مقالات

هكذا أمست الجزائر بلا أصدقاء في باريس : توفيق رباحي

الجزائر هي إحدى الدول الأكثر حضوراً في فرنسا. في النقاشات السياسية والثقافية الداخلية، وكذلك الجدالات الاجتماعية باعتبارها صاحبة أكبر جالية في فرنسا ولها تأثير عليها. بتعبير آخر هي «الأقرب» لفرنسا، لكنها في الوقت ذاته هي الأقل تأثيراً في الرأي العام وفي العمل السياسي، بمعنى أنها «الأبعد» عن فرنسا.
لا تخلو الحملات الانتخابية في فرنسا من جدل حول أو بسبب الجزائر. وتحضر الجزائر في الجدل الداخلي في فرنسا عند الأزمات وأوقات الشدة، وحتى في أوقات الفرح.
وتحضر بسهولة في الأوقات الاستثنائية أيًّا كانت طبيعتها. لكن هذا الحضور «المكثف» لم يتح للجزائر، أو لم يمكنها، من انتزاع مكانة في الأوساط السياسية والإعلامية والثقافية الفرنسية، عكس دول اخرى استطاعت، بمجهود وحضور أقل، أن تجد لها موطئ قدم وقدرة على التأثير. من هذه الدول المغرب وإسرائيل وتونس وحتى مصر.
مناسبة هذا الكلام زيارة رئيس الوزراء الفرنسي، مانويل فالز، للجزائر بداية هذا الأسبوع مرفوقا بعشرة وزراء وعدد من رجال الأعمال والمدراء التنفيذيين لكبريات الشركات التجارية والاقتصادية الفرنسية.
قبيل بدء زيارة فالز بأقل من 72 ساعة اندلعت أزمة بين بعض وسائل الإعلام الفرنسية والحكومة الجزائرية على خلفية «وثائق بنما». صحيفة لوموند العريقة تطرقت للموضوع في شقه الجزائري ونشرت صورة الرئيس بوتفليقة على الرغم من أنه غير مذكور بصراحة في التقرير، فثارت ثائرة المسؤولين الجزائريين وبعض وسائل الإعلام الجزائرية التي حاولت حرف النقاش من حضور الجزائر في الفضيحة إلى جزئية صورة بوتفليقة.
استدعت الخارجية الجزائرية السفير الفرنسي في الجزائر في تصرف دبلوماسي عقيم بدا أن الهدف منه الاستعراض وإثارة الضجيج أكثر من تصحيح الخطأ، لأن فرنسا دولة ديمقراطية تحترم نفسها ومؤسساتها وصحافتها، فلا يجرؤ فيها سفير أو حتى وزير خارجية على مساءلة «لوموند» أو توبيخها على صورة أو تقرير مهما كان غير دقيق.
الجزائر هي الدولة الوحيدة تقريبا، بين الدول المرتبطة بعلاقات خاصة مع فرنسا، التي لا أصدقاء أقوياء في الأوساط النافذة في الداخل الفرنسي: لا في أوساط المال والأعمال، لا في أوساط الأحزاب وجمعيات المجتمع المدني ولا في النقابات وقطاعات المثقفين.
يفرض هذا العجز نفسه بوضوح على الرغم من الزيارات المكثقة لمسؤولي البلدين في الاتجاهين، وعلى الرغم مما يبدو ظاهريا من تعاون اقتصادي كبير بين البلدين، ومن اتفاقات ما تنفك تُعقد هنا وهناك.
ربما لا تتحمل الجزائر مسؤولية كونها «الأكثر حضورا» في فرنسا لأن التاريخ هو السبب، ثم الجغرافيا وظروف ما بعد الاستقلال. إلا أنها تتحمل نصيبا كبيرا من المسؤولية في عدم تمكنها من انتزاع مكانة لها في مستعمِرتها السابقة. أحد أسباب هذا الواقع، عجز المسؤولين الجزائريين على نسج شبكة علاقات عامة (في فرنسا وفي غيرها)، وافتقارهم إلى القدرة على تكوين لوبيات والحفاظ عليها. إضافة إلى الحياد السلبي الذي توارثته مجموعات الحكم في الجزائر من ثقافة تسوِّق خطاب العداء لفرنسا علنا، ثم تسارع نحو باريس في السر بحثا عن الأمان الشخصي والمالي ولأجل العلاج والتبضع وكل شيء.
ولأن الأوساط السياسية ضيقة ومثل المرآة العاكسة (باريس ليست استثناءً)، لا يحتاج هذا الانفصام إلى وقت طويل لينكشف للفرنسيين مشجعا إياهم على تشكيل موقف غير ودي وغير إيجابي تجاه النخب الجزائرية الحاكمة.
العلاقة المتشنجة بين فرنسا والجزائر جعلت الأخيرة دائمة الارتباك في تعاطيها مع الأولى. وجعلت فرنسا لا تعرف، خارج اللهث وراء المصالح الاقتصادية، كيف تقم علاقات ثنائية سويّة مع الجزائر وماذا تستطع أن تقدم لها.
إذاً، الجزائر مشلولة بماضيها وفرنسا مريضة بذاكرتها الاستعمارية. والبلدان عاجزان عن علاج نفسيهما وطي صفحة الماضي لأنهما لم يستطعا النظر أحدهما تجاه الآخر بصراحة وصدق ومسؤولية. وقبل أن تكون مشكلة مع الآخر، هي مشكلة داخلية منفصلة يعاني منها كل بلد على انفراد وكأنه غير معني بالآخر.
في وضع كهذا لا يمكن انتظار معجزة تلطّف الأجواء اليوم التي تضاف إليها خلافات عميقة بين البلدين في أكثر من ملف، أبرزها ملفات الصحراء الغربية وليبيا وسوريا.
بقي الاقتصاد والمال كمجال وحده كفيل بإنقاذ العلاقات الجزائرية الفرنسية من النزول إلى درجة الركود. هنا تبدأ الاختلافات، فرنسا تعرف ماذا تريد، والجزائر لا تبدو كذلك. فرنسا تعتبر الجزائر حديقتها الخلفية ومستعمَرتها السابقة وملعبها التقليدي الذي لا يحق للغير الاقتراب منه. لكن الجزائر، ولأنها عاجزة عن المنافسة، ليست في وارد أن تقول شيئا عن فرنسا أو تصنفها في خانة متميزة.
لهذا تغيب الواقعية وتبدو المزاجية والمحاباة هي الغالبة في نظرة الجزائر الاقتصادية إلى فرنسا.. المزاجية المستسلمة والتي جعلت فرنسا تستحوذ على الكثير من الصفقات والقطاعات الاقتصادية والخدمية الجزائرية منذ تولى الرئيس بوتفليقة الحكم في 1999.
وقد كتبت بعض وسائل الإعلام الجزائرية الكثير عن تفضيل وزير الصناعة الجزائري، عبد السلام بوشوارب، الصريح للشركات الفرنسية في الصفقات والاتفاقات.
لكن ما يقال عن الوزير بوشوارب يقال مثله أضعافا عن الرئيس بوتفليقة. سر اللهاث الجزائري وراء فرنسا موجود في قصر الرئاسة أولاً، وما الوزارات والوزراء إلا رجع صدى لما يجري في الرئاسة مصدر الخلل.

٭ كاتب صحافي جزائري
http://www.alquds.uk/?p=561851

كلمات مفتاحية

شارك بالتعليق

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق