سياسة

نظرات في كتابات المؤرخ محفوظ قداش (1921-2006)

أد. مولود عويمر

في 30 جويلية 2006 توفيّ المؤرخ محفوظ قداش (1921-2006)، بعد عمر مديد عامر بالعطاء العلمي، وحافل بالنضال الاجتماعي والنشاط السياسي. ولئن كان قد عُرف خصوصا بكتاباته في تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية في النصف الأول من القرن العشرين، والحركة الاستقلالية بخاصة، فما كان ذلك في الواقع إلا جانبا واحدا من جوانب اهتماماته المتعددة، فقد عني أيضا بدراسة فترات تاريخية متباعدة، قدم خلالها العقل الجزائري إسهامات كثيرة في مختلف المجالات الحضارية عبر العصور.

كـتـب ومـقالات في التـاريخ

استهل محفوظ قداش مساره العلمي مبكرا ببحثين عن القصبة في العهد العثماني، حيث نشر في عام 1951 كتابين صغيرين:”القصبة في عهد الأتراك” و”القصبة في أيامنا الراهنة”. ولفت الكتابان انتباه المؤرخ مارسل إيميري فقام بعرض محتواهما، وروّج لهما في “المجلة الإفريقية” المعروفة باعتبار العملين “دراسة جميلة ومنصفة وعميقة”.

استمر قداش في البحث التاريخي، ونشر أعماله لما توفرت شروط الطبع، وأذكر هنا بعض العناوين:”الأمير عبد القادر”، “الأمير خالد، وثائق وشهادات لاستخدامها في دراسة الحركة الوطنية الجزائرية”، و”الجزائر الجزائريين”، “الجزائر في العصور القديمة”، و”الجزائر في العصور الوسطى”، و”الجزائر في العهد العثماني”، و”الجزائر المعاصرة”، و”والجزائر تحررت”،…الخ.

وكان يرحب بكل عمل علمي جماعي يلمس فيه الجدية والتكامل، ونرى ذلك في التعاون مع صديقه الأستاذ جيلالي صاري على تأليف كتاب حول “الجزائر في التاريخ: المقاومة السياسية (1900-1954)، ونشر كتابين مع الأستاذ محمد قنانش، وهما: “نجم شمال إفريقيا (1926-1937)” و”حزب الشعب الجزائري (1937-1939)”. ونرى هذا أيضا في الفصل الذي كتبه عن الأمير خالد ضمن الموسوعة المعروفة “الأفارقة” التي كان يديرها المؤرخ الشهير شارل أندري جوليان.

لقد كتب كل مؤلفاته باللغة الفرنسية وترجمت العديد منها إلى اللغة العربية، فكتاب “الجزائر في العصور القديمة” قد ترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ صالح عباد، وكتاب “الجزائر في التاريخ: المقاومة السياسية (1900-1954)، قد ترجمه عبد القادر بن حراث وصدر عن المؤسسة الوطنية للكتاب، كما تم تعريب كتاب “وتحررت الجزائر”، وكتاب “تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية”، وصدرا عن دار الأمة في عام 2011…

على أن اشتغاله بالكتابة والتدريس في جامعة الجزائر والعمل الإداري والمساهمة في النشاط الثقافي في البلاد وخارجها، لم يصرفه عن التحصيل الدراسي ومواصلة البحث العلمي، فأنجز بحثا حول “الحياة السياسية بالجزائر العاصمة بين 1919 و1939″، وتحصل بفضله على شهادة دكتوراه الدور الثالث في عام 1969.

ولم يتوقف طموحه عند هذا الحد، إذ أعد بحثا آخر حول موضوع: “تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، المسألة الوطنية وسياسة فرنسا الجزائرية (1919-1951)”، ونال به شهادة دكتوراه الدولة في عام 1979 أي أن إعداده استغرق قرابة عشرة عاما. وقد أشرف على هذه الأطروحة الأستاذ كزافييه ياكونو أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة تولوز، والذي سبق وأن شغل نفس المنصب خلال سنوات طويلة بجامعة الجزائر.

وطبع قداش عمله الجامعي الأول في المؤسسة الوطنية للكتاب في عام 1970، وتضمن 390 صفحة. أما العمل الأكاديمي الثاني فقد أصدره في عام 1981، وهو سفر ضخم يقع في جزأين، ويحتوي على 1113 صفحة. تناول المؤلف في الجزء الأول تاريخ الجزائر السياسي ما بين الحربين (1919-1939)، ودرس في الفصل الثاني نفس الموضوع في الفترة الممتدة بين 1939 و1951.

ولقد لقيت هذه الإصدارات استحسانا لدى الباحثين الجزائريين والأجانب الذين قدموا لها عروضا نقدية منصفة، واستعانوا بها في أبحاثهم خاصة وأن هذه الأعمال هي باكورة البحث في تاريخ الجزائر السياسي المعاصر بقلم باحث جزائري بعد أن كانت العمدة في هذا التخصص مقتصرا حصريا على كتابات المؤرخين الفرنسيين أمثال شارل-أندري جوليان وأندري نوشي وروجيه لوتورنو وشارل-روبير آجرون…الخ.

وما زالت للكتابين مكانة راقية في البحث التاريخي رغم مرور السنين وصدور مؤلفات وبحوث كثيرة وظهور وثائق جديدة. وتدعم الكتاب الثاني لقداش بصدور الطبعة العربية لكتاب “الحركة الوطنية الجزائرية” للدكتور أبي القاسم سعد الله وكذلك طبع أجزائه الأخرى التي تناولت النشاط السياسي في الجزائر بين 1830 و1954.

وساهم الدكتور قداش في تأسيس “مجلة تاريخ وحضارة المغرب” في عام 1966 أملا عنده في أن تحل محل “المجلة الإفريقية” المعروفة التي كانت تصدر عن الجمعية التاريخية الجزائرية في الفترة الممتدة بين 1856 و1962، وعنيت عناية خاصة بتاريخ الجزائر وتراثها عبر العصور.

ونشر قداش وغيره من المؤرخين الجزائريين والفرنسيين والأسبان مجموعة من المقالات والبحوث القيمة باللغتين العربية والفرنسية في هذه المجلة الجديدة الواعدة التي لم تعمر، وتوقفت نهائيا بعد صدور العدد 13.

وشارك الأستاذ قداش أيضا في إصدار “مجلة الدراسات التاريخية” التي كانت تصدر عن معهد التاريخ بجامعة الجزائر، وكان من أعضاء هيئة تحريرها، وإن لم ينشر فيها أية مساهمة تاريخية، بينما نشر عدة دراسات في المجلات الجزائرية أذكر منها “الثقافة” و”الأصالة”، وفي بعض المجلات الأجنبية مثل “مجلة تاريخ الحرب العالمية الثانية” (باريس) التي نشر فيها مقالا حول الرأي العام الجزائري بين 1939 و1942.

قـضايـا وموضوعـات

يعتبر الدكتور محفوظ قداش التاريخ “ذاكرة الشعوب ومنبع هويتها وشخصيتها”. وتتميز هذه الشخصية الجزائرية في نظره بعدة مواصفات وهي تتمثل في: “التمسك بالأرض، والتشبث بالحرية والدفاع عنهما بحد السلاح”.

ويميّز الدكتور قداش بين التاريخ الأيديولوجي والتاريخ “الصادق الحقيقي”، وحدّد منهج كتابة التاريخ في “عدم تمجيد للماضي المبالغ بالثأر أو الانتقام من الكتابات المنسوبة للمستعمرين القدماء”. فليس كل ما كتبه المؤرخون الفرنسيون غثا ومرفوضا، فهنالك من كتب بموضوعية وإنصاف، فمهمة المؤرخ الجزائري تتمثل في الاستفادة من كل البحوث التي تتسم بالأمانة العلمية والصرامة الأكاديمية بغض النظر عن جنسية أو عقيدة صاحبها.

ويؤكد باستمرار على أهمية الوثائق في الكتابة التاريخية، فالمؤرخ مجبر دائما على كشف مصادره المتنوعة مكتوبة أو شفوية، وعرض محتوياتها وتمحيصها وفق “النقد العلمي الصارم” ثم الاستعانة بها في بناء نصه التاريخي «بإبراز الأحداث والوقائع وتحليل الأوضاع الحقيقية التي بإمكان الشروح والتفسيرات التي تتمخض عنها أن تكون أكثر جدية وموضوعية».

ونظرا لهذه الأهمية العلمية، شجع محفوظ قداش المناضلين السياسيين على كتابة شهاداتهم ونشر الوثائق التي بحوزتهم حتى يستفيد منها البحث التاريخي. وفي هذا السياق تعاون مع صديقه المناضل الكبير الأستاذ محمد قنانش على نشر الوثائق المتعلقة بالحزبين الاستقلاليين نجم شمال إفريقيا وحزب الشعب.

كما لم يتردد في كتابة تصدير للمذكرات كما فعل مع “شهادة مناضل من الحركة الوطنية” لمحمود عبدون الذي ناضل في الحركة الاستقلالية والجمعيات الرياضية الوطنية خلال الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.

كانت كتابته الأولى –باستثناء كتابه التمهيدي حول القصبة- منصبة حول تاريخ الجزائر المعاصر ثم انتقل إلى فترات تاريخية أخرى، وهكذا نجده يطرح كل الإشكاليات المرتبطة بالوجود العثماني في الجزائر، ويرد على كل واحدة منها، ليصل في نهاية مقاله النفيس إلى القناعة التاريخية التالية: «ظهرت ابتداء من العهد التركي تلك القومية الجزائرية التي كنا دائما ننادي بوجودها في عهد الاستعمار الفرنسي، والتي كنا نطالب باسترجاعها وباستعادة الجزائر لسيادتها القومية، وبالتالي لاستقلالها».

اهتم قداش بالمقاومة الشعبية خلال القرن التاسع عشر، فدرس شخصية الأمير عبد القادر بن محي الدين الجزائري، وعني عناية خاصة بجيشه وتنظيمه الإداري المحكم الذي ينم عن قيادة راشدة وطموح كبير لبناء دولة واستعادة مجد قديم.

كما توَقف عند ثورة المقراني (1870) التي اعتبرها من الثورات الكبرى التي حمل لواءها رجال الدين المنتسبون للطريقة الرحمانية. وقد اجتمعت في هذه الثورة الخالدة الحوافز الدينية والدوافع النفسية والسياسية والعوامل الاقتصادية والاجتماعية. وقد عبر قداش عن هذا المعنى بقوله: «لقد كان النضال من أجل حماية الدين، ومن أجل الحرية والاستقلال يمتزج مع النضال في سبيل الدفاع عن الأرض».

لقد نالت شخصية الأمير خالد الهاشمي قدرا كبيرا من حياته العلمية في دراسة تاريخ الجزائر المعاصر، فقد عني بمختلف مراحل حياته العسكرية، واهتم بأعماله الصحفية وأولى نشاطاته السياسية رعاية شديدة واعتبره الرائد الأول في الحركة الوطنية.

واختلف مع بعض المؤرخين الفرنسيين حول أهمية هذه الشخصية الرمزية، وكذلك مصيره بعد عام 1925. فالأستاذ قداش كان يرى أن الأمير خالد رحل من الجزائر بعد أن قامت سلطة الاحتلال الفرنسية بنفيه إلى الشام، بينما يرى المؤرخ شارل روبير آجرون أن الأمير خالد غادر الجزائر بمحض إرادته بعد أن فشل في عمله السياسي.

لم تنطلق الثورة الجزائرية من الصفر، فهناك جهود كثيرة ساهمت في نشر الوعي الوطني وبناء الإنسان الرافض لكل أنواع العبودية والاستغلال، ولا شك أن قداش أدرك مبكرا الظلم الاستعماري وسعى دائما للتحرر من سيطرته.

ووجد ضالته في الكشافة الإسلامية الجزائرية التي انخرط فيها مبكرا، ونشأ في أحضانها حتى صار بعد ذلك القائد العام لهذه الحركة الشبانية في سنة 1950. وقد أكد مرارا في محاضراته وكتاباته أن هذه الجمعية كانت بحق مدرسة في تكوين الوعي الوطني وبناء الإنسان السوي، فهي كما قال:«لن تفتأ تعمل في سبيل تكوين شاب مسلم شهم ذي وعي تام».

كما اهتم بدراسة مجازر 8 ماي 1945 واعتبر هذه المحطة الفاصلة عاملا أساسيا في تعميق الوعي الوطني وترسيخ قناعة المناضلين الجزائريين بالمقاومة المسلحة باعتبارها الوسيلة الوحيدة لتغيير مصير الحركة الاستعمارية والقضاء على مشاريعها الاستيطانية، وتحقيق استقلال الجزائر.

لقد اعتنى محفوظ قداش بكتابة تاريخ الثورة التحريرية، وخصّ لها كتابا كاملا عنوانه: “وتحررت الجزائر” تناول خلاله المراحل المختلفة لهذه الثورة بأسلوب واضح، وبيّن مساهمات كل الفئات الاجتماعية في الكفاح الوطني المسلح، وحلل مواقف قادتها واختلاف وجهات نظرهم في بعض القضايا، وعرض الردود الداخلية والخارجية تجاه تطوّر الأحداث محليا ودوليا.

ومن المفيد أن أشير هنا أن هذا الكتاب كان موجها إلى جمهور القُراء العريض وخاصة الشباب ليستلهم الدروس من بطولات أسلافه في معركة التحرير تطلعا في عهد جديد من الحرية والتقدم.

ولم يكتف الدكتور قداش بذلك، بل قدم محاضرات عديدة مؤكدا دائما على مساهمات الشرائح المختلفة من المجتمع الجزائري كالفلاحين والمرأة في العمل الثوري بالطرق المتنوعة لتحقيق انتصارات عديدة ضد المستعمِرين الغزاة.

وبقي أن نطرح السؤال التالي: ما هي مساهمات الأستاذ قداش في هذه الثورة؟ يقول عبد الحميد مهري في الرد عن هذا السؤال:«إن المرحوم محفوظ قداش كان من الإخوة الذين كانت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ترسل عن طريقهم تعليماتها لتنظيمات الثورة في الداخل، وفي عاصمة البلاد بصفة خاصة، أثناء الفترة الصعبة التي انقطعت فيها وسائل الاتصال المعتادة. وكنت مع الأخ عبد الحفيظ بوصوف رحمه الله والأخ عبد الله بن طبال أطال الله عمره، نكوّن فوجا مصغرا كلفته الحكومة برعاية بعض القنوات الخاصة لهذا الاتصال بالداخل. فالإدلاء بهذه الشهادة لا يستند لرواية أو تخمين بل لمعرفة مباشرة، والإدلاء بها على ما أعتقد واجب في حق التاريخ، وواجب في حق محفوظ قداش المؤرخ، الذي كان حريصا على التمحيص فيما يصدر من أحكام، وواجب في حق محفوظ قداش المواطن الذي كان يقوم بهذه المهمة الخطرة، وهو في موقع عمل وظيفي يربطه بالإدارة الفرنسية ويجلب له أكثر من شبهة».

وما هذه الشهادة إلا نموذج فحسب، ولا شك أن هذا الموضوع يمكن أن يصبح مجالا خصبا للدراسة والبحث، للكشف عن مساهمات رجال ونساء من النخبة الحضرية في الثورة التحريرية، والذين ناضلوا في ظروف خاصة وفي سرية تامة لا يعلمها إلا قادة الثورة الذين كانوا يشرفون عليهم بشكل مباشر.

الاعتراف بإسهاماته التاريخية

لقد حظي الدكتور محفوظ قداش بالتكريم في حياته وبعد مماته من طرف جامعة الجزائر وجامعة وهران والمكتبة الوطنية، وكذلك المعرض الجزائري الدولي للكتاب… وساهم في فعاليات هذه النشاطات العرفانية والتقديرية مجموعة من أصدقائه وطلبته القادمين من مختلف الجامعات الجزائرية والفرنسية للتعبير عن تقديرهم لمساهماته القيمة في حقل الدراسات التاريخية، وإبداء اعتزازهم بصحبته أو الدراسة عنده أو التعاون معه عندما كان رئيسا لقسم التاريخ في السبعينيات أو نائبا لرئيس الجامعة أو في غيرها من المناصب الإدارية أو السياسية التي تقلدها وأداها على أكمل وجه.

وفي هذا السياق، أنقل هنا شهادتين، الأولى لصديقه المؤرخ الفرنسي بنيامين سطورا، والثانية لصديقه الجزائري الدكتور ناصر الدين سعيدوني. قال الأستاذ سطورا أن قداش كان «من المؤرخين الأوائل الذين خاضوا منهج المقارنة وتوسيع الشهادات وتمحيص محتوياتها قبل سردها في المؤلفات وهو الشخص الذي استطاع الولوج بعمق داخل رفوف المركز الفرنسي الذي يحتوي على مواد هامة للأرشيف الجزائري الخاص بفترة ما قبل الاستقلال».

وأما الدكتور ناصر الدين سعيدوني فإنه يرى أن الأستاذ قداش كان بحق «أحد كبار مؤرخيها (الجزائر) ومن أبرز أعلام مثقفيها الذين كانت لهم مساهمة متميّزة في الكتابات التاريخية ومشاركة فعالة في الحياة الثقافية… عرفته في عز نشاطه، فخبرت فيه المؤرخ الذي يحترم نفسه ويعتز بكرامته ويفرض نفسه على الساحة الثقافية بإنتاجه وإصراره على أداء واجبه التربوي والإخلاص لمهمته العلمية، فعرفت فيه أخلاق العالم في تواضعه ولمست فيه سلوك الإنسان في دماثة خلقه وسعة صدره».

ولا بأس أن ننتهز الفرصة فنثير هنا سؤالا: ما هي طبيعة العلاقات بين المؤرخين الكبيرين محفوظ قداش وأبي القاسم سعد الله؟ فبرغم الاختلاف بينهما حول بعض القضايا التاريخية ومسألة الهوية، فإنهما سافرا معا مرات عديدة، وشاركا معا في ملتقيات تاريخية في الجزائر وخارجها، وشاركا معا في مناقشة رسائل جامعية.

عاش محفوظ قداش أكثر من نصف قرن مخلصا للبحث العلمي، اهتم منذ شبابه المبكر بتراث وطنه المحتل، فكان شغله الشاغل الاطلاع على كنوزه والتعريف بمعالمه ورجاله درسا وكتابة.

لقد ترك الدكتور قداش كتبا عديدة وبحوثا قيمة حول تاريخ الجزائر في العصور القديمة والحديثة. وقد أثرت كتاباته تأثيرا خصبا في حقل الدراسات التاريخية حتى أنه لا يمكن تصوّر بحث شامل حول تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية بدونها.

البصائر

في صحبة الأستاذ د. محفوظ قداش

لقد فقدت الجزائر بوفاة الأستاذ د. محفوظ قداش يوم 30 جويلية 2006 أحد كبار مؤرخيها ومن أبرز أعلام مثقفيها الذين كانت لهم مساهمة متميزة في الكتابات التاريخية ومشاركة فعالة في الحياة الثقافية، فقد ترك برحيله فراغا في الوسط الجامعي وفي المجال العلمي يصعب ملؤه أو تعويضه، في زمن شح فيه الموهوبون من المؤرخين وندر فيه المبدعون من المثقفين، لقد عاد بي نبأ و فاة الأستاذ د. محفوظ قداش إلى ذكريات أيام انقضت وسنوات مرت عرفته فيها في عز نشاطه، فخبرت فيه المؤرخ الذي يحترم نفسه ويعتز بكرامته ويفرض نفسه على الساحة الثقافية بإنتاجه وإصراره على أداء واجبه التربوي والإخلاص لمهمته العلمية، فعرفت فيه أخلاق العالم في تواضعه ولمست فيه سلوك الإنسان في دماثة خلقه وسعة صدره، ولعل هذا ما دفعني إلى تسجيل هذه الكلمات التي أعتبرها من واجبات الأخوة العلمية وفاء للزمالة الجامعية، إن لم تكن من  متطلبات استعادة الذاكرة ومراجعة النفس لتحديد أبعاد إشكالية الثقافة في الجزائر و تحديد موقعها من المجتمع وعلاقتها بالسلطة.

لقد تعرفت على الأستاذ د. محفوظ قداش عندما التحقت بالجامعة سنة 1963، وتوطدت معرفتي به باكرا أثناء رحلة علمية نظمتها جامعة الجزائر إلى إسبانيا (1965)، ولا زال موقفه من العرض التاريخي الذي قدمته في إطار نشاط الرحلة بقرطبة حول أسباب سقوط الأندلس حاضرا في ذهني، فقد غلب على العرض التأثر بذكريات التاريخ والتأسي لمأساة الأندلس، مما جعل الأستاذ د. رشيد بورويبة المصاحب لنا في الرحلة يؤاخذني على مبالغتي في التركيز على العامل الإسلامي في أحداث المغرب والأندلس، فاستوقفني تعليق الأستاذ د. محفوظ قداش و أشعرني بمدى تأثره العميق بالبعد الحضاري الإسلامي لتاريخ المغرب والأندلس.

لقد تعمقت صلتي بالأستاذ د. محفوظ قداش خاصة عندما بدأت بإلقاء دروس بالسنة التحضيرية بالجامعة (1968)، وزادت معرفتي به عندما التحقت بقسم التاريخ (1974)، فأكبرت فيه نشاطه الدءوب في اللجان المكلفة بمناقشة التنظيمات التربوية و التوجيهات العلمية  المستجدة مع إنشاء المعاهد بالجامعة والمنبثقة عن الإصلاح الجامعي لعام 1971، وتلمست في مواقفه بعد النظر ورجاحة الرأي عندما أصبحت عضو هيئة تحرير مجلة تاريخ وحضارة المغرب (1974) التي كان يرأسها ويحرص على استمرارها و الارتقاء بها، رغم الظروف غير المشجعة والتي أوقفت هذه المجلة العلمية الراقية في عددها الثالث عشر (1976).

لم نكن نعرف آنذاك بحكم صغر السن و قلة التجربة وحماس الاستقلال الأبعاد السلبية التي تنعكس على بناء الدولة وتطور المجتمع في الجزائر من جراء تراجع مكانة الجامعة وتهميش الأستاذ الجامعي، وهذا ما تنبه له الأستاذ د. محفوظ قداش باكرا وحاول التنبيه إلي سلبياته من خلال ملاحظاته في اللجان التربوية على مستوى المعاهد أو الجامعة أو وزارة التعليم العالي وفي اللقاءات التاريخية وحتى في فرق البحث التاريخي بالمركز الوطني للدراسات التاريخية (1979-1984) وفي فوج البحث التاريخي بالمتحف الوطني للجيش (1986-1989)، والتي لم تكن تجد آذانا صاغية أو تفهما من غالبية هيئة التدريس بالجامعة، فلم يفت ذلك في عضده و لم يثنيه  عن أداء واجبه التعليمي ومهمته العلمية، فظل مواظبا على عمله الجامعي في التدريس ومناقشة الرسائل الجامعية،  قبل أن يتفرغ لتطوير معهد اقتصاد المكتبات الذي تولى إدارته ثم رئاسة مجلسه العلمي لسنوات طويلة منذ أوائل الثمانينات، وأثناء ذلك لمست فيه بفعل التعامل اليومي روح التضحية والتفاني في أداء الواجب،  و قدرت فيه سعة الصدر و بعد النظر عندما  توليت رئاسة المجلس العلمي لكلية العلوم الإنسانية ( 1999-2001)، وكان الأستاذ د. محفوظ قداش آنذاك رئيسا للمجلس العلمي لقسم اقتصاد المكتبات، فظلت أواصر الصداقة قائمة والاحترام متبادل بيننا حتى بعد مغادرتي الجزائر والتحاقي بجامعة الكويت (2001) و لقائه به لآخر مرة في الاجتماع التنسيقي لمجموعة عمل لمناقشة مشروع  إنشاء دائرة معارف جزائرية،  بمبادرة من رئيس المجلس الأعلى للغة العربية الأستاذ د. محمد العربي ولد خليفة في 8 أوت 2002.

لقد ولد الأستاذ د. محفوظ قداش بحي القصبة بمدينة الجزائر في شهر نوفمبر 1921، من أسرة تنتمي في أصولها، حسبما أفادني به، إلى زاوية ﭭرومة بناحية الأخضرية. استقر أبوه بمدينة الجزائر بحي القصبة ليعمل تاجر خضار بسوق لالير، ولم يلبث أن وافته المنية، فترك ابنه محفوظ في السادسة من عمره يواجه الحياة الصعبة، مما اضطره أن يشتغل لكسب قوته بوسائل شتى منها بائع خضار و عارض عطور، وأثناء ذلك حرص على متابعة دراسته بالمدرسة الفرنسية، ولم يلبث أن انخرط في شبابه الباكر في الحركة الوطنية الجزائرية، واحتك بمناضلي حزب الشعب الجزائري، وكان الفضل في ذلك للمناضل اليساري بلحاج عضو المؤتمر الإسلامي، وانتسب في تلك الفترة من  شبابه للحركة الكشفية وانتظم في فوج الفلاح (1936). وخبر واقع الحركة الوطنية الجزائرية في مظاهرات أول ماي 1945 بالجزائر، مما أكسبته خبرة المناضل وقناعة الوطني، وأثناء ذلك ظل يمارس نشاطه في الكشافة الإسلامية الجزائرية (S.M.A.)، فتنقل عبر القطر الجزائري وتجول بفرنسا مع أفواج الكشافة، وكان من قادة المعسكر الكشفي بقسنطينة (1946) الذي أشرف عليه محمود بوزوزو  و شارك فيه  وفد للكشافة الفرنسية و كان مناسبة للتعريف بالمطالب الوطنية الجزائرية .

 تدرج الأستاذ محفوظ قداش في صفوف التنظيم الكشفي الذي تأثر بمبادئ حزب الشعب  في الإجتماع الكشفي بسيدي فرج (1948)،و نشط في الجمعية الجزائرية للعمل الاجتماعي (A.J.A.S.)،  التي انبثقت عنه مما أهله لأن يصبح منذ سنة 1953 من إطارات التنظيم الكشفي الذي كان يرأسه عمر لاغا،  و بعد اغتيال هذا الأخير تولى رئاسته  في ظروف صعبة وخطيرة (1957-1962)، كان أثناء ذلك كان على اتصال – حسب شهادة الأستاذ عبد الحميد مهري في جريدة الخبر ليوم 27 جانفي -2007 – بقيادات في الحكومة المؤقتة وفي مقدمتهم عبد الحفيظ بوصوف وعبد الله بن طوبال، فكان واسطة لتبليغ التعليمات من الخارج إلى الخلايا العاملة بمدينة الجزائر، بعد أن أصبح من الصعب تأمين الاتصال وإبلاغ التعليمات مباشرة من الخارج.

وأثناء ذلك ظل ينشط سياسيا في إطار التنظيمات الاجتماعية والثقافية، فالتحق بهيئة تحرير مجلة الأمل (L’Espoir) التي كانت تتبنى مواقف مناهضا للإدارة الفرنسية بالجزائر بدعوتها إلى إحلال السلم والتفاوض مع جبهة التحرير الوطني، وهذا ما أكده محفوظ قداش عند لقائه بالجنرال دوغول (1961) بصحبة مولود فرعون،  مما جر عليه نقمة دعاة الحرب من الفرنسيين، فهاجمته مجلة ريفارول (Rivarol) ذات الميول الاستعمارية واعتبرت أفكاره مضرة بمصالح فرنسا في إحدى مقالاتها، فأصبح مع غيره من المثقفين الذين ظلوا ينشطون بالجزائر العاصمة هدفا لنشاط منظمة الجيش السري (O.A.S.) الإرهابية، فتعرض لمحاولتي اغتيال، إحداهما استهدفت أعضاء اتحاد المنتخبين البلديين (U.M.P.) يوم 15 مارس 1961، وكان من حسن حظ الأستاذ د. قداش أنه خرج من مكان الاعتداء بثانوية عمارة رشيد بابن عكنون قبل أن يقتحمها أفراد عصابة دلتا (Delta) التابعة لتنظيم الجيش السري الفرنسي ويسلطون رصاصهم الحاقد على المجتمعين، فكان من ضحاياهم نخبة من المثقفين منهم الكاتب الكبير مولود فرعون.

وبعد الاستقلال مباشرة (1962) لم يكن الأستاذ د. قداش قادرا على مجاراة الظروف المستجدة آنذاك، وحالت ثقافته السياسية دون إيجاد مكان له في منظومة الحكم، فكان ذلك تجربة قاسية ولكنها مفيدة لأنها مكنته من فك الارتباط وقطع حبل السرة مع النظام الذي طالما استخدمه في  تطويع جمهرة المثقفين و استخدامهم على حساب مصداقيتهم بحيث يتخلون عن مهمتهم المتمثلة في إبداء الرأي المخالف وطرح البديل الأفضل… إلى تبرير كل التصرفات والمواقف التي تصدر عن المسئولين ومباركة كل أعمالهم وسياساتهم بغض النظر عن عواقبها و ما يترتب عنها،  وبالفعل انطوى الأستاذ د. محفوظ قداش على نفسه يشتغل بالتعليم في الجامعة ويقوم بمهمة التفتيش في التعليم الثانوي لمادتي التاريخ و الجغرافية طيلة الستينات والسبعينات، وأثناء ذلك واظب على البحث والدراسة مما مكنه من إنجاز رسالة دكتوراه الدور الثالث في موضوع “الحياة السياسية بالجزائر العاصمة بين الحربين”)، و الانتهاء من تحضير رسالة دكتوراه دولة حول إشكالية المسألة الوطنية الجزائرية وطبيعة السياسة الفرنسية في الجزائر، والتصدي بعد ذلك لإصداراته حول التاريخ الجزائري منذ العصور القديمة وحى الفترة المعاصرة،  و لم يشغله ذلك عن دراسة اللغة العربية التي حاولا جاهدا تعلمها والتعبير بها رغم تقدمه في السن، و قد أمكن له بعد سنوات أن يناقش الرسائل و أن يشارك في النشاط الثقافي، في الوقت الذي لم يستطع فيه  الكثيرون اجتياز هذه العقبة لظروف اجتماعية وعوائق نفسية واعتبارات إيديولوجية.

ظل الأستاذ د. محفوظ قداش مهتما بالواقع الجزائري يراقب الساحة السياسية ويحلل توجهات النظام رغم الانغلاق السياسي الذي كانت تعيشه الجزائر في  في العشريات الأولى للاستقلال (1962-1988)، وهذا ما كان يفصح عنه بين الحين والآخر في العديد من الاجتماعات واللقاءات فكانت محاضرات المركز الوطني للدراسات التاريخية و جلسات مناقشة مشروع الميثاق الوطني بمدرج الجامعة مناسبات أفصح فيها الأستاذ د. محفوظ قداش عن قناعاته الديمقراطية الليبرالية، وقد لخص هذا الرأي في مطلع التسعينات في مقابلة له مع يومية الوطن (28 نوفمبر 1991) ” فاعتبر أن الجزائر بحكم التجربة التاريخية وحتمية التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي مدعوة إلى مراجعة مواقفها، ففي الجانب السياسي فإن الحزب الواحد الذي عاق التطور السياسي للمجتمع الجزائري إن حقق إنجازات لا يمكن إغفالها مكنته من بناء هياكل الدولة واسترجاع الثروات الوطنية و التنمية العددية للمتعلمين تحت شعارات تجاوبت معها غالبية الجزائريين آنذاك من قبيل الثورات الثلاث (الزراعية والصناعية والثقافية)،  إلا أن إفلاس الحزب الذي أدى إلى القطيعة يعود إلى تجاهله للفرد مع أنه يحاول إسعاده رغم أنفه وانحراف إطاراته وانغلاقهم على الآراء الأخرى مما حال دون أية ديناميكية فكرية  أو ثقافية.

 و عندما انفتحت الساحة الجزائرية على التعددية السياسية إثر انتفاضة أكتوبر 1988، عاوده الحنين إلى النضال السياسي الذي عاشه في شبابه،  فانغمس في خضم الأحداث وانخرط في النشاط الحزبي، فعمل مع حركة بن يوسف بن خدة، وحاول الوصول إلى البرلمان في الانتخابات التشريعية الأولى مرشحا عن حزب القوى الاشتراكية (F.F.S.) عن إحدى دوائر ولاية الجزائر، ولم يحد فشله في هذه التجربة من نشاطه السياسي ولم ينقص من عزيمته،  لكن انحصار الحياة السياسية و تراجع التجربة التعددية و دخول الجزائر في مستنقع العنف أقنعه بأن طريق النضال الحزبي غير سالك وأن المشاركة السياسية لم يعد لها مبرر لخاصة بعد أن أصبحت الديمقراطية واجهة بدون محتوى والنضال السياسي نشاطا دعائي من أجل المكاسب المادية وتحقيق الأغراض الشخصية، مما حول الوطنية إلى شعارات والمسئولية إلى مكاسب مادية والثقافة إلى انتماءات سلوكية وأمزجة ذاتية فأصيب كغيره من المثقفين النزهاء بخيبة أمل قاتلة،  فوجد نفسه  مع كثيرين من ذوي النيات الحسنة مضطرا أن يعود إلى حياته الأكاديمية من جديد ليكرس ما بقي من جهوده في بنشر كتبه والإسهام بما تسمح به صحته في خدمة الجامعة و الاشتغال بالبحث .

لقد ساهم الأستاذ د. محفوظ قداش بالعديد من التآليف والكثير من المقالات والمحاضرات والعروض حول تاريخ الجزائر،  أغلبها حول الحركة الوطنية والثورة التحريرية، التي خصها بما لا يقل عن خمسة عشر عنوانا،  و من هذا الإنتاج التاريخي نذكر على سبيل المثال:

– تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، المسألة الوطنية وسياسة فرنسا الجزائرية (1919-1951)، وهي أطروحته التي حصل بها على دكتوراه دولة تحت إشراف الأستاذ د. كزافييه ياكونو بجامعة باريس.

Histoire du nationalisme algérien. Question nationale et politique algérienne (1919-1951), Alger, S.N.E.D., 1980, 2 vols., 1113 p.

– الجزائر جزائرية Algérie algérienne.

– والجزائر تحررت (حرب التحرير) Et l’Algérie se libéra (1954-1962).

– الحياة السياسية بالجزائر العاصمة بين الحربين، وهي أطروحة لشهادة دكتوراه الدور الثالث.

La vie politique à Alger de 1919 à 1939, Alger, S.N.E.D., 1970, 390 p. (2ème éd., 1977).

– سلسلة تاريخ الجزائر (Série d’histoire de l’Algérie) : الجزائر عبر العصور، وهو عرض شامل ومتكامل لتاريخ الجزائر اعتمادا على أهم المصادر والمراجع:

جزائر العصور القديمة L’Algérie dans l’Antiquité (1982).

جزائر العصور الوسطى L’Algérie médiévale (1982).

الجزائر العثمانية (1992 ) L’Algérie ottomane .

الجزائر المعاصرة L’Algérie contemporaine.

– مشروع بحث بمركز الدراسات التاريخية بعنوان “الجزائر في التاريخ”: المقاومة السياسية (1900-1945).

– القصبة على عهد الأتراك (La Casbah sous les Turcs)، سلسلة وثائق جزائرية ( المجموعة الثقافية ) عدد 55، سبتمبر 1951.

– المساهمة في كتاب حكايات النار Récits de Feu, S.N.E.D..

– الأمير خالد، وثائق وشهادات لاستخدامها في دراسة الحركة الوطنية الجزائرية، ط 1/1985، ط 2/1987.

L’Émir Khaled. Documents et témoignages pour servir à l’étude du nationalisme algérien, Alger, O.P.U., 1985 & 1987, 218 p.

– الجزائر في العهد العثماني،  مجلة الأصالة،  الجزائر، عدد52 ديسمبر 1977، ص ص 2-14 .

– الأمير عبد القادر، سلسلة فن و ثقافة،  وزارة الثقافة الجزائرية ط 1/1979، ط2/1982.

– مقال الفرص الضائعة أواستحالة إيجاد حل للقضية الجزائرية خلال النصف الأول من القرن العشرين، مجلة أفريكازماني، عدد 6-7/ديسمبر 1977، ص ص. 1-12 (بالعربية).

– النشاط السياسي للأمير خالد (1919-1925)، مجلة تاريخ وحضارة المغرب، عدد 4/جانفي 1968 (بالعربية).

– الأمير خالد الشاب الطالب والضابط (L’Émir Khaled, jeune étudiant et officier)، مجلة تاريخ وحضارة المغرب، عدد 10/أكتوبر 1973، ص ص. 101-107.

– الثامن ماي 1945، مجلة اللقاء، باريس، 1970 (Le 8 mai 1945, in Rencontre, Paris).

– حزب الشعب الجزائري (1937-1939)، وثائق وشهادات لدراسة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، 1985. (بالاشتراك مع  مناضل حزب الشعب الأستاذ محمد قنانش)

– نجم شمال إفريقيا (1926-1937)، وثائق وشهادات لدراسة تاريخ الحركة الوطنية الجزائرية، الجزائر، ديوان المطبوعات الجامعية، ط 1/1984، ط 2/1994.(بالاشتراك مع  مناضل حزب الشعب الأستاذ محمد قنانش).

إن قراءة متأنية لإنتاج الأستاذ د. محفوظ قداش وتتبع نشاطاته الثقافية والسياسية تسمح لنا بالقول بأن هناك قضيتين كان لها تأثير على آرائه السياسية وأطروحاته الثقافية،  و هم إشكالية الديمقراطية في الحركة الوطنية و ثورة التحرير ومسألة حرية الفكر و ارتباطهما بكرامة الفرد،  فانطلق في معالجته للقضية الأولى من أزمة حزب جبهة التحرير  التي أدت إلى قطيعة النظام مع الجماهير الواسعة إلى ماضي النضال الوطني،  و هذا ما عبر عنه بقوله: ” إن إفلاس الحزب الواحد يجب أن يفهم في إطار تطور هذا الحزب من خلال تجربة الحركة الوطنية الجزائرية وتأثير النظام الاستعماري الذي خضع له الجزائريون، فالانسداد السياسي الذي عرفته الجزائر بعد الاستقلال- يعود حسب رأيه- إلى سنوات 1952-1953 عندما طرح على الوطنيين سؤالا محوريا وهو: ما العمل ؟ (Que faire ?) بعد أن رفض النظام الاستعماري اللعبة الديمقراطية و عجز الحكومة الفرنسية تسوية القضية و فشلت كل الوسائل السياسية للنضال للحركة الوطنية الجزائرية من تجمعات وجرائد وانتخابات بعد أن ألغي الانتخابات التي فاز فيها الوطنيون باسم حزب الشعب الجزائري (P.P.A.)، مما أعطى المبادرة للطليعة الثورية لحزب الشعب وجعل الانتخابات والأحزاب فانحصرت التجربة الديمقراطية في قاعدة حزب الشعب الجزائري عندما يراد تكوين خلايا حزبية أو القيام بمهام محددة، لكنها تهمل بصفة أو بأخرى عندما يعمد إلى النضال السري إذ تصبح للعناصر الديناميكية الأكثر شجاعة الكلمة الأخيرة، فالأعمال الثورية وليست الانتخابات هي التي تسمح بالصعود في سلم المسئولية ما دامت نضال المناضلين وتضحياتهم تبرر  ذلك.

مما فتح لاحقا الباب واسعا أمام الثورة التي لم تكن فيها القرارات تؤخذ ديمقراطيا مما جعل الشرعية عمليا تتحول من صندوق الانتخاب إلى مبادرة  الطلائع الثورية (Avant-garde) التي لم تكن بفعل ظروف الكفاح المسلح في حاجة إلى استشارة أو حتى إلى توافق (Consensus) لاتخاذ قراراتها، رغم أن مشروع المجتمع والدولة لدى الحركة الوطنية الجزائرية و حتى في مواثيق الثورة كان يرفع شعار الاستشارة الشعبية و يهدف إلى تأسيس مجلس تشريعي عن طريق الانتخاب يكرس سيادة الشعب،  و يعقب على ذلك بقوله: إن الديمقراطية أثناء نضال الحركة الوطنية لم تكن تطرح بعبارات اليوم، لقد ظهر عشية 1962 أن الحكم والسلطة تعود إلى من قاموا بالثورة لأنهم استمدوا شرعيتهم من الثورة ولم يكن من الممكن تعبر انتخابات حرة ديمقراطية عوضا عن ذلك، الأمر الذي  فتح الباب فيما بعد للانتهازيين أو الذين كانوا خارج صفوف الثورة أن يأخذوا السلطة.. و هذا ما عبر عنه في لقائه مع أسبوعية الجزائر الأحداث((Algérie-Actualité) (عدد 1255/2-8 نوفمبر 1989) بقوله: إذا كان مشروع المجتمع ضبابي الصورة هذا نتيجة كون) بقوله: إذا كان هناك مشروع مجتمع ضبابي فإن المنبع (و هو أدبيات الحركة الوطنية) واضح وهو الاستشارة الشعبية:

“Si le projet de société était nébuleux, la source était claire: la consultation populaire”.

لقد أفصح الأستاذ د. محفوظ قداش عن قناعاته السياسية وموقفه من أوضاع الجزائر في العشريات الأولى للاستقلال في العديد من اللقاءات والمقابلات مع بعض الجرائد والصحف الجزائرية، تتلخص كلها في إشكالية كيفية التأسيس لمجتمع جزائري يقوم على أسس ديمقراطية حقة كفيلة بتحقيق رفاهية الفرد ومصلحة الجماعة، هذا وقد ظلت الديمقراطية قناعة راسخة في توجهه السياسي فهي الحل الأمثل لمشاكل الجزائر لأنها تكرس اختيار الشعب،  مما يجعلها بمثابة المخرج الوحيد للجزائر من أزمتها، ففي تصرح له لجريدة الوطن (28 نوفمبر 1991) عشية إجراء الدور الأول للانتخابات التشريعية الجزائرية (1991) أوضح خياره الخيار الديمقراطي بقوله: إن انتصار مبادئ الديمقراطية يكون بالسماح للناس المنتخبين بالأغلبية أن يحددوا الحلول السياسية وخاصة الاقتصادية منها والثقافية الكفيلة بإنقاذ الجزائر، … إن الظروف الحالية تفرض اتحاد الطموحين للسلم الاجتماعي،  و عملهم من أجل تكريس المبادئ الأساسية للديمقراطية، وهنا تكمن أهمية الانتخابات التشريعية،فإذا لم  تنسف تكون أول امتحان إيجابي من أجل الديمقراطية. لكن وقف الانتخابات ودخول الجزائر في أزمة خطيرة وضع حدا لطموحات الأستاذ د. محفوظ قداش الديمقراطية  وأشعره بأن حياته السياسية قد انتهت كما أن التجربة الديمقراطية  في الجزائر قد أجلت لعدة أجيال أخرى.

أما القضية الثانية التي كان لها حضر في سلوكه و قناعاته فهي إيمانه بحرية الفكر و التزامه باحترام الرأي الآخر – إيمانه بحرية الفكر وبكرامة الفرد واحترام الرأي الآخر،،  فلم يتورط كما حدث للبعض من زملائه في تصرفات إدارية غير مقبولة مع طلابه أو زملائه، ولعل هذا ما جعله يبتعد عن التنظيمات النقابية المسيرة من طرف الحزب، وأخذ موقف الحذر من مؤسسات البحث الموجهة لخدمة أطروحات السلطة، وهذا ما تسبب له في مضايقات إدارية وجعله يدخل في خصومات ومشاحنات مع مثقفي حزب جبهة التحرير الوطني. وفي هذا الصدد نسجل مساجلته مع الأستاذ مولود قاسم نايت بلقاسم، فقد علق هذا الأخير على ملاحظة الأستاذ قداش على محاضرته، بتوضيح يؤاخذ فيه قداش على بعض مواقفه وتعابيره التاريخية، وجاء هذا التوضيح بعنوان: مفاهيم خاطئة، وأوصاف باطلة لتاريخنا الوطني (Faux concepts, fausses formatations de notre histoire)، مما دفع الأستاذ قداش إلى الرد عليه في مقالين بنفس الجريدة، أحدهما بعنوان: توضيح نهائي (Mise au point finale)، والآخر في شكل تعليق على مقولة مفاهيم خاطئة (Faux concepts). وتكمن أهمية هذا السجال في أنه يعرض إلى رؤيتين مختلفتين في فهم وتصور ومقاربة التاريخ الجزائري، بين من يعبرون عن أطروحات السلطة والذين يعارضونها، فاستعمل كلاهما حججه التاريخية انطلاقا من قناعاته الشخصية، فالأستاذ مولود قاسم آخذ الأستاذ محفوظ قداش على اعتبار التزامه بمواقف رأى فيها ممالته للاستعمار من قبيل ما كتبه في إحدى مقالاته في مجلة الضمائر المغربي (Consciences maghrébines) سنة 1955، وكذلك موقفه المتحفظ  في إحدى اجتماعاته في لجنة الإصلاح الجامعي، فكان رد الأستاذ د. محفوظ قداش واضحا وهو أن أفكارها لا تفهم إلا في سياقها، وأن ما كتبه في “الضمائر المغربية” هو مقال سياسي مما يتطلب تحليل مضمونه ونقده حسب الظروف التي نشر فيها والتي لا تفهم إلا من خلال طبيعة النشاط الوطني للطلبة والكشافة الجزائرية بعد سنة 1952 وعلاقتهم مع الطلبة والكشافة المسيحيين من أجل التعريف بالمسألة الجزائرية، وهذا ما سمح بنشر هذه المجلة (الضمائر المغربية) في نهاية 1955 لتعرض مداولات جبهة التحرير الوطني التي جمعتها جبهة التحرير بعد ذلك ونشرتها بباريس، كما كان من ضمن هؤلاء الطلبة المسيحيين القريبين من الأستاذ ماندوز من تبنى أطروحات جبهة التحرير الوطني ودافع عنها وانتسب إلى الجزائر. كما آخذ مولود فاسم أيضا محفوظ قداش على استعماله ألفاظا ذات دلالات تاريخية تتنافى والبعد الحضاري للجزائر من قبيل الهيمنة التركية (Domination turque) والغزو العربي (Invasion arabe)، مع كونهما حكم وطني وفتح إسلامي، والعهد الروماني (Époque romaine)، رغم كونه استعمارا أجنبيا. على أن هذه العبارات كانت شائعة الاستعمال بدون خلفية إيديولوجية أو نظرة ثقافية.

– أنه يمثل بفكره ومواقفه وقناعاته جيلا من الجزائريين عاشوا النضال السياسي للحركة الوطنية وخبروا تجاربه، فحملوا في تصوراتهم مشروع مجتمع وتنظيم دولة لم يجدوها في الواقع، بل اصطدموا بممارسات منافية للسلوك الوطني كما يتصورونه وبممارسة السياسة كما خبروها. و مع ذلك فهو عينة من شريحة مثقفين جزائريين وفقوا في الجمع بين الحياة الفكرية في بعدها الثقافي وتصورها التاريخي بالواقع المعيش، فأصبح التاريخ منفى لهم وتأسي لمواقفهم، وهذا ما ساعدهم على التميز بقناعاتهم، والبقاء بعيدين عن دوائر السلطة وفي منأى عن المعارضة الصريحة، بينما غالبية المثقفين اتخذوا موقفا ملتزما، سواء من خدم النظام وروج لأطروحاته على حساب الموضوعية والمنهجية التاريخية، كما هو شأن “جماعة التاريخ الرسمي” الذين يقنعون  بالتغني بالماضي يؤدي دور الواعظ المصلح و المربي الوقور الذي لا يجسر على ممارسة الفعل السياسي و يخشى المصارحة برأيه و لو على حساب مكانته في منظومة المجتمع و منزلته في الساحة الثقافية،  أو كما هو الحال بالنسبة للجماعات  المتغربة الرافضة لأصالة الشعب والمعادية لطموحاته والتي تريد أن توجهه دون  أن تحاول فهمه بفعل انغلاقها الإيديولوجي الدوغماتي ونظرتها الجهوية القاصرة. و في هذا الصدد اعتبر أن التاريخ شهادة تؤدى وكلمة حق يجاهر بها، هذا ما يجعل في رأيه مهمة المؤرخ  مرتبطة بالحرية و الإبداع  و خاضع لقيم أخلاقية من أهمها النزاهة و الموضوعية  و تحري الحقيقة،  وهذا ما يتوجب معه على المؤرخ، حسب رأيه، التدقيق في الأحداث وعرضها كما وقعت وإعطاءها الأهمية التي تستحقها، بحيث لا يضخمها لدوافع ذاتية وظرفية ولا يتجاوزها لدواع سياسية ونظرة إيديولوجية، وإنما عليه أن يسجلها في سياقها التاريخي، ومن خلال هذه القناعات والرؤى.

– حنينه الجارف إلى الماضي، فقد كانت الكشافة حاضنة اجتماعية له كما كانت أدبيات الحركة الوطنية موجها له،  و هذا ما دفعه إلى كتابة تاريخها ليس كباحث فقط وإنما  من خلال التجربة التي عاشها في تعامله مع مناضلي فاعتبر نفسه شاهدا بامتياز على عصره جمع نشاط المناضل و مهنة المؤرخ، وهذا ما دفعه إلى دراسة تاريخ الحركة الوطنية والتخصص فيها باعتباره  شاهدا على الأحداث ومطلعا على الوثائق، وقد عمل مع  الأستاذ محمد قنانش مناضل حزب الشعب على نشر وثائقها والتعريف برجالاتها قبل التعددية، وحاول كلاهما  إعادة الاعتبار لرجالات الحركة الوطنية و على رأسهم الزعيم مصالي الحاج باعتباره الأب المؤسس للوطنية الجزائرية.

و في هذا التوجه عبر  في كتاباته عن إيمانه العميق بالهوية الجزائرية في إطارها العربي الإسلامي، مع الأخذ بعين الاعتبار التنوع الثقافي والاختلاف الفكري  الذي تفرضه طبيعة الحياة و تطور التاريخ،  فرغم ارتباطه باللغة الفرنسية وتفاعله مع المناخ الثقافي لهذه الثقافة،  فإنه ظل مقتنعا بأن العامل الديني المحرك الحقيقي  للشعور الوطني والأساس الصلب للشخصية الجزائرية، ولعل هذا ما جعل ذوي  التوجهات اليسارية ينفرون منه ويعادونه في الوقت الذي ظل فيه مثقفو العربية يبتعدون عنه و لا يجد فيهم تفهما و تعاطفا بحكم لغة إنتاجه.

كما معرفته العميقة بممارسات الإدارة الفرنسية في الجزائر جعله ينتفض ضد الأطروحات الاستعمارية الفرنسية الجديدة التي عبر عنها القانون الذي يبرر فظائع الاستعمار في حق الشعب الجزائري ويحاول أن يبرز الدور الإيجابي للحضور الفرنسي في الجزائر، فكان هذا القانون بالنسبة له تحد لا يمكن السكوت عنه لأن مفهومه  مناقض للكرامة والإنسانية بل مناف حتى لقيم الثقافة الفرنسية ذاتها، مما يستوجب عملا مضادا ينطلق من دور المؤرخ الجزائري ونتائج أبحاثه وليس من خلال التصريحات والمواقف دحض الرسمية فقط، وهذا لا يتأتى إلا بتمكين المؤرخ الجزائري من أدوات البحث ووسائل العمل،،  و قد أبدى تأسفه العميق لعدم توفرها في الواقع  الجزائر ي،   في وقت ندر فيه المؤرخون النزهاء من الفرنسيين فلم يرتق أغلبهم إلى مستوى علمية شارل آندري جوليان و شارل روبير آجرون.

 – اعتقاده الراسخ بأن الجامعة مصنع للفكر وبيئة مخصبة للتقدم والإنتاج، مما يتطلب تمتعها بوضع مستقل تكون فيه بعيدة عن المراقبة والتوجيه، بل تكون بيئة كفيلة باحتضان التنوع الثقافي والتعدد الفكري والإبداع العلمي والأدبي والفني. و في هذا الصدد يسجل التاريخ تصرفات لحزب جبهة التحرير تجاه الجامعة  لا يمكن تبريرها،  منها تلك الاجتماعات التي كانت تنظم في مقرات الحزب لتلقين المشرفين على الجامعة منهم رئيسها و مديري معاهدها كيفية تدريس التربية الوطنية و جعل المقررات تتماشى و مبادئ الحزب، و لعل أكثرها إثارة ذلك الاجتماع الذي عقد بمقر محافظة الحزب بباب الوادي إزاء ثانوية عقبة، وقد حضرته بصفتي مديرا لمعهد التاريخ كما حضر الأستاذ د. محفوظ قداش باعتباره مديرا لمعهد اقتصاد المكتبات لنلقن الوطنية ونسمع كلاما من أحد إطارات الحزب لم يتجاوز فيه الشعارات والأقوال المعهودة، فلم نفهم لغته الخشبية وإنما أحسسنا بنهاية دور الجامعة كبوتقة لإنتاج المعرفة واحتضان الفكر، ولم يكن لتدخل الأستاذ د. محفوظ قداش ردا للاعتبار أي صدى لأن الجمع فقد قيمته الأدبية بل فقد روحه العلمية، ولم تعد معها المهام الجامعية تغري ولا الانتساب إليها يشرف بعد أن تحولت الجامعة من محرك للمجتمع ومصنع للفكر إلى مجرد مؤسسة تعليمية لطور ما بعد الثانوي، بينما تحولت وظائف الجامعة باعتبارها الثقل في المجتمع إلى دوائر السلطة الممثلة في  الحزب الواحد  والإدارة الوصية .و هذا ما أدى إلىأزمة تعيشها الجامعة،  يكمن سببها حسب رأيه في انفصال مجال التكوين عن العمل وغياب النظرة النقدية وتعمق السلوك الديماغوجي الذي لم يسمح بتكوين الإطارات الكفأة ولم يمكن الأستاذ الجامعي من اكتساب المصداقية والمساهمة في الحياة الجمعوية والسياسية الكفيلة بجعله ينفتح على الحداثة المتمثلة في اكتساب العلوم والتكنولوجيا والانفتاح على اللغات الأجنبية وتشرب روح الحرية والنقد (Esprit critique) التي ظلت مهملة حتى الآن مع ضرورتها لإيجاد حلول للمشاكل ووضع أسس مشروع مجتمع.

– اعتباره أن التاريخ شهادة تؤدى وكلمة حق يجاهر بها، هذا ما يجعله  مرتبط بالحرية و الإبداع  و خاضع لقيم أخلاقية من أهمها النزاهة و الموضوعية  و تحري الحقيقة،  وهذا ما يتوجب معه على المؤرخ، حسب رأيه، التدقيق في الأحداث وعرضها كما وقعت وإعطاءها الأهمية التي تستحقها، بحيث لا يضخمها لدوافع ذاتية وظرفية ولا يتجاوزها لدواع سياسية ونظرة إيديولوجية، وإنما عليه أن يسجلها في سياقها التاريخي، ومن خلال هذه القناعات والرؤى حاول تقييم مسيرته، فاعتبر نفسه شاهدا على عصره بامتياز، جمع نشاط المناضل إلى مهمة المؤرخ.

فشذ بذلك عن المؤرخ الجزائري التقليدي الذي لا يجسر على ممارسة السياسة والمصارحة برأيه وفرض نفسه في الساحة الثقافية ويكون له رأي في مشروع المجتمع. وحتى يمكن للقارئ الخروج بفكرة مجملة عن قناعات الأستاذ د. محفوظ قداش التي تستمد قيمتها من دراسة التاريخ وربطه بالسياسة وابتعاده عن لعب دور الواعظ المصلح والمربي الوقور، نورد ما جاء في بعض هذه المقابلات، ففي مقابلة له مع يومية الوطن في عز الانفتاح السياسي (28 نوفمبر 1991)، اعتبر أن الجزائر بحكم التجربة التاريخية وحتمية التطور الاجتماعي والثقافي والاقتصادي مدعوة إلى مراجعة مواقفها، ففي الجانب السياسي فإن الحزب الواحد الذي عاق التطور السياسي للمجتمع الجزائري إن حقق إنجازات لا يمكن إغفالها وهي بناء هياكل دولة واسترجاع الثروات الوطنية وتنمية عددية التعليم ورفع شعارات تجاوبت معها غالبية الجزائريين آنذاك من قبيل الثورات الثلاث (الزراعية والصناعية والثقافية) إلا أن إفلاسه الذي أدى إلى القطيعة يعود إلى تجاهله للفرد مع أنه يحاول إسعاده رغم أنفه وانحراف إطاراته وانغلاقهم على الآراء الأخرى… وانعدام الديناميكية الفكرية والثقافية.

وفي ختام هذا التعريف بإسهام الأستاذ د. محفوظ قداش التاريخي و الثقافي، يجدر بنا أن نثير هنا إشكالية القيمة المحددة لمكانة المؤرخ و منزلة المثقف في المجتمع، و التي ظلت غائبة عن القيم التي تتحكم في منظومة القيم في الجزائر،  فمن المسلم به في أي بلد أن الحركية السياسية  و التفاعل الاجتماعي و ما يرتبط بهما من جلبة الحياة وطموحات الأشخاص وما يرافقهما عادة من  اصطناع للمواقف وتعدد للأدوار و انتهاز للفرص،  كلها عوامل  جعلت  المكانة  الحقيقية  للفرد في المجتمع،  مهما علا شأنه أو انحطت منزلته، تحدد وتصنف حسب قدرته الذاتية وطاقته الشخصية،  و هذا ما يسمح لنا أن ننزل الشخص مكانه بالرجوع إلى قيمته الحقيقية  بحيث يصنف ضمن مجموعتين لا ثالثة لهما، إحداهما فئة الأشخاص ذوي القيمة المضافة (valeur ajoutée)  الذين استمدوا مكانتهم بما اكتسبوه من امتيازات و ما حازوه من حضوة و ما تمتعوا به من نفوذ،  فهي تسقط من الاعتبار لكونها في غالب الأحيان فعل مصطنع غير خاضع للقوانين المنظمة للترقية الإجتماعية،   والأخرى تدرج في صنف الأشخاص من ذوي القيمة الحقيقية (valeur réelle). التي تلازم الشخص لكونها أصيلة غير مكتسبة تعبر عن حقيقة صاحبها،  أما القيمة المضافة سواء كانت ثروة طائلة أو منصبا ساميا أو مكانة سياسية مرموقة،  فبزوال المنصب ينتهي أمر أصحاب القيمة المضافة إلى النسيان بعد أن يجروا على أنفسهم حسد الطامعين وعداء المخلصين؛ بينما ذوو القيمة الحقيقية الذين  وقعوا معاهدة سلام أبدي مع أنفسهم ولم يكن لهم رأي إلا من خلال ضمائرهم و ليس لهم وجود الا من خلال إسهاماتهم، فهم قد يعانون التهميش وشظف العيش وقد يكتنفهم النسيان في حياتهم،  ولكنهم في الأخير هم الفائزون في نظر الجميع، فيخلدون في ذاكرة الأجيال ويفرضون أنفسهم في سجل التاريخ الحقيقي،  وهؤلاء الناس  مع الأسف قلة في كل زمان و مكان،  ولكنهم في كل حال يظلون يمثلون ذاكرة الشعب وروح الأمة وأمل المستقبل، ومن  هؤلاء يحتل الأستاذ د. محفوظ قداش مكانته كمؤرخ أصيل ومثقف واع وسياسي نزيه.

حقا إن الجزائر لم تعرف كيف تستفيد من مبدعيها و مثقفيها بفعل اختلاط ذوي القيمة المضافة بأصحاب القيمة الحقيقية بعد أن تكاثر إلى حد التخمة على الساحة الثقافية بالجزائر المثقفون تحت الطلب من كتاب البلاط و هواة الموائد ومدمني المهرجانات والذين يصنعون بقرار وينهون بتعليمة،  فهم أشبه ما يكونون بحاشية الإمبراطور شرلكان التي ظلت تنتظره ساعات طويلة في رحاب قصره ببولون (إيطاليا) سنة 1535، لتتشرف برؤيته وتحظى برضاه وهو جالس يستمتع بمناقشة المؤرخ الإيطالي فرانسيسكو غيشيارديني (F. Guicciardini) صاحب تاريخ إيطاليا، فلم يجد ما يعتذر لهم به سوى قولته المشهورة: “إن في وسعي أن أصنع عشرين نبيلا في ساعة، ولكني لا أستطيع إيجاد مؤرخ واحد في عشرين سنة…” لأن هذا المؤرخ الذي أعجب به الإمبراطور شرلكان الذي لم تكن الشمس تغيب عن مملكته،  كان بالضرورة قبيل قاش و أمثاله من مؤرخي و مثقفي و أدباء  الجزائر ذوي القيمة الحقيقية و الذين لا يجود بهم الزمن إلا في فترات نادرة لأنهم النتاج  الأصيل لبيئتهم و لسان المعبر عن عصرهم و المؤشر الموجه لتطلعات  مجتمعهم.

crasc books

شارك بالتعليق

إضغط هنا للمشاركة بالتعليق