تاريخ

السجن ولا الخضوع: معاناة بورقعة في زنازين بومدين

من مذكراته: شاهد على اغتيال الثورة

بعد أن حكم عليه نظام بومدين بثلاثين عاما لمشاركته في حركة تمرّد 11 ديسمبر 1967 واتهامه بالإنضمام لحركة كريم بلقاسم… حكمٌ صدر بعد عام كامل ذاق فيها كل أنواع الإرهاب والتعذيب في زنازين المخابرات من صيف 1968 إلى خريف 1969

السجن ولا الخضوع:
انتهى الفصل الأول من دراما الظلام…بأبطالها من الجلاّدين و المستنطقين الشاذين بهراواتهم وأسلحتهم وبطارياتهم الكهربائية ومختلف أدواتهم الجهنمية..وأعوانهم من الجرذان السامة و البق و القمل…وأشباح الوحدة و الإغتراب…
وانزاح الستار عن فصل جديد يستمر ثلاثين عاما في الظلام… كان وقع الحكم ثقيلا على نفس الأسرة والأصدقاء، انتهت اللحظات، ومن حظ أبنائي أنّهم كانوا صغارا لم يُدركوا بعد حجم المأساة… أخرجونا من قاعة المحكمة منهوكي القوى بعد ثلاثة أيام من الإبتزاز و الصراع و المقاومة النفسية ضد حرب أعصاب شرسة و أدخلونا باب السجن لنبدأ عهداً جديداً، ولما كان منتصف الليل جمعنا السجانون في قاعة بحضور مدير السجن ورجال الأمن، وطالب مدير السجن بأعلى صوته من كل المورطين في حركة 11 ديسمبر أن يكتبوا رسائل استعطاف إلى رئيس مجلس الثورة والحكومة يطلبون إليه العفو العام. امتثل الجميع لهذا الرأي وطفق كل من جهته يهيء أدواته وينتقي أجمال عبارات الترفق والإستجداء…وعلا صوت بعضهم وهو يتخير الأسلوب اللائق…أمّا آخرون فغيّروا أوراقهم مرارا حتى ينتهوا لأفضل صيغة تليق بمقام رئيس مجلس الثورة والحكومة… رفضتُ أن أكتب كلمة واحدة… إلتفت إليَّ الجميع وقد ملأت عيونهم الشفقة… ثم طلبوا مني ألا أبالغ في مواقفي المتطرفة…وقد تهامس بعضهم: قد يكون فقد الأمل…وقد يكون له مس في عقله… وترجاني مدير السجن رفقاً بأطفالي وتطوّع أن يكتب لي شخصياً رسالة استعطاف عليّ أن أمضيها فقط… رفضت جميع الإقتراحات… ورثيت لحال هولاء جميعاً… وفي نفسي هزء بهم وحزن عليهم لأنّهم لم يتعلموا من الأيام شيئاً…ولم يهظموا بعد هوية نظام الحكم…وحتى أضع حداً للمهاترات قلت لمسؤول رجال الأمن: ” إذا كان ولابد من طلب العفو من السطلة فإني أطالب أن تنقلونا من هذا السجن اللعين إلى أحد السجون المدنية مع المجرمين وقطاع الطرق…فذلك أفضل بكثير…” لم يعر أي منهم قيمة لكلامي…وهم فيما هم منشغلون يرقبون فجراً يخرج فيه عليهم نور الشمس…ورغم أنّ طلب العفو العام و التعلّق بالحرية هي من طبيعة الإنسان…لكن حجم الإهانة أكبر من حجم العطف… وقد أكّد هذه الحقيقة المسمى بن عطية عبد الرحمن بعد ثلاث سنوات سجن عندما بعث لي رسالة إلى السجن المدني يمدح موقفي في تلك الليلة التي أراد فيها النظام تقزيمنا وإهانتنا بعد أن أحكم نيره على رقابنا.
نظراً لموقفي المتصلب استدعاني رئيس المحكمة شخصياً لألتقيه على انفراد وقد فعل ذلك مع جميع السجناء إثر تسلّم رسائلهم الخاصة…دخلت على العقيد محمد بن أحمد عبد الغني الذي أصدر حكمه عليّ بثلاثين عاما سجناً نافذاً وأنا على ما أنا عليه من آثار التعذيب…والوسخ والإرهاب وهو العقيد الحديث الترقية تلتهب نياشينه ورتبه…ونظارته المذهبة الإطار… قال بصوت خافت: “لماذا لم تكتب رسالة استعطاف…أسوة برفاقك؟”
قلت لم أكتب الرسالة لأمر بسيط جداً “أنّ المحكمة التي حكمت عليّ بثلاثين عاما سجناً بإمكانها أن تحكم ببراءتي ولا تحتاج في ذلك إلى رسالة استعطاف…وما جدوى هذه الرسالة والحكم تقرر قبل دخولي إلى المحكمة؟”.
تمعّن مليا في وجهي وقال: “لاتيأس…لأنّ الحكم عليك مبدئي وليس حكماً نهائياً، وسيُسمح لك في أول مناسبة وطنية بالإنتقال إلى سجن بالعاصمة حتى تكون على مقربة من أسرتك…وفي فرصة أخرى سيتمّ العفو عنك…إذا لاثقة في هذه الحياة… من يدري أنه قد يأتي يوم أكون فيه أنا السجين وأنت الطليق…تلك هي سنة الحياة…!” توقف عن الحديث ينتظر ردي…لكني لم أجب…حتى لا أعطيه فرصة يعرف فيها ما إذا كنت أعارضه أو أوافقه كان حكم المحكمة يومها جزءاً من قدر الله وجزء من مسؤوليتي أمام الله وأمام الوطن الذي جُبلت على التضحية من أجله وقد كان شفيعي الأمل وإيماني بأنّ الغلبة للحق ضدّ الباطل وللفضيلة ضدّ الرذيلة…وإنّ الجهاد ليس نزهة خاطر ومرحلة من مراحل مسيرة الإنسان ينقطع بعدها لأمور دنياه ناسياً أنّه أنذر نفسه لما هو أشرف…الجهاد الأكبر بعد الجهاد الأصغر…
تنقّلت طيلة سبع سنوات ونصف السنة بين معظم سجون الجزائر وتعرّفت على زنزاناتها ظلوا ينقلونني من سجن لآخر لكن حرارة استقبال المساجين وحفاوتهم كانت تنسيني ما أنا عليه من بؤس وشعور بالظلم… وأكسبتني السجون حكماً عديدة…وصداقات لازلت أعتز بها… فكم من سجين في غياهب الظلام يدفع من عمره ثمناً لحرية الآخرين الذين ليس بإمكانهم أن يُقدموا على التضحية مكابرين وكم من مجرم في نظر القانون والأنظمة وهو البريء المخلص والوطني الصادق وما أكثر من يحسبون أنفسهم أحرارًا وهم السجناء الحق.
مكثت في سجون النظام سبع سنوات ونصف السنة… لم يُخامرني طيلتها شعورٌ بالإحباط والتشاؤم وظلّ القلب ينبع بشلالات الأمل…صُنتُ كرامتي رغم أسلوب الإهانة في السجون…وارتبطت باسم مستقبل وطن صنعته قطرات دم الشهداء الأوفياء ورعته دموع ثكلاهم وأيتامهم…وطنٌ بُني على أجساد وأرواح من قال فيهم تعالى:
“وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ”
صدق الله العظيم (سورة آل عمران، الآية 169)

3 تعليقاً

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق

  • لانحزن يا سيد بورقعة ,فهؤلاء هم الرجال موعدهم الجنة دنيا واخرة, ليس كمن باع دينه واستبدله بالنظام اليهودي الماركسي لاذلال الشعوب والهيمنة الكلية على دفة الحكم بمساعدة البروليتارية الجاهلة .وعندما انتهوا من هذا المدعي بانه قائد الثورة وضعوا له السم لان لم يكن يعلم ان مهمته قد انتهت. اما الرجال النزهاء فباقونا على العهد برعاية المولى عز وجل لن يصيبهم الا ما كتب الله لهم .

  • Si Boumédiène et son régime représentaient la pire des dictatures aux dires de nombreuses personnes, pourquoi n’a-t-il pas condamné à mort et exécuté ses opposants…C’est lui qui a été tué…Ceux qui parlent de dictature, ne savent pas ce que c’est réellement…allez visiter les geôles égyptiennes sous le crétin actuel (zizi) et vous m’en direz des nouvelles…: des disparitions, des assassinats, des exécutions, des abus envers les prisonniers et leurs familles…et j’en passe!!! Bouregaa lui–même qui parle de torture dans sa prison dit que le directeur de la prison lui a demandé d’écrire sa demande de grâce…Il me semble que c’est tout de même une marque d’empathie assez étonnante de la part d’un tortionnaire.

  • اسأل الله القدير ان يعوضك في هذه الدنيا خيرا، و سوف يجزيك الله خير الحياة في الآخرة ،لا تحزن لما يجري في البلاد لأنك على الأقل انت تعلم ، المصيبة فينا نحن جيل الإستقلال الذين لا نعلم ونخدُم الطغات ونأتمِر لأمرهم ونسعى إلى تدمير ما ابْتذِل من طرف آبائِنا وأجدادنا، إن كان لزامًا علينا أن نطهّر البلاد من سلالتهم ، فسيحين يوم الميعاد لإعادة الكرّة و الصاع صاعين إنشاء الله جلّ و على.
    لا تحزن على ما فاتك ، فلعل الآتي سينصفك يا أبي و يا افتخاري و يا أعزّ ما نفتخر لسماعه أو حتى لذكر اسمه يا سيدي بورقعة المجاهد الصادق الصامد.
    و السلام عليكم