ما نختم به كلامنا هو تذكير السيدة وزيرة التربية بمكونات الهوية الجزائرية وهي الإسلام والعروبة والامازيغية وعليها وعلى غيرها من المختصين في شؤون التربية والتعليم أن يدركوا حقيقة هذه المكونات ويعملوا على تضمينها في برامج التعليم بمختلف مستوياته لنكون أوفياء لروح الدستور الجزائري ولمقومات هذا الشعب.
عدد القراءات : 1 قراءات اليوم : 1
http://www.sawt-alahrar.net/ara/permalink/27005.html

كلمات مفتاحية