مقالات

صالحوا الشعوب على الطريقة الأرجنتينية! د. فيصل القاسم

Reynaldo_Bignone

2009.11.11
قلما تجد نظاماً عربياً لم تتلوث يداه بدماء شعبه، فماضي العديد من الأنظمة كان ومازال دموياً بامتياز، بدءاً بدول المغرب العربي وانتهاء بدول المشرق، فمازالت فترة “سنوات الرصاص” في المغرب ماثلة للعيان، حيث شهدت تلك الحقبة التاريخية بعد قصف الريف المغربي، انتهاكات دأب النظام وقتها على ممارستها ضد معارضيه من اعتقال قسري بدون محاكمة إلى سرية أماكن الاعتقال أو حتى الاختفاء والتذويب بالأسيد.

وكلنا يتذكر ما حدث للمعارض الشهير المهدي بن بركة، ناهيك عن الممارسات الجهنمية الفظيعة التي اقترفتها أجهزة الأمن المغربية بحق السجناء في السجون المغربية سيئة الصيت كـ “الصخيرات وتزمامارت” وغيرهما من المعتقلات الرهيبة التي قلما تجد لها مثيلاً في تاريخ الهمجية البشرية.
وليس بعيداً عن المغرب، شهدت الجزائر فترة دموية عصيبة امتدت لحوالي عقد من الزمان، وأدت إلى مقتل مئات الألوف من الشعب الجزائري في خضم الصراع بين الدولة ومناوئيها.
وفي ليبيا مازال المعارضون يطالبون حتى هذه اللحظة بإغلاق سجن “أبو سليم” الرهيب الذي شهد حصد أرواح الألوف من المساجين على أيدي أجهزة الأمن الليبية. ناهيك عن الاتهامات الأخرى التي توجهها منظمات حقوق الإنسان للسلطات الليبية على ضربها بيد من حديد لكل من تسول له نفسه مجرد انتقاد النظام.
صحيح أن تونس لم تشهد صراعات دموية كبيرة بين النظام ومعارضيه، إلا المعارضة التونسية تتحدث عن ممارسات دموية بحق الشعب التونسي على أيدي أجهزة الأمن يندى لها الجبين حتى هذه اللحظة.
وبدورها، شهدت مصر معارك طاحنة بين النظام ومعارضيه، وخاصة الإسلاميين منهم، كانت لغة التواصل الوحيدة مع الإسلاميين وما زالت هي لغة الحديدة والنار والبارود. وقد راح في خضم تلك المعارك العديد من الضحايا الأبرياء.
وقد كانت حقبة الثمانينات في سوريا حقبة عصيبة سالت خلالها دماء غزيرة بعد الصراع المرير بين النظام الحاكم وجماعة الإخوان المسلمين، وعانت البلاد إبانها الويلات مادياً وبشرياً.
واليوم لم يكتف النظام اليمني بضرب معارضيه بالسياط وزجهم في السجون، بل وصل به الأمر إلى استخدام كافة أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات الحربية لسحق الحوثيين وسط مباركة عربية واضحة، لا بل إن بعض جيرانه العرب راحوا يساعدونه عسكرياً في سحق الحوثيين ومحوهم عن بكرة أبيهم.
وبدورها، أهلكت أجهزة الأمن السودانية أرواح الألوف من السودانيين بنفس الطريقة العربية التقليدية، ألا وهو السحق والمحق. ومازالت تحصد أرواح الألوف في مناطق الصراع كدارفور وغيرها.
صحيح أن المغرب والجزائر كانتا أفضل من بقية الدول العربية في عملية التصالح ورأب الصدع مع جراح الماضي. فقد سنت الجزائر العديد من قوانين المصالحة وتضميد الجروح، فكان هناك قانون السلم والرحمة، ثم الوئام وغيرها. وقد نجح النظام الجزائري في رأب الصدع نوعاً ما بين السلطة والشعب.
وصحيح أيضاً أن المصالحة في المغرب قطعت شوطاً لا بأس به، حيث حاول النظام الظهور بمظهر الذي يريد التكفير عن ذنوبه الكثيرة بحق شعبه ومعارضيه. وهو فعل جدير بالاحترام في عالم عربي يرفض الاعتراف بأي ذنب.
لكن المصالحات العربية تبقى ناقصة مقارنة بالمصالحات التي تجريها البلدان التي تحترم نفسها كالأرجنتين مثلاً. فعلى الرغم من مرور حوالي أربعين عاماً على المجازر التي ارتكبتها أجهزة الأمن الأرجنتينية بحق بعض الأشخاص خلال الحقبة الديكتاتورية، إلا أن الدولة الأرجنتينية لم تعمل بمبدإ “عفا الله عما سلف”، ولم تحاول التغطية على تلك الفترة الدموية من تاريخها، كما تفعل الدول العربية الوالغة في دماء شعوبها. فقد بدأت المحاكم الأرجنتينية بملاحقة المتهمين بانتهاكات حقوق الإنسان من الفترة الممتدة من عام 1976 وحتى عام 1983. ومن المتوقع أن يقع في شباك المحاكم العشرات من كبار ضباط المخابرات والأمن الأرجنتينيين. وفي حال تورطهم، فإنهم سيودعون السجون على ما اقترفت أياديهم من جرائم بحق الشعب الأرجنتيني.
على العكس من ذلك، نجد أن معظم الجنرالات والضباط الكبار الذي قتلوا المئات من الأشخاص في البلدان العربية، إما أنهم يقضون بقية حياتهم معززين مكرمين في قصور وفيلات منيفة في أجمل وأرقى المناطق السكنية، أو أنهم يستثمرون الملايين التي نهبوها خلال فترة خدمتهم داخل البلاد العربية في المطاعم والمراقص والملاهي والعقارات الفاخرة، أو في العواصم الغربية. فهناك ضباط عرب كبار يستثمرون في العقارات والبارات في بعض الدول الغربية، ناهيك عن أنهم يحتفظون بحسابات دسمة جداً في البنوك الغربية. فليس من عادة الأنظمة العربية إلا أن تكرم كل من خدمها أمنياً، وذلك بحمايته من الملاحقة وتحصينه ضد كل القوانين الوطنية، لا بل بإغداق الثروات والامتيازات عليه بعد انتهاء فترة خدمته. وغالباً ما تقوم بعض الدول بترقية ضباطها كلما ثار اللغط حول همجيتهم، أو بعد قيامهم بمجازر من النوع الرهيب.
وحتى الدول التي أجرت نوعاً من المصالحة كالمغرب مع ضحايا الأجهزة، فهي لم تقدم على معاقبة ضابط واحد. فمازال كبار الضباط يسرحون ويمرحون على هواهم، مع العلم أن بعضهم كان يعود إلى بيته عند الفجر وثيابه ملطخة بدماء الضحايا الذين كان يعذبهم في أقبية وزارات الداخلية.
ومن غير المتوقع أبداً أن تعاقب الدول العربية ضباط الأمن لأنهم عماد الأنظمة وحماتها الأوائل. ولو أقدم نظام عربي على معاقبة ضابط أمني ما فإن ذلك قد يهز العلاقة بين المؤسسة الأمنية والنظام. هل شاهدتم يوماً مخبراً يمثل أمام محكمة عربية؟ بالطبع لا، فالأجهزة الأمنية في بلادنا محمية من رأس النظام حتى لو سحقت البلاد والعباد. بعبارة أخرى، فإن المصلحة متبادلة بين الجانبين؛ الأجهزة تحمي النظام والنظام يحميها. كيف لا والجانبان كل لا يتجزأ، خاصة وأنه لا سلطة تنفيذية ولا تشريعية ولا قضائية في العالم العربي، بل هناك سلطة تحتكر كل السلطات، ألا وهي السلطة الأمنية.
لا شك أنه كان من حق بعض الدول أن تتصدى لبعض الجماعات التخريبية التي كانت تريد أفغنة وصوملة بعض البلدان العربية. ولا شك أيضاً أن من حق الدولة احتكار العنف حسب المفكر الألماني ماكس فيبر. لكن بشرط أن يكون النظام الذي يحكم الدولة منتخباً من قبل الشعب، وليس قادماً إلى سدة الحكم على ظهور الدبابات أو بالانقلابات أو عن طريق البطش والإرهاب، كما هو حال العديد من الدول العربية. زد على ذلك أن بعض الدول العربية لا تستخدم العنف المشروع، بل تتصرف بعقلية قطاع الطرق والعصابات الفالتة من عقالها، فتبدو تصرفاتها مع شعوبها على أنه أقرب إلى الحروب منها إلى الضبط والقيادة.
صحيح أنه بود الشعوب العربية أن ترى حكامها يتعاملون معها على الطريقة الأرجنتينية وذلك بمعاقبة الأجهزة التي أساءت للشعوب، لكن ذلك ضرب من المستحيل، فليس من المعقول أبداً أن يعاقب الطغاة الطواغيت. ولو لم تنتقل الأرجنتين من الحقبة الديكتاتورية إلى الحقبة الديموقراطية لما رأينا ضابط أمن أرجنتينياً واحداً يخضع للمحاكمة. بعبارة أخرى فإن ما يحدث في الأرجنتين هو محكمة الديموقراطية للديكتاتورية القديمة البائدة. أما عندنا فما زالت الديكتاتورية في أوج ازدهارها. وبالتالي لا تتوقعي أيتها الشعوب إلا مزيداً من البطش والتنكيل.