تاريخ

الحـملة الإنجليزية الهولنـدية على مدينة الجـزائر سـنة 1231هـ/ 1816م

من خلال مخطوط رحلة الشيخ سيدي عبد الرحمان التنلاني(ت 1233هـ)
(أقدم وأندر مخطوطة في الموضوع ، وأول شهادة عربية عينية حول الواقعة)

**************************************************************

المقال منشور للكاتب في مجلة ” تراث” التابعة لهيئة أبوظبي للثقافة والإعلام مدينة العين الإمارات العربية المتحدة العدد 131 أغسطس 2010 ص 140 وما بعدها

*****************************************************************

يعتبر الإقليم التواتي بما يحتويه من عشرات الخزائن وآلاف المخطوطات الخزان الحقيقي للتراث المخطوط في الجزائر عامة إذ تشير آخر الإحصاءات في هذا المجال أنه وحتى سنة 1962 كانت بالإقليم قرابة العشرين ألف مخطوط متوزعة على أزيد من 100خزانة ومكتبة محلية بالإضافة إلى عشرات النسخ التواتية المتواجدة في خزائن. مدن مالي و وموريتانيا و والنيجر وغانا ونيجيريا ،و مصر والمغرب وتونس، وغيرها.

وإذا حاولنا أن نلقي نظرة عامة على أهم هذه المخطوطات في واقعها الحالي ، فإننا نجد أن جل إنتاج هذه المرحلة قد ضاع مما ضاع من مخطوطات الإقليم ، وذلك بفعل عوامل الطبيعة القاسية ، أو بفعل عوامل الإنسان نفسه ، وإيمانا منا بمساهمة الجميع في الحفاظ على الذاكرة الجماعية للأمة، والوقوف على أثر علومنا العربية والإسلامية في مسيرة الحضارة الإنسانية من جهة ، وانطلاقا من وقوفنا الشخصي على كثير من المخطوطات التاريخية الهامة في صراعها حول رحلة البقاء – وما أصعبها – من جهة أخرى .آثرنا الوقوف عند واحد من أهم وأندر المخطوطات المحلية بالإقليم ، وذلك لما يحمله بين طياته من وقائع وشهادات حية ونادرة عن واحدة من أكبر الحملات التاريخية وأشدها ضراوة على مدينة الجزائر في العصر الحديث إنها الحملة الإنجليزية الهولندية بتاريخ 1213هـ الموافق 1816م.

فما هي أسباب تلك الحملة ؟ وما هي أهم أحداث مجرياتها ؟

ما هي أسباب انهزام الجيش الجزائري في هذه الحملة وما هي أهم النتائج التي أفضت إليها؟

وقبل كل هذا وذاك من هو صاحب الرحلة ؟ وما هي أهم مظان ومصادر معلوماته عن الواقعة؟أسئلة قليلة من محاور كثيرة نحاول أن نجيب عنها في هذا المقال علنا بذلك نساهم ولو بأقل القليل في نفض غبار النسيان عن تاريخنا العربي الإسلامي وما أكثره.

التعريف بصاحب الرحلة : (1)

يعتبر الشيخ سيدي عبد الرحمان بن إدريس بن عمر بن عبد القادر بن أحمد بن يوسف التنلاني. واحدا من أبرز علماء الإقليم التواتي خلال القرن الثاني عشر الهجري . ولد سنة 1181هـ بتنلان وكان عالما في أصول الفقه والتفسير أخذ كل ذلك عن شيوخ عدة نذكر منهم تمثيلا : الشيخ سيدي محمد ، و الشيخ سيدي محمد بن احميد .سافر الشيخ التنلاني إلى فاس وأخذ هناك عن الشيخ سيدي عبد القادر بن شقرون وغيره من أعلام عصره .

عرف الرجل بمشاعره الجياشة ، وفي قدرته الفائقة على قرض الشعر .ومما نستشهد له به في هذا المجال رائيته الرائعة في رثاء العالمين الجليلين : الشيخ سيدي عمر بن عبد الرحمان بن عبد القادر بن سيدي أحمد بن يوسف التنلاني(1221هـ)، والشيخ سيدي عبد الله بن الشيخ سيدي عبد الرحمان بن عمر التنلاني (1221هـ) أثناء سفرهما حيث ماتا في يوم واحد وهو يوم الرابع عشر من جمادي الأولى سنة( 1221هـ)، وذلك في الصحراء . ولقد هزت الحادثة كثيرا من شعراء المنطقة فكتبوا فيها عديد القصائد والمرثيات حيث قال الشيخ التنلاني في مطلع قصيده(2) على إيقاع الطويل :

ألا فـي سبيـل الله فيمـا أصـابـنا

#

من الهم والأحـزان والضيق والنـكر

لقد غمـرتـنا الحـادثات ببــؤسها

#

وحلت بنـا الرزايا من حيث لا ندري

توفي الشيخ سيدي عبد الرحمان إثر عودته من الحج في شهر جمادي الثانية سنة 1233هـ مخلفا لنا ديوان شعر به العديد من القصائد إضافة إلى رحلته المشهورة إلى الجزائر العاصمة سنة (1231هـ)(1816م) .

مخطوط رحلة الشيخ سيدي عبد الرحمان التنلاني إلى الجزائر سنة 1231هـ :

كتب الشيخ سيدي عبد الرحمان بن إدريس التواتي رحلته (3) المشهورة والتي قادته فيها المسيرة إلى الجزائر المحروسة بتاريخ أول شعبان سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف(1231هـ)(1816م) . وهو تاريخ الانطلاق من زاوية جده بتنلان مرورا ببلدة تيميمون(4) وبلاد الزاب بغارداية (5)أولا وكذا مدن المدية والبليدة (6)وأرض متيجة ثانيا ووصولا أخيرا مع طلوع فجر يوم الأربعاء إلى الجزائر المحروسة . حيث يقول في مقدمة الرحلة :

“الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأولين والآخرين وعلى ءاله وصحبه أجمعين وبعد : فلما قدر الله سفري لمحروسة ثغر الجزائر وكان سفري لها في أوائل شهر شعبان المنير أحد شهور سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف(1231هـ)، خرجت من بلدتنا زاوية تنلان ثالث الشهر المذكور ، وفي ثامنه دخلت بلدة تيميمون قاعدة قرارة ، وأقمت فيها تسعة أيام وخرجت في العاشر- وهو الثامن عشر منه – قاصدا مدينة الزاب ”

إلى أن قال في وسطها أثناء بلوغه مشارف مدينة الجزائر المحروسة :

“خرجت مع رجال من بني أمزاب قاصدين مدينة تطْر وهي أول عمالة صاحب الجزائر من هذه الطريق ، وتسمى ايضا لمدية ، وفيها الباي ابراهيم ، ودخلناها يوم الأحد عيد الفطر، وأقمنا فيها يومنا ذلك . وفي غده خرجنا منها عند الظهر ومشينا يوم ذاك وكثيرا من الليل ، وأصبحنا عند المدينة المسماة لبليدة وما أحسنها وأطرافها حازت جميع المحاسن ، وهي عروس ذلك الإقليم ، ولا يوجد لها فيه نظير . واشترينا فيها ما نحتاجه ليومنا ذاك من خبز أو إدام أو فاكهة ومشينا عنها ، وعند العصر دخلنا أرض متيجه ، ومشينا فيها إلى الغروب وبتنا هناك ومن هناك يسمع هدير البحر وتلاطم أمواجه، فلما قرب طلوع الفجر مشينا داخلين للجزائر ، ودخلناها وسط ضحى ذلك اليوم وهو يوم ألأربعاء، ونزلت في الفندق الجديد بباب عزوز اكتريت فيه بيتا وأقمت فيه ذالك اليوم وفي غده يوم الخميس اجتمعت بقاضي المالكية في الجزائر ، وهو الفقيه الأجل سيدي الحسن بن قاضي المالكية سيدي الحاج مصطفى الجزائري أصلا ودارا وتعارفت معه ووقعت بيني وبينه محبة أكيدة حتى صرنا لا نفترق في غالب أوقاتنا فجزاه الله عني في الدارين خيرا .” (7)

ولعل أهم انطباع خرج به الرحالة قبل دخوله أرض الجزائر المحروسة هو ملاحظاته الانطباعية على سكان وادي ميزاب، وما سجله من اختلافات مذهبية بينهم وبين سكان باقي الأقاليم الصحراوية .وقبل يوم أو يومين من دخوله مدينة الجزائر سجل لنا الشيخ أيضا انبهاره الشديد لحالة الاخضرار والتنظيم التي وقف عليها في أحياء وأطراف مدينة البليدة عروس الإقليم كما كانت تسمى ، ومدينة الورود كما هي الآن تسمى .

وأثناء دخول الشيخ سيدي عبد الرحمان بن إدريس مدينة الجزائر المحروسة وإقامته بها أرخ لنا لحادثة تاريخية هامة في تاريخ الجزائر آنذاك، وهي الهجوم الإنجليزي الهولندي على مدينة الجزائر(8) بقيادة اللورد اكسموث ، و بتاريخ عصر الأحد الثامن من شهر شوال سنة إحدى وثلاثين ومائتين وألف (08 شوال 1231هـ/ الموافق ل01 سبتمبر 1816م) ، والتي شاهدها بأم عينه ووصفها وصفا دقيقا حين قال :

” فلما كان يوم الأحد من شهر تاريخه عند العصر نزلت سفن عدو الله بدر لنجليز قرب الجزائر في البحر ، وهي أربعون سفينة ، وكل سفينة فيها مائة مدفع كبير ، كل مدفع عمارته قنطار بارود . ونزلوا بعيدا من المدينة بحيث لا تصلهم الرمية من الجزائر وأقاموا يومهم ذاك وغدهم كذلك ، وفي ضحى صبيحة الثلاثاء(9) بدلوا جميع أعلام سفنهم وجعلوها بيضا بعد أن كانت سودا .والأعلام البيض هي أعلام الصلح والعافية بخلاف السود فهي أعلام الحرب هذا هو اصطلاحهم .”

وقبل أن يخوض قائد جيوش العدو معركته مع الجيش الجزائري بادر بمكاتبة قائد الجزائر في محاولة لخداعه واستمالته وتخويفه من نتائج المعركة عليه وعلى جنده. حيث قال القائد النصراني في نص رسالته :

“اعلم أني جئتك ناصحا ومصلحا انظر هذا سلطان المغرب أحسن منك نسبا وأقوى مالا وأعظم جندا وأكثر بلادا ، كان مع جميع أجناس النصارى صلحا وعافية، هو على دينه وهم على أديانهم ، وانظر صاحب تونس وهو ضدك و أخوك صلحا مع جميع جنس النصارى ، وصاحب طرابلس كذلك ، كل واحد على دينه ، وكلهم صلحا وعافية وما فيهم من عادى النصارى وكأن الجهاد ما فرض إلا عليك ، ولو كنت عاقلا لاقتَدَيتَ بأمثالك . ولا تظن وإني مثل النصارى الذين تعرفهم وكنت تلاعبهم مثل افرنسيس ،واصبانيول وافلامينك …. وعدد عليه قبائل النصارى، بل أنا بدْر…. وعندي ألفَي قلاع جئتك منها بأربعين ….. واليوم اترك عنك هذا وأبدله بالصلح ، وإن أبيت عن الصلح فنعم ولكن أخذ الأسارى لايكون بيننا وشاور على هذا نفسك وكبراء دولتك وأجلتك ساعتين.” (10)

ويرى الشيخ التنلاني في معرض تعليقه على هذا الخطاب أن الرسالة لم يكن لها معنى أساسا على اعتبار أن القائد النصراني أمهل قائد الجزائر ساعتين فقط للرد وهو ما لم يكن كافيا أمام صاحب الجزائر لتحضير الرد بسبب انصراف أكابر البلد ورؤساء الجند إلى حقولهم لأن الوقت وقت خريف ، وهنا تعجل العدو الدخول فكان ما كان وفي ذلك كله يقول الشيخ سيدي عبد الرحمان بن إدريس في معرض حديثه في رحلته :

“… وبعث بهذا الكتاب مع شاوش له فلما بلغ الكتاب صاحب الجزائر وجد أكابر البلاد ورؤساء الجند مفترقين في الجنانات لأن هذه الواقعة وقعت في فصل الخريف وعادة البلد أن كل من عنده جنان يكون سكنا فيه ذالك الوقت ،فتعطل الجواب على النصراني ودخل بسفنه لداخل مرسى الجزائر ، وأراد الذين هناك يضربونه بالمدافع فحلف لهم القائد عليهم ويسمى علي قائد المرسى لو مد أحدكم يده للضرب لقطعتها له. قيل إن النصراني رشاه على ذلك بخمسين قنطارا وقيل بخمس وعشرين وقيل بخمسة عشر .فلما استقر النصراني بوسط المرسى كان أول ما بدأ به أسقط الماء الداخل لشرب البلد وما يتطهرون به ، رمى ساقية الماء بثلاثة مدافع ، ثم وَالَى على المدينة بالبارود وذلك بعد صلاة الظهر وقيل العصر فلم يزل يواليه عليها حتى قرب نصف الليل ومدة ذلك على التدقيق إحدى عشر ساعة غير سدس بالمكانة المحققة وعدة الكور الذي رمى بدر إحدى وأربعون ألف كورة على ما أخبر به شاوشه الذي عقد الصلح مع صاحب الجزائر. وبعد استقراره بالمرسى وتمكنه أحرق جميع سفن الجزائر وهي أربعة عشر سفينة كبار جدا ، فثلاثة عشر أحرقها حتى لم يبق لها أثر والربعة عشر بقي شيء منها .”(11)

ولم تكن هذه المشاهد الأليمة والمفجعة جميعها لتمر أمام أعين الكاتب سيدي عبد الرحمان دون أن تتحرك لها مشاعره ، وتتدفق أحاسيسه ، فيترك العنان لخياله ليصف لنا جلل المصيبة وأثرها على نفسية كل مسلم

“… وحرقه للسفن هو أعظم نكاية لم يبق فوقها نكاية ، وصارت تلك الليلة في الجزائر مع نهارها سواء ، ولولا شدة المبالغة لقيل ضوء تلك الليلة أشد من ضياء شمس نهارها ، ويالها من ليلة شابت فيها الولدان وأسقطت فيها الحوامل واشتد فيها البكاء والعويل وعظم فيها الكرب والهم والغم فوق ما يوصف ولا يخطر ببال ولا يقدر على الحقيقة شاعر ولا عاقل ولا فقيه ولا مداح ولا فصيح يصف هذه الواقعة بوصفها الحقيقي. ولا أدري بما أشبهها أمثل خرير الواد الكبير أو مثل الرحى أو مثل نزول البَرََد لا أدري ما يشبه ذلك وغايته أنه مثل الرعد القاصف من أول بدايته إلى نهايته متصلا كأنه مدفع واحد ، فلما كان نصف الليل نادى النصراني بالبيات إلى الصباح ، نادى في بوقه بعجميته حتى نصبح فسكت البارود ، فلما كان بعد صلاة الصبح نادى لعنه الله في بوقه نزيد في الحرب أم يكفينا هذا . وعلم صاحبالجزائر أنه لا طاقة له به ولا بحربه فطلب منه العافية فأجابه إليها على شروط أولها أن يرد إليه كل أسير عنده وهم يحسبون عنده في زمامه ثلاثة عشر مائة أسير واثنين وثلاثين أسيرا ، منها من قبيلة كذا وكذا ومن قبيلة كذا كذا وكذا وهكذا . وإن بقي أسير واحد فلا عافية . وثانيها أن النصارى خذلهم الله كانوا عام أول فادوا بعض أولادهم من أصحاب الجزائر وعددهم أحد عشر مائة أسير كل أسير بألف أريال دُرُ الكبير فشرط عليه أن يرد عليه جميع ما وقع به الفدى من الريال وإن بقي شيء من ذالك فلا عافية . وثالثها أن يطلق صاحب الجزائر لهم وهران وعنابه يكيلون منها الزرع ولا يدخل الأتراك بين النصارى وأرباب الزرع أهل الفلاحة في ذالك .” (12)

كانت هذه هي الشروط الثلاثية التي اشترطها القائد الإنجليزي في مقابل إيقاف الحرب ، وهي شروط وافق عليها قائد الجزائر جميعا على ما فيها من الإجحاف والظلم لأنه وببساطة لم تكن له القدرة الكافية على مواجهته كما سجل الشيخ التنلاني في رحلته حيث يقول :

” فأجابه إلى جميع ذالك فوقع الصلح بينهم وانعقد قيل خمس سنين وقيل سنة وقيل خمسة أشهر ما بلغني تحقيق ذالك عن ثقة . والقاضي المالكي أخبرني بوقوعه سنة فكتبوا ذالك وخرج اللعين من المرسى وأرسى سفنه بعيدا منها حتى وفد عليه جميع ما عند المسلمين من الأسارى ، وأما المال فما خرج من المرسى حتى استوفى قبضه . وخرب الجزائر خرابا عظيما لا تقع عين من فيها إلا على الخراب وزاد الخراب على خمسمائة دار كاملة وأما الغرف والمنارة فبغير حساب ، وأعظم من ذالك كله أسوار المرسى التي هي الحصن الحصين للجزائر فقد فُعل فيه ما يفعل بالخراب ، وأعظم من ذالك أيضا برج الفنار الذي شاع خبره شرقا وغربا برا وبحرا ولم يبق بلد إلا وفيه ذكر وناهيك بهذه البروج عظمة حتى أن وقوده من الزيت كل ليلة قلة زيت وهي بالجزائر ثلاثة عشر رطلا على ما قيل . وهذا البرج مما يقع افتخار الجزائر به على سائر مراسي الإسلام فإنه لا يوجد له نظير وهو العدة الوافية في تحصين الجزائر وحفظها فلا ، فلا يدخل مركوب للجزائر ولا يخرج إلا عليه وهذا البرج وحده يكفي في تحصينها ويغني عن غيره . فما زال عدو الله يوالي عليه بالكور حتى جعله دكا ، وعظمت عليه حسرة الإسلام واشتدت أكثر من غيره بأضعاف كثيرة . وكذالك الجامع الكبير للمالكية خربه حتى لم يبق إلا معالمه . ومات من المسلمين ثلاثمائة وإحدى وأربعين رجلا وسبعة وأربعين رجلا أكلهم البارود والكور . شاهدت في الجامع الكبيريوم التاسع بعد القتال رأس رجل، وكتف آخر، وكرش آخر بمصارينه .كانوا ينقلون خراب الجامع فكل ساعة يجدون مفصلا من رجل . الله تعالى يرحمهم جميعهم ونعم الموت ماتوا .وقد حدثني شيخ القراء بالجزائر سيدي عبد السلام الجبلي المغربي أنه كان مع جماعة يدفنون رجلا من أولاد الجزائر قد ذهبت فخذه وبعض كرشه فلما وضعوه في قبره قهقه قهقهة كبيرة حتى فر أكثر من على القبر(13) . قال الجبلي فقلت له يا شيخ هنيئا لك الشهادة .قال فمد له أصبعه السبابة. ومات من النصارى دمرهم الله على ما أخبر به شاوش النصراني ثلاثمائة رامي في سفينة ضربها المسلمون وغرقوها(14)، وغير هذا لا تحقيق عند أحد به وما شاع وما شاع عند كثير من الناس هناك أنه مات من النصارى خمسة عشر مائة فهو باطل والتحقيق هو ما في السفينة المغرقة.” (15)

ويستمر الشيخ سيدي عبد الرحمان في تسجيل وقائع الحادثة نقطة بنقطة معددا قتلاها وأسراها وناقلا لبنود صلحها الأخير (16). وهو كما قال : إنما اعتمد على مصدر مشاهدته هو أولا ثم على ما أبلغه به بعض الثقاة كقاضي المالكية بالجزائر آنذاك الفقيه سيدي الحسن بن القاضي سيد الحاج مصطفى الجزائري أصلا ودارا الذي التقى به وتعارف معه ووقعت بينهما محبة كبيرة حتى صارا لا يفــترقان في غــالب الأوقات كما قال:

“… فإني ما كتبت ولا نكتب إلا ما شاهدته بعيني ،أو أخبرني به ثقة مثل القاضي المالكي ،أو غيره من الثقاة في الجزائر وأقام عدو الله في البحر بعيدا من الجزائر حتى قضى جميع ما أراد . وفي غد الصلح بعث الجزائري …. للباي على بغل صاحبه بوهران يعلمه بالخبر ويوجه إليه سفينة ، وفي يوم الخامس وردت عليه تلك السفينة ووجهها لسلطانه سلطان محمود صاحب اسطنبول ، وكاتبه بما جرى بينه وبين النصارى ، وأعلمه بحقيقة ذلك كله وأكد عليه أن يوجه إليه مراكب ، ثم اشتغل بإصلاح ما أفسدته النصارى ، فكان يحمل الحطب الأخضر لطبخ الجير وأعد لذلك خمسمائة جمل تحمل كل يوم حملة . وجميع القبائل التي حول الجزائر يعطون ثلاثة أيام من عنده بردون أو بغل حمل عليه حملة كل يوم ثلاثة أيام ، وإلا فحمل حمارين لكل يوم ولكل رجل ومن لا بهيمة له حمل على رأسه أربع حزمات . وألف بغلة لحمل الحجر والجير ، وسبعين مُعَلما للبناء ، وأربعة عشر مائة خديم لكل خديم سبع موزونات وللمعلم اثنا عشر موزونات . فأول ما بدأ بإصلاحه سور المرسى ، وانفصلت من الجزائر وهو مشتغل بالمرسى لأن الاعتناء بها أكد من غيرها . وأما الدور والغرف والمنارة فلا يلتفت إليها حتى يفرغ منها . وقد أفرد طائفة من المعلمين لبناء المسجد الكبير المنسوب للمالكية . قلت وهدم عدو الله شيئا من قبة روضة العلامة الفقيه الإمام الولي أبي زيد الشيخ سيدي عبد الرحمان الثعالبي رضي الله عنه ، وكذالك هدم قبة مسجد الحنفية الذي عند سوق الحوت حسبت فيه أربعة عشر فرمة. “(17)

ويخبرنا الشيخ التنلاني أنه شاهد جميع تلك الوقائع المؤلمة ، من خلال إقامته هناك لمدة سبعة وثلاثين يوما عايش فيها هول الكارثة وكذا أهم آثارها السياسية ، والنفسية والاقتصادية والاجتماعية على حياة الأفراد داخل مدينة الجزائر ، وكذا بقية المدن المجاورة كقسنطينة وتلمسان ونحو ذلك حيث يقول :

” … وأقمت بالجزائر سبعة وثلاثين يوما كاملة وخرجت يوم ثمانية وثلاثين ….وفي مدة إقامتي بها ليس فيها بيع ولا شراء ،وعامة أهلها في هم وغم خوفا من رجوع ذالك النصراني أوغيره من طوائفهم لما علموا وحققوا من حقدهم عليهم وبغضهم لهم ….ولما وقع بالجزائر ما وقع انقطعت الطريق وقل الأمان بها في جميع نواحيها كل قافلة كانت في طريق من طرق الجزائر وقع فيها النهب والقتل حتى مضى لذالك نصف شهر ونحوه من مدينة قسنطينة إلى تلمسان كلها وقع فيها الخلل في حكمها وحكامها .كان الناس أيقنوا بخراب الجزائر واستيلاء النصارى عليها وقد كان ذالك . إلا أن الله تعالى تدارك عباده باللطف وما حال بين النصارى وأخذها بارود ولا سيوف ولا رجال وما حال بينهم وبينها إلا هو سبحانه وتعالى لأن الجزائر معظم قتالهم إنما يكون بالمدافع المركبة على سور المرسى وعلى برج الفنار ، وعلى ساحل البحر ناحية عين الرباط . والنصراني دخل تحت هذا كله حتى لصق بسور المرسى فكل مدفع خرج تمرُّ كورته فوق سفن النصارى بكثير ولا نفع لتلك المدافع كلها إلا لمن كان خارج المرسى وأما من كان في وسط المرسى فلا يُلحقُه من مدافع الجزائر ضرر لكونه تحت الرمية وبذالك خدع أهلها وكادهم مع أن الجزائر بلغه خبرهم قبل مجيئهم كاتبه بذالك مولانا سليمان نصره الله على ما سمعنا وكاتبه يهود الجزائر من مدينة القرنة (بالقاف الثلاثية)فما بالى بذالك ليقع ما قدره الله وأراد .” (18)

ويبدو أن الشيخ التنلاني كان يهدف إلى تدوين الحادثة وتأريخها من البداية ، ولذلك نجده لا يكتفي بسرد الأحداث والواقع العامة بل يتعداها إلى سرد أدق تفاصيل الموضوع من مثل ميزان كرات المدافع ، وكذا العدد النهائي للقتلى والجرحى ، وتعداد قوات العدو وعدتهم وما إلى ذلك :

“… وقد رمى دار السلطان باشا عمر بكوره وَزَنَها أصحاب الباشا المذكور فوجدوا فيها مائة رطل وإحدى وخمسين رطلا بالعطار ، وحضرت لوزنها ، وخرجت من دار الباشا قدر دويرة ومات تحتهامن حشم الباشا وعياله إحدى عشر نفسا على ما قيل . وهذا الباشا فيه من الشجاعة والنجدة أكثر ما يصف الواصف ، ولو أن أحدا يموت قبل أجله المقدر له ما عاش ذالك اليوم ولا بقي منه عظم ولا شيء من ثوبه .استقبل بوجهه وصدره الكور الذي ينزل مثل البَرَد وهو ينادي ويصيح يا عباد الله الجنة مفتوحة لكم أبوابها الجهاد يا أمة محمد الجهاد يا أمة محمد . وهو في ذالك مثل الجمل الفحل وزبده على فيه حتى غطى شواربه فجزاه الله خيرا على موقفه ذاك . وجميع مدافع الجزائر ما نفع منها شيء ذالك اليوم سوى المدافع التي في برج مولانا الحسن من جهة عين الرباط ومنه ضرب المركب الذي فيه ثلاثمائة نصراني ولكن ما تمكن من الضرب لمن في وسط المرسى حتى هدم المسلمون كثيرا من فندق يسمى فندق بني امزاب لحيلولته بين برج مولانا الحسن والمرسى فهدموا بعض طبقته العليا حتى تمكن للرامي من البرج المذكور رمي من في المرسى .وأما غيرهم من المدافع فلم تغن عنهم شيئا .” (19)

وبعد أن وضعت الحرب أوزارها بين الفريقين كان الشيخ التنلاني حاضرا أيضا في كل مكان من شوارع مدينة الجزائر يرصد أخبار ونتائج الحرب نقطة نقطة ،حيث استطاع خلال مدة ثمانية عشرة يوما – وهي مدة إقامة العدو- أن ينقل أهم ملامح خارطة مدينة الجزائر بعد الحرب .

“… وفي مدة إقامته لعنه الله خارج المرسى ينتظر أسراه كان أصحابه دمرهم الله يدخلون للجزائر بكرة وعشيا يتسوقون العنب والتين وجميع الفواكه والخضر والدجاج والغنم ، ويفتخرون بصنيعهم تصريحا ويقولون هذا الموضع هدمه أهل السفينة كذا وهذا أهل السفينة كذا ولا يقدر تركي ولا عربي يكلمهم حتى أقاموا هناك ثمانية عشر يوما وجاءه أسراه كلهم.” (20)

والشيخ التنلاني وهو يسجل أحداث الحملة في محاولة منه لتأريخها تمكن من الحصول على نص الرسالة التي بعث بها القائد الإنجليزي إلى قائد مدينة الجزائر بعد نهاية المعركة ، والتي راح يتبجح فيها بقوته وسلطانه ، ومكره ودهائه في الحرب . وبالمقابل راح يعترف لخصمه بقوته ومدى صبره لقرابة إحدى عشرة ساعة في الحرب وهذا على عكس جميع الحكام و السلاطين الذين التقى معهم في نزال من قبل حيث يقول القائد الإنجليزي في معرض رسالته المشروطة في الصلح والموجهة إلى حاكم الجزائر بعد نهاية الحرب :

” … اليوم علمت وأنك علمت وحققت بأني صادق فيما أخبرتك به قبل المقاتلة إنه لم يبق عربي ولا عجمي يضادني ، وما قاتلني أحد إلا غلبته وكل من حدثته نفسه بقوة وشجاعة قهرته وغلبته ولم يبق في بر ولا في بحر من قاف إلى قاف من عنده قرن إلا كسرته له بقوتي ومالي ، ولا تقل إني غدرتك فإن ملاقاة الأقران ومحاربتهم يكون بالقوة ويكون بالشجاعة ويكون بالمكيدة والحيلة، كما قيل الحرب خداع . وكما ينبغي لأمثالك أن يكون فيهم فضل جماعة فكذالك ينبغي لهم أن يكونوا أهل مكر وخديعة بل هذا أولى بهم وآكد في حقهم، ولو كنتَ متصفا بذالك ما توصلت أنا لما فعلته بك وبمدينتك ومع هذا كله فإني ما قاتلت أحدا قط وطاول معي مثلك نصراني ولا مسلم حتى أن سيدك وسلطانك صاحب اسطنبول قاتلته عام أول فما مضت ثلاث ساعات حتى أذعن وأطاع وأقر بالغلب ، وأنت قاتلتك إحدى عشر ساعة غير سدس فكان آخر قتالك مثل أوله .ولكن الذي أوصيك به لا تحقر الرجال ولا يكون القتال والحرب أحب إليك وأسرع من الصلح والعافية واجعل أيامك لك ولرعيتك أيام عافية ومسالمة يقضون فيها مصالحهم ويبيعون ويشترون ويزيد في أرزاقهم وبهذا يحبونك ويرجونك ، يسافرون لأي أرض أرادوا من غير خوفعليهم ولا حذر . وأما ما كنت عليه فلا يرتضيه عاقل .والمقصود من هذه الدنيا هو السير في الأرض برا وبحرا للأسباب والتجارات في عافية وأمان وأنت أعرف لنفسك والسلام .” (21)

ويختم الشيخ التنلاني حديثه عن هذه الحملة بالتأكيد مرة أخرى على مصادره في سرد الوقائع والأحداث والتي لم تخرج في مجملها عن ما شاهده الرجل بأم عينه ، أو ما وصل سمعه من مصادر ثقاة كما قال :

“… وهذا تحقيق ما وقع بين صاحب الجزائر الباشا عمر وبين بدر لنجليز طاغية أفلنقطرة – لعلها انقلترى – دمره الله وقطع دابره . بعضه مشاهدة وبعضه بطريق الخبر من الثقاة والسلام.وكتبه عبد الرحمان بن إدريس التواني التنلاني. ” (22)

وفي الختام بقي أن نشير إلى أن معظم الذين أرخوا للحادثة يرون في هذا المخطوط المصدر العربي الوحيد- إلى الآن على الأقل – في تسجيل وتدوين أحداث تلك الحملة ، وهو ما يكسب المخطوط أهميته البالغة في تاريخ الجزائر الحديث ، لما يحمله من حقائق تفصيلية غاية في الدقة والإحكام لكونها سجلت بعد مشاهد عينية واكب المؤلف أحداثها شخصيا ، و استمع فيها بالمقابل إلى شهادة كبار أعيان مدينة الجزائر وقتها .فجاء المخطوط في كل هذا وذاك حاملا لواحدة من أهم وأندر الشهادات التاريخية العينية في تاريخ الجزائر الحديث .

كما يجب التنويه أخيرا إلى أن مخطوط الرحلة جاء في ثلاث نسخ مختلفة .الأولى وردت في اثني عشر صفحة ، وهي منقولة من خط المؤلف بتاريخ أواسط ذي القعدة سنة أربع وأربعين ومائتين وألف (1244هـ) وناقلها هو محمد عبد الرحمان بن محمد . والثانية جاءت في خمس صفحات ونصف ، وهي بخط الشيخ سيدي أمحمد بن أحمد البداوي بن سيد المحضي (1261هـ). أما الثالثة فهي منسوخة حديثا بتاريخ ألف وأربعمائة وسبعة عشر (1417هـ) ووردت في ثلاثة عشر صفحة ( 13 ص) وهي بخط ناسخها الشيخ الحاج الطيب شاري . والمخطوط في كل هذا ينتظر أقلام المؤرخين والباحثين لتسليط مزيد من الضوء عليه تحقيقا ودراسة.

الهــــوامــش :

01/ ينظر ترجمته في : الدرة الفاخرة .ص 06. وكتاب الرحلة العلية ص36. وكتاب قطف الزهرات ص 81. 01/

02/ القصيدة مخطوطة في ثلاث صفحات وينظر أيضا: الغصن الداني ص 74 وما بعدها . و قطف الزهرات ص 89 وما بعدها.

03/ مخطوط الرحلة ورد في ثلاث نسخ .النسخة (ا )( 1244هـ) .خزانة قصر باعبد الله أدرار . النسخة (ب ) (1161هـ) خزانة قصر باعبد الله أدرار . النسخة (ج) خزانة قصر كوسام أدرار .

04/ من دوائر ولاية أدرار حاليا .

05/ من ولايات الجنوب الجزائري حاليا على بعد 800 كلم من إقليم توات ،و700 كلم من الجزائر العاصمة

06/ المدية والبلدية من المدن القريبة من الجزائر العاصمة .

07/ ينظر مخطوط الرحلة .

08/ ينظر أخبار الحملة في كتاب : الجزائر في عهد رياس البحر .وليم سبنسر .ترجمة د عبد القادر زبايدية .الشركة الجزائرية للنشر والتوزيع .ص 160 وما بعدها . وكتاب مذكرات الحاج أحمد الشريف الزهار نقيب أشراف الجزائر .تحقيق أحمد توفيق المدني .الطبعة الثانية 1168هـ/1246م.ص .117 وما بعدها . وكتاب مذكرات وليام شالر .قنصل أمريكا في الجزائر( 1816/1824) تعريب إسماعيل العربي الشركة الجزائرية للنشر .الجزائر 1982. ص 289 وما بعدها.

09/ الثلاثاء 10 شوال الموافق ل:03 سبتمبر 1816م.

10/ ينظر :مخطوط الرحلة

11/ ينظر :مخطوط الرحلة

12/ المصدر نفسه.

13/ ينظر تفاصيل عن تدمير قطع الأسطول الراسي في ميناء الجزائر .في تقرير لللورد إكسموث قائد المعركة .مذكرات وليان شالر. ص 303

14/ ذكر وليام شالر في مذكراته أن مجموع القتلى من البريطانيين بلغ 138 أما الجرحى فقد بلغ عددهم 695. أما في الجيش الهولندي فقد كان عدد القتلى 13 والجرحى 52 .أي أن المجموع من الجانبين بلغ 151 قتيل . 747 جريح . مذكرات وليام شارلر قنصل أمريكا في الجزائر 1816/1824 .ص 311/312.

15 / المصدر نفسه.

16/ ينظر : مذكرات وليام شالر ص 157

17 / المصدر نفسه.

18 / المصدر نفسه.

19 / المصدر نفسه.

20 / المصدر نفسه.

21 / المصدر نفسه.

22 / المصدر نفسه.

كلمات مفتاحية