سياسة

بوضياف .. يتيم على موائد اللئام

جنرالات الجيش انقلبوا على الشاذلي بن جديد بعد فوز الإنقاذيين (1-2)

القاهرة – مصطفى ابراهيم

 مقالات أخرى للكاتب

الثلاثاء 09 أغسطس 2011

رصاصة قاتلة في قلب زعيم ..أوطعنة غادرة في صدر ملك ..أو قنبلة موقوتة تنفجر في جسد رئيس.. أو إعدام قيادي ثائر بصاروخ.هكذا هو طريق الاغتيالات.. مزروع بالكراهية والعنف ومفروش بالبارود والدماء.تعددت الاغتيالات في الوطن العربي بدءاً من اغتيال الشيخ حسن البنا زعيم جماعة الإخوان المسلمين مرورا بالرئيسين المصري أنورالسادات الذي اغتيل برصاص القناصة وسط جيشه والجزائري بوضياف الذي تلقى رصاصة اخترقت جسده في احتفالية ضمت كل رجال الدولة ورئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي تم تفجير موكبه في الشارع جهارا نهارا وصولاإلى محمود المبحوح القيادي الفلسطيني.

وفي هذه السلسلة سنحاول التعرف على أهم حوادث الاغتيال في المنطقة العربية خلال 60 عاما مضت عبر رصد التفاصيل الدقيقة لحظة وقوع الحدث كتصرفات الجاني ورد فعل القتيل، كيف خطط القتلة للجريمة ؟وكيف تم التنفيذ ؟ وعلى مدى 26 حلقة نستعرض أهم تقارير ودراسات مخابراتية عربية وأجنبية تناولت أبرز الاغتيالات في الوطن العربي وتحليل خبراء أمنيين وجنائيين لتلك الوقائع وما ذكره شهود العيان وأقوالهم في التحقيقات التي أجريت في أعقاب الأحداث الدامية. امتدت يد ضابط بالحرس الخاص للرئيس وأطلقت النار على الزعيم أثناء القائه خطابه الذي ينتظره شعب المليون شهيد في مناسبته الوطنية الأثيرة!

فوجئ الحاضرون بصوت انفجار مدو صاحبه دخان قنبلة فجرها مخطط الاغتيال لصرف أنظار زملائه من ضباط الأمن الرئاسي عن مكان تمركزه الذي اختاره بعناية لتنفيذ مخططه!

ثم كانت الرصاصات القاتلة..هكذا قتل الرئيس الجزائري الأسبق محمد بوضياف بعدما جاء به جنرالات الجيش ليحكم البلاد بعد انقلابهم على الشاذلي بن جديد.

ولاغتيال بوضياف مقدمات تاريخية يجب الرجوع اليها والالمام بتفاصيلها التي تتلخص في أنه بعد انتخابات التشريعية في الجزائر عام 1991 وكانت حصلت فيها جبهة الانقاذ الاسلامية على أغلبية قادة الجيش كونها تتيح وصول الاسلاميين للبرلمان وقاموا باجهاض نتائجها وأجبروا الرئيس الجزائري وقتها الشاذلي بن جديد على الاستقالة واستدعوا محمد بوضياف من المغرب لحكم البلاد وتم القبض على بعض قادة الجبهة الاسلامية، وهرب الباقون الى الجبال ونهجوا العمل المسلح ضد الدولة، وبعدها حدثت خلافات بين بوضيف وجنرالات الجيش وتوالت الأحداث التي وصلت الى مقتل بوضياف يوم عيد الاستقلال .

وقبل الحادث بأيام روى مقربون من الأحداث أن الرئيس محمد بوضياف استدعى ضابطا من الأمن الرئاسي، وطلب منه أن يحجز له في أول طائرة متوجهة للمغرب، فرد عليه الضابط من باب تذكيره ليس الا، أنه كرئيس للدولة لديه طائرة رئاسية خاصة يستقلها في أي وقت يريد، الا أن بوضياف سحب من جيبه مبلغا من ماله الخاص وسلمه له، قائلا: أنا مسافر لرؤية أسرتي وأولادي وهذا يكون على حسابي الخاص وليس على حساب الدولة وكان حينها يتحدث له عن وحشته لأولاده، واذا بالعربي بلخير يستأذن للدخول عليه وكان برفقته الجنرال خالد نزار، فأذن لهما من دون تردد، غير أن الرئيس بوضياف بعدما سلم عليهما، واصل التحدث الى الضابط حول ضرورة سفره لرؤية عائلته، وكان حينها خالد نزار يتابع حديث الرئيس، الذي ظهر رقيقا للغاية، ومشاعره تتدفق بحنان أبوي كبير فبادره الجنرال نزار بقوله: السيد الرئيس يجب أن ننظر في مسألة زيارتك للمغرب، والأمر يحتاج الى ترتيبات على أعلى مستوى فرد عليه: يا سيادة الجنرال أنا سأزور أولادي وبيتي وليست زيارة رسمية، فرد نزار: مهما كانت ستحسب أنها زيارة رئيس دولة للمملكة المغربية، ليأمر بوضياف الضابط بالانصراف، ثم يستدير لخالد نزار: يجب أن ازور اسرتي وممتلكاتي حينها يتدخل العربي بلخير الذي قرأ في ملامح محمد بوضياف اصرارا كبيرا، وقال له: أكيد ستزور أسرتك ولكن نحن نحرص على سلامتك وأمنك وخاصة أنك مستهدف من الانقاذيين وكان بوضياف يتابع حديث الجنرال الذي استفاض في تعداد الأخطار التي تهدد الرئيس، والتداعيات المترتبة على سفر الرئيس للمملكة، وسرد ماسماه الاستغلال البشع الذي قد يقدم عليه المغرب من خلال هذه الزيارة وخاصة في ما يتعلق بالقضية الصحراوية، وبعدما أنهى كلامه رد عليه بوضياف قائلا: أنا لا أريد أن تحشر أسرتي في قضايا سياسية وخلافات بين البلدين، فقال له خالد نزار: يمكن أن تزور المغرب لكن بطريقة سرية للغاية، فسأله بوضياف: وما الحل في نظرك حول سرية الزيارة ؟

أجابه: قبل ذلك أفضل أن تحضر أسرتك كلها للجزائر ولاداعي للبقاء في المغرب، فرد بوضياف ساخرا:ومصنعي كيف أفعل له؟ أجابه: أنت لست في حاجة له أبدا يمكن أن نوكل أمره للسفارة الجزائرية التي ستتولى بيعه وبأي ثمن أنت تريده وتحدده!!

بوضياف العنيد

محمد بوضياف المعروف بعناده الشديد ومواقفه الصارمة خاصة ان تعلق الأمر بخيارات يريدها، رفض رفضا قاطعا كل ما قيل له بل صمم على زيارة المغرب، فطلب منه الجنرال خالد نزار أن يستدعى أعضاء المجلس الأعلى للدولة من أجل البت في الموضوع، الا أن الرئيس رفض كل ذلك لأنه اعتبر ما حدث لا يتعلق بشؤون الدولة، بل هو شأن عائلي خاص يتعلق به ولا يمكن أبدا ادخال مثل هذه الأمور في الشأن العام، فوجد العربي بلخير صيغة يمكن بها احتواء الخلاف الذي قد يتعمق أكثر ويصل لما لا يحمد عقباه، فأقترح على الرئيس أن يزور المغرب كما يريد وأن لا يكون له لقاء مع العاهل المغربي حينها الحسن الثاني ولا يزور قصره الملكي، فسأله بوضياف مستهزئا: وان دعاني الى أن أكون ضيفه هل أشتمه؟ فأجابه العربي بلخير: حينها لا مجال لرفض الدعوة لكن وجب ألا تفتح معه أي موضوع يتعلق بالجزائر أو قضية الصحراء الغربية، فعاود بوضياف متسائلا: وان فاتحني في أي موضوع هل أبقى أخرس؟

نعم كانت هذه الحادثة لديها دلالات كبيرة في المسيرة المحدودة التي قضاها الرجل على رأس الدولة الجزائرية، بل أكثر من ذلك أنه حدث ما لم يكن متوقعا، فبعدها بأشهر تعد على الأصابع تم اغتيال محمد بوضياف علنا وعلى المباشر، وتناقل التلفزيون الرسمي والقنوات العالمية صور مقتله، وقيل ان القاتل اسمه لمبارك بومعرافي وهو ضابط في الأمن الرئاسي يحمل رتبة ملازم أول، والذي كان مقربا من الجنرال خالد نزار كثيرا وتم الحاقه بالوفد الأمني المرافق لبوضياف في زيارته بطريقة مشبوهة للغاية، بل ذهبت تلك اللجنة التي تشكلت من أجل التحقيق في قضية الاغتيال، الى أن بومعرافي رجل اسلامي ومعروف بميولاته الدينية وتأثره بالجبهة الاسلامية للانقاذ بل انه من المهوسين بخطابات علي بن حاج وعلي جدي، لكن كثيرين من المراقبين حكموا على هذه الروايات المتعلقة بتدين القاتل بأنه طرح سخيف للغاية، وخاصة أن المخابرات تمنع أن يعمل بمصالحها أي شخص يشتبه في أدائه للصلوات الخمس، هذا في مصالح عادية كأمن الثكنات العسكرية فكيف يكون الحال أن تعلق الأمر بأهم مصلحة وهي الأمن الرئاسي وحراسة شخصية لرئيس الدولة؟ هذا الى جانب ما رواه الكثيرون من ضباط المخابرات الذين اشتغلوا مع بومعرافي، بأنه من أشد الناقمين على الاسلاميين وأنه من المدمنين على الخمور والسهر بالحانات والكباريهات وعلب الليل، ولا علاقة له من قريب أو من بعيد بالمتدينين.

نبذة عن بوضياف

محمد بوضياف من قدماء جبهة التحرير الجزائرية، لكن بعد الاستقلال تم التنكر له ككثير من المجاهدين الشرفاء من قبل جنرالات فرنسا الذين سيطروا على الجبهة بعدما اخترقوها، هؤلاء الجنرالات لم يلتحقوا بالجبهة الا قبل أشهر قليلة قبل الاستقلال وأعلنوا أنهم نادمون على خيانتهم، لكن يتضح أن العملية هي اختراق فرنسا للجزائر عبر هؤلاء الجنرالات..بعد الانقلاب العسكري في الجزائر يوم 11 يناير1992 أراد جنرالات الجيش ايجاد وسيلة لتهدئة المواطنين الساخطين اثر ايقاف المسار الانتخابي من جهة وابعاد الجيش من واجهة قيادة الدولة من جهة أخرى. كانوا يدركون أن في مصلحتهم التحرك وراء حكومة يزعم أنها مدنية.تفاديا لانتقادات الدول الغربية التي رغم ارتياحها لعدم وصول الجبهة الاسلامية للانقاذ الى الحكم- لاتستطيع دعم دكتاتورية عسكرية مباشرة.وتعيّن على الجنرالات وهم: خالد نزار وعبد المالك قنايزية ومحمد العماري ومحمد تواتي ومحمد مدين ايجاد رئيس للدولة يتمتع بمواصفات معينة وتتوافر فيه معايير محددة. وكقاعدة انطلاق فقد كان المعيار الأول مفروغا منه فالشخص الذي يقع عليه الاختيار يجب أن يكون من قدماء المجاهدين وله ماض لايُعاب وان يكون -أن أمكن – ضحية لنظام الشاذلي وحتى لنظام بومدين، كما يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن كل الانقسامات السياسية.

ولم تكن هذه المعايير المحددة متوافرة لدى الكثيرين ممن يمكن ترشيحهم لمنصب رئيس دولة، ويكاد يكون من باب الصدفة أن وقع اسم محمد بوضياف على لسان الجنرال نزار، فبوضياف رجل ذو وزن ثقيل وتتوافر فيه كل الشروط المطلوبة. لكن المشكل الكبير الذي كان مطروحا، هو هل سيقبل السيد بوضياف بمنصب محرج وقد ابتعد عن السياسة منذ زمن بعيد ليتفرغ كلية لأعماله الخاصة وأسرته حينئذ، قرر الجنرالات ارسال (صديق قديم) لابلاغه بالاقتراح.. وكان ذلك الصديق هو علي هارون، وكانت مهمة هذا الأخير حساسة جدا. حيث حبس جميع الجنرالات الذين كانوا في الأمانة العامة لوزارة الدفاع الوطني أنفاسهم في انتظار الجواب بالقبول أو الرفض من طرف بوضياف.

وفي المغرب التقى الصديقان في بيت محمد(بوضياف)، حيث أطلع علي هارون بوضياف على هدف زيارته بعاطفة جياشة. فوعده بوضياف الذي تأثر بالعرض من دون أن يفاجأ به بالتفكير في الموضوع وابلاغهم بما يقرره في اقرب الآجال. وبعد مشاورات مع أسرته وصديق آخر له يعمل طبيبا، وافق بوضياف على الطلب ليس لعظمة المنصب، بل لأن الساعة تنذر بالخطر في الجزائر والوضع الذي أطلعه عليه علي هارون ينذر بالكارثة. وباشربوضياف اتصالاته الأولى من المغرب حيث اتصل بأعضاء قدامى في حزب الثورة الاشتراكي واطلع الملك الحسن الثاني على الموضوع الذي اعتبره هدية السماء طامعا في أن تجد أزمة الصحراء الغربية عندئذ مخرجا لها.

وابلغ علي هارون جنرالات الجزائر(البينوشيين) الذين ظنوا أنهم وجدوا حلا للازمة الدستورية التي تهدد مصالحهم الشخصية فأعلنوا الخبر للعامة وبدأوا في التحضيرات استعدادا لاستقبال منقذ الجزائر. وتم اطلاع حكومة باريس بهذا الاختيار في نفس الليلة التي قرر فيها النظام الفرنسي الاتصال ببوضياف الذي كان معروفا لدى الفرنسيين لشغله منصب ضابط مساعد في الجيش الفرنسي سابقا وحيازته ميدالية عسكرية وصليب الحرب الفرنسية. اذن ليس هناك من اختيار من شأنه أن يرضي أصدقاءهم فيما وراء البحر أكثر من هذا الاختيار؟ وبالتالي تكون الثغرة قد سُدت وأعيدت الشرعية للقيادة السياسية في البلد وكان نزار ساهم شخصيا في تزكية بوضياف رئيسا على رأس المؤسسة العسكري غير أن بعض الضباط السامين في الجيش الذين شجبوا هذا الخيار اعتبروا هذه الخطوة اهانة لهم. فلم ينسوا أن هذه الشخصية الثورية (بوضياف) انحازت لجانب الملك الحسن الثاني أيام المسيرة الخضراء التي أدت الى نشوب حرب الاخوة التي قضي ضحيتها مئات الجنود الجزائريين دون ذكر الذين اعتبروا في عداد المفقودين والمعتقلين.

لم يشك بوضياف (73 سنة) انه عائد الى الجزائر لشغل أعلى المناصب القيادية والقاضي الأول في البلاد فيها وانه سيعامل معاملة الملوك. وكونه قضى مدة طويلة بعيدا عن الجزائر شكل له عائقا الا أن ذلك يخدم نسور وزارة الدفاع الوطني خدمة كبيرة.

بيد انه بمجرد وصوله الى قصر الرئاسة أدرك بوضياف بسرعة نسبية متطلبات حياته الجديدة. وسرعان ما بدأ يكشف اسرار دولة على وشك الخراب على كل الأصعدة. والأخطر من ذلك انه وجد نفسه على حافة حرب أهلية مستترة وراء تقارير أمنية كاذبة. (كان يوقع على كل الاجراءات الأمنية المتخذة ضد مناصري الجبهة الاسلامية للانقاذ الذين كانوا حسب تلك التقارير يعرضون مستقبل الجزائر الى خطر عموم الفوضى الشاملة). لقد كان بوضياف مقيّدا من قبل صناع القرار في وزارة الدفاع الذين شاطرهم آراءهم في البداية على الأقل من دون أي تعليق أو تعقيب.

ومع مرور الوقت شرع بوضياف في التحرر وحاول جلب المقربين منه حوله وتنصيب أصدقائه الأوفياء على كل المستويات، لكنه لم يجد صدى كبيرا لدى ضباط الجيش الذين ألغوا مراسيم تنصيب العديد من الأشخاص الذين أرادهم بوضياف حوله فيما كثرت الشجارات الشفوية مع مسؤولين سامين في وزارة الدفاع لان هؤلاء كانوا يصدرون أوامر مناقضة لأوامره. كما تقلص نطاق حرية عمله تدريجيا بتدخل من الجيش، وكانت كل اتصالات بوضياف مسجلة ومراقبة على الدوام وعن قرب واذا دعت الضرورة للتخلص من الشخصيات التي كان يتصل بها بوضياف، فان قناصي الجنرال توفيق رهن الاستعداد للقيام بالمهمة.

قوى غادرة

لم يفطّن بوضياف الى أن المساندة الشعبية الشرعية والقوية هي الوحيدة التي تمده بقوة كافية لاجراء التغييرات التي يراها ضرورية لاخراج الجزائر من أزمتها الا في نهاية المطاف. لكن هذه التغييرات لم تُعجب القوى الغادرة في السلطة لأن لهذه القوى التي كانت تملي سيناريوهات السياسة الجزائرية في مختلف الأوقات أهداف أخرى.وقد أوصى بعض الأوفياء في السلطة بوضياف باتخاذ الحذركما تعرض رئيس مكتبه لمضايقات عن طريق الهاتف تارة ومبعوثي وزارة الدفاع الوطني الذين طلبوا منه تهدئة محمد تارة أخرى لأن هذا الأخير (بوضياف) كان كثيرا ما يتخذ قرارات من دون الرجوع الى قادة وزارة الدفاع.

وما زاد الطين بله قرار بوضياف ورأيه المتصلب لاعادة محاكمة الجنرال بلوصيف (أمين عام وزارة الدفاع في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد)، وبهذا يكون قد رفع تحديا جريئا في وجه بارونات الجزائر.عزم بوضياف على المضي في ذلك بعد مشاورات كان أجراها مع قاصدي مرباح (مسؤول المخابرات العسكرية سابقا). وتجدر الاشارة الى أن هذين الرجلين كانا يعرفان بعضهما بعضا جيدا ومن نفس التيار السياسي. ولهذا السبب، تعهد مرباح بمساندة هذا الرجل الذي كان يكن له الاحترام نفسه الذي كان يكنه للسيد عبد الحفيظ بوصوف.

وشكلت مساندة قاصدي مرباح نصرا كبيرا لبوضياف خاصة وأن الأخير يعد من دون شك من القلائل المطلعين على الحقيقة الجزائرية. كما يعرف من هم الأعداء اللدودين في السلطة ولمحاربتهم كان بحاجة الى رئيس مثل بوضياف لدعمه. وكانت اتصالات مرباح واسعة ومهمة بما فيها توفيق الذي كان يشغل رتبة ملازم ثان ضمن الجيش (SA) عندما كان مرباح يشغل منصب قائد الأمن العسكري (SM). فقد استطاع أن يحصل على وعد بالمساعدة تمثل في ضمان نزاهة ضباط الأمن بخصوص التغييرات التي كان الرئيس بوضياف ينوي ادخالها لاخراج البلاد من أزمتها. وبات قيام توفيق بدور مزدوج في لعبة واحدة أمراً ضروريا. ويذكر أن منصبه حينئذ، كان غنيمة تكالب عليها حساد آخرون كانوا خطيرين هذا وزادته معرفته لحقائق وتصرفات بوضياف مزايا عن غيره.

لما حان وقت محاكمة الجنرال مصطفى بلوصيف مجددا قام الجنرال توفيق بنشر تفاصيل قضية حاج بتو (حيث كان ضباط الأمن على علم بصفقاته غير القانونية مع بلدان الصحراء منذ مدة طويلة) في الصحافة الوطنية بهدف صرف الأنظار عن المحاكمة. لكن في الحقيقة، لم يكن الحاج بتو سوى واحد من مجموعة كبيرة وصلت الى غاية الجنرال العربي بلخير.وكان من شأن قضية بلوصيف المعاد النظر فيها بكل امتداداتها أن تجر معها كلا من الرئيس الشاذلي بن جديد والعربي بلخير وآخرين عديدين كانوا مذنبين أكثر من بلوصيف نفسه. وان تمت محاكمة بلوصيف بتهمة تهريب مبلغ مالي بسيط نسبيا، بالمقارنة مع المبالغ التي هربها الآخرون فسوف يؤدي ذلك الى محاكمة الشاذلي وخاصة العربي بلخي (الذي كان مدير ديوان الرئيس) بتهمة الخيانة العظمى بناء على طبيعة الحقائق المتصلة بهذه القضية.

وبحسب محللين بدأت القصة بمشروع اقامة تغطية كل التراب الجزائري عن طريق أجهزة الرادار، تقدم به العربي بلخير للسلطة لحساب الحكومة الفرنسية، لكن رفض الجنرال مصطفى بلوصيف الذي يشغل منصب الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني المشروع، وكذلك رَفَِِضَه العديد من الضباط العسكريين الكبار بسبب تكلفته الخيالية اذ كانت قيمة المشروع الاجمالية آنذاك تتجاوز الأربع بلايين فرنك فرنسي جديد كانت نتائج هذا المشروع، لو تم انجازه ستكون وخيمة على اقتصاد البلاد كما كان سيضع نظام الدفاع الجوي الجزائري برمته تحت سيطرة فرنسا وهذا هو السبب الذي جعل بلوصيف يرفض تبني المشروع برغم الضغوط التي مارسها عليه العربي بلخير والشاذلي للتوقيع عليه. (وشاء القدر أن يمضي لواء قوات الجيش محمد العماري على مشروع مماثل عام 1995 مع الحكومة الفرنسية بطبيعة الحال وهذه المرة كانت الكلفة اكبر بكثير).

وعقابا لبلوصيف على رفضه للمشروع اتهمه الشاذلي رسميا بالفساد وسوء الادارة مستعينا بأدلة قدمها له العربي بلخير كان حصل عليها من أصدقائه الفرنسيين (تفاصيل حساب بنكي في باريس باسم بلوصيف وشرائط مرئية تجلب الشبهات، يشاهد فيها برفقة عميلات في الاستخبارات الفرنسية من أصل لبناني، وكذلك تفاصيل متعلقة لعيادة خاصة شهيرة بمدينة نويي الفرنسية كان يستلم منها أرباحا كبيرة). وأمام هذه السياسة المفروضة لم يستطع بلوصيف الدفاع عن نفسه وأرغم على دفع ثمن غلطته من دون احتجاج.

ويروي التاريخ أن الذين اسقطوا بلوصيف هم عملاء استخبارات فرنسيون لان باريس استاءت لتلك المحاكمة التي كانت ستؤول دون شك الى كشف العلاقات الجارية بين العربي بلخير والسلطات الفرنسية عندما كان يقوم بمهام رئيس مكتب الرئيس الشاذلي بن جديد (كانت اتصالات بلخير المباشرة مع فرنسا ومرشده في مجال السياسة الفرنسية في الجزائر تتم عن طريق جاك اتالي، صديق حميم للرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا ميتران).

ولاشك أن بوضياف ارتكب أخطاء، لكن لم يكن له خيار في اغلبها كان شعاره ومبدؤه: الجزائر قبل كل شيء. لكن هذا لم يكن هدف صناع القرار في الجزائر بالتأكيد وكان الشارع الجزائري يطالب بمحاسبة المجرمين وينادي بالانصاف في حق ضحايا أحداث أكتوبر 88 وكان بوضياف يدرك ذلك واتضح له أن تحقيق تلك العدالة من أصعب الأهداف التي يمكن نيلها. لكن بوضياف لم يستسلم فقد كلف مقربين منه كانوا يشاطرونه الرأي بمهمة مستحيلة تمثلت في وضع خطة لتطهير السلطة من كل الشخصيات المتورطة في الفساد ومحاكمة المذنبين علنا. ومرة أخرى يرجع الفضل الى قاصدي مرباح الذي قدم لبوضياف ملفا مرعبا يتكون من ثلاثمائة صفحة تناولته نشاطات بعض العناصر في السلطة. وهكذا تمكن بوضياف من اختيار ضابط كبير من ضباط مديرية المخابرات السرية رئيسا لبعثة خاصة (هو من أقارب مرباح وصديق شخصي للجنرال السعيدي فوضيل وواحد من الثوار الاوائل) وهو العقيد مراد المعروف لدى مديرية المخابرات السرية بمعالجة العمليات الأكثر حساسية.

قدم العقيد مراد تقريرا مبدئيا تناول ملخصا للخسائر الناجمة عن الفساد ونفوذ المافيا السياسية والمالية في الجزائر وتكملة لملف المعلومات الذي كان قدمه قاصدي مرباح وكذلك خطة عمل مفصلة اضافة الى الأدلة التي جمعها مرباح خلال خدمته التي دامت ثماني عشرة سنة في الحكومة. وبهذا حصل بوضياف على الأدلة وكان يعلم علم اليقين انه لا نجاة للجزائر من أزمتها الا اذا أشار بأصابع الاتهام لمقترفي الجرائم في الجزائر من اجل استعادة الثقة المفقودة بين الشرعية الجزائرية ودعاتها. لكن يجب أن يتم ذلك قانونيا أي حسب الوسائل التي يخولها له القانون والدستور فكان مصرا على عدم اللجوء الى الوسائل المنحطة.

أدرك بوضياف ما هو صنف وطباع الأشخاص الذين يحاربهم ثم قرر مغادرة منصبه المنحوس والعودة الى بيته بالمغرب من دون أن يبلغ بذلك أحدا. كانت تلك هي المرة الأولى التي يتخلى فيها رئيس جزائري عن مهامه في ظلمات الليل.

قبل اغتيال الرئيس بليال قليلة كانت أمانة وزارة الدفاع الوطني تعيش حالة غليان، كما تكثفت الاتصالات فيما بين مختلف المسؤولين حيث لم يفترق نزار وتوفيق عن بعضهم البعض. وما زاد النار اشتعالا هو توقيع نزار لأوامر بمهمة للعقيد مراد للتوجه الى باريس. وكانت ضربات بوضياف في وجه المافيا الجزائرية تتزايد، وأن هناك رؤوسا قد أينعت وستقطف لامحالة أن لم يوضع حد للاجراءات التي اتخذها بوضياف.

في أوائل شهر يونيو عام 1992 في اجتماع ليلي للجنرالات ضم خالد نزار وتوفيق والعربي بلخير في منطقة سيدي فرج (مركز تقطنه اسر لعسكريين) طرحت تصفية الرئيس باعتبارها الحل الوحيد لمشكلة بوضياف خصوصا وان هذا الأخير راجع لتوه من المغرب بعد مغادرة منصبه ولم يقبل بمواصلة مهامه كرئيس الا بعد سفر عدد من المسؤولين (بما فيهم الجنرال محمد تواتي) لاقناعه بالعودة لخدمة بلاده.

وقبيل اغتياله بأسبوع سرقت كل الملفات التي جمعها بوضياف من مكتب الرئاسة في احدى الليالي. عندئذ أدرك بوضياف أن الأشخاص الذين كان ينوي فصلهم سيفعلون المستحيل للنجاة من العدالة مرة أخرى. وفي اليوم الذي توجه فيه بوضياف الى مدينة عنابة (شرق البلاد) في زيارته الأخيرة اقتحم العربي بلخير بصحبة أخيه عبد القادر مكتب الرئاسة واخذ بحوزته مجموعة وثائق.

وشعرالجنرالات أن الخطر محدق والوقت ضيق وبات من الضروري بذل كل الجهود لايقاف بوضياف الذي ينوي مفاجأة المعسكر المنافس، وبمساعدة الجنرال العماري (عقيد آنذاك) ونائب مدير المخابرات السرية ورئيس الأمن الداخلي وضع توفيق الخطوط العريضة لتصفية الرئيس. ولم يعتمد على السيناريو الاسلامي لأسباب السرية، وبالفعل لن يضمن سرية مطلقة للعملية تكليف عملاء اسلاميين ومن الأرجح أن تكون نتائجهم اقل فعالية في وجه عناصر مصالح الأمن الرئاسي وفرق التدخل الخاصة. أما الطريقة الوحيدة التي تكون نتائجها مضمونة هي التخطيط من الداخل: بانتقاء قناص يلبي أوامر مسؤوله الخاص (لسبب أو لأخر) اذ يمكن الجنرالات القول بعد تنفيذ العملية أن الجاني مختل العقل، وبالتالي يُغلق ملف القضية من دون أن يشكل ذلك خطرا كبيرا ويضمن بالمقابل نجاحا تاما للعملية.

وقد بارك كل من خالد نزار والعربي بلخير سيناريو العملية الذي عرضه عليهم اسماعيل العماري، وكانت فرقة الموت (خلية الشبح التي أنشأها بلخير وتوفيق وسيرها اسماعيل تضم عناصر من مصلحة العمليات الخاصة تم انتقاؤهم بسرية تامة) تقوم بالمهمة السهلة التي تتمثل في تصفية كل الشهود والعناصر المزعجة ضمن شبكة بوضياف. لقد وجد اسماعيل لذة شيطانية في تصفية الخصوم وكل الأشخاص الذين لديهم علم بالقضية من دون أن يفلت منهم احد.

وبالفعل شرع جنرالات الجيش في تنفيذ مخطط الاغتيال،التي لم تعرف تفاصيلها لفترة طويلة، وذلك من خلال أعضاء مصالح الأمن القلائل الذين اختلطوا ببومعرافي مبارك خلال الأيام القليلة التي تلت المأساة. وكان بومعرافي جد قلق وخائف لكشف سره اللعين لأي كان. فوقوع اختيار اسماعيل العماري على الملازم الثاني مبارك بومعرافي لم يكن من باب الصدفة. فقد كان اسماعيل فد لاحظ في شخصيته برودة الدم اضافة الى سريته من خلال عمليات سابقة. وكان العقيد اسماعيل الذي شغل منصب رئيس العمليات الخاصة آنذاك مؤهلا بحكم منصبه هذا لمعرفة من هوأهل لهذه المهمة. وفي مركز عنتر للعمليات الخاصة اطلع اسماعيل بومعرافي على التعليمات الأولى للعملية من دون ذكر اسم المستهدف، حاثا اياه على الالتحاق بجماعة الموت لتطهير حزب الخونة الذين أرادوا هدم وخراب البلاد ولا داعي لذكر الوعود المغرية بالترقية ضمن الجيش التي وجدت صدى لها عند بومعرافي. لأنه ضروري جدا أن يكون لأي احد يرغب في الارتقاء ضمن الجيش من يدعمه ويسانده في ذلك. وهذا ما كان يصبو اليه بومعرافي. وبعد عدة اجتماعات جمعت بينهما استعد بومعرافي لليوم العظيم. وقد كشف لبعض رفقائه بعد العملية انه لما علم بالشخصية المستهدف تصفيتها لم يكن بوسعه مغادرة مكتب الرائد اسماعيل حيا في حالة ما رفض المضي في تنفيذ العملية.

هذيان خلال الاستجوابات.. ولا أحد يعرف لماذا لم يهرب بومعرافي (2-2)

يد من وراء الستار.. الرئيس قتل والتحقيقات كارثة

القاهرة – مصطفى ابراهيم

 مقالات أخرى للكاتب

الخميس 11 أغسطس 2011

رصاصة قاتلة في قلب زعيم ..أوطعنة غادرة في صدر ملك ..أو قنبلة موقوتة تنفجر في جسد رئيس.. أو إعدام قيادي ثائر بصاروخ.هكذا هو طريق الاغتيالات.. مزروع بالكراهية والعنف ومفروش بالبارود والدماء.تعددت الاغتيالات في الوطن العربي بدءاً من اغتيال الشيخ حسن البنا زعيم جماعة الإخوان المسلمين مرورا بالرئيسين المصري أنورالسادات الذي اغتيل برصاص القناصة وسط جيشه والجزائري بوضياف الذي تلقى رصاصة اخترقت جسده في احتفالية ضمت كل رجال الدولة ورئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري الذي تم تفجير موكبه في الشارع جهارا نهارا وصولاإلى محمود المبحوح القيادي الفلسطيني.

وفي هذه السلسلة سنحاول التعرف على أهم حوادث الاغتيال في المنطقة العربية خلال 60 عاما مضت عبر رصد التفاصيل الدقيقة لحظة وقوع الحدث كتصرفات الجاني ورد فعل القتيل، كيف خطط القتلة للجريمة ؟وكيف تم التنفيذ ؟ وعلى مدى 26 حلقة نستعرض أهم تقارير ودراسات مخابراتية عربية وأجنبية تناولت أبرز الاغتيالات في الوطن العربي وتحليل خبراء أمنيين وجنائيين لتلك الوقائع وما ذكره شهود العيان وأقوالهم في التحقيقات التي أجريت في أعقاب الأحداث الدامية. طرأت في عشية الاغتيال مشكلة كادت أن تتلف كل التدبير. فالرائد حمو قائد فرق التدخل الخاصة لم يعين الملازم الثاني بومعرافي لارساله الى عنابة لأنه كان يحمله مسؤولية قتل صديقه والقائد الأسبق لفرق التدخل الخاصة الرائد عبدالرحمن خلال عملية مهاجمة ارهابيين بمنطقة تيليملي وسط الجزائر العاصمة حيث لقي الرائد عبدالرحمن والملازم الثاني طارق من فرق التدخل الخاصة مصرعهما في عين المكان اثر محاولتهم اقتحام مبنى سكني، وكان من المفروض أن يقوم بتغطية حمايتهما بومعرافي لكنه اخفق في ذلك، ونزلت على الضابطين رشقة من ضربات الكلاشنكوف لم تفدهم حتى الصدريات الوقائية المضادة للرصاص التي كانا يرتديانها. وعندما علم العقيد اسماعيل بالعناصر التي قرر حمو ارسالها الى عنابة اتصل به وأمره باصدار أمر بمهمة فردية لبومعرافي للانضمام الى بعثة المكلفين بأمن الرئيس هناك فابلغه حمو بتحفظاته فيما يخص كفاءة هذا العنصر، لكنه رضخ في نهاية المطاف أمام اصرار مسؤوله. وتوجهت فرق التدخل الخاصة التي يتمثل واجبها في مساعدة مصالح الأمن الرئاسي الى عنابة برا عشية زيارة الرئيس للتأكد من اجراءات الأمن هناك. ويوم وصول الرئيس الى عنابة تم دمج عناصر فرق التدخل الخاصة بعناصر مصالح الأمن الرئاسي يعني انه لم تكن أي تعقيدات بخصوص المساحات التي يجب على كل من العناصرالمصلحتين أمنها. من الناحية المهنية كان السبب في ذلك بسيط جداً: عناصر كلتا المصلحتين مدربة تدريبا جيدا خاصة منهم عناصر فرق التدخل الخاصة، فكانوا يعرفون بعضهم بعضاً جيدا وينتقلون من مصلحة الى أخرى، حسب أوامر مسؤوليهم. وبهذا تكون خلاصة الدمج عدم شك أي من عناصر المصلحة في نزاهة أي عنصر من المصلحة الأخرى في فرق الحماية. وبوصول الرئيس الى قصر الثقافة التي كان من المقرر أن يدشنها، كان بعض عناصر فرق التدخل الخاصة وراء ستار القاعة وجزء منهم في خارجها لضمان امن جبهة القاعة الخلفية والمطلة على حي سكني على مقربة من قصر الثقافة. كان بومعرافي يرتدي بدلة مثل بدلات فرق التدخل الخاصة التي كانوا قد حصلوا عليها منذ فترة قصيرة (بدلة زرقاء قاتمة). وقبل وصول الرئيس توجه بومعرافي الى فناء قصر الثقافة الخلفي لكنه بقي يدخل ويخرج من القاعة حيث كان الطقس جميلا في تلك الصبيحة من ذلك اليوم من أواخر شهر يونيو 1992.

تعبئة الجماهير

كانت الأمور تجري وفقا لما خطط لها، وكان الرئيس يلقي خطابا مهما يهدف الى تعبئة الجماهير في الشرق الجزائري وترقية حركته التي تبنت شعار (الجزائر قبل كل شيء). وكان ذلك المشهد منقولا على الهواء مباشرة بطبيعة الحال، الى جميع أنحاء الوطن. ووراء الستار كانت عناصر حماية الرئيس وعناصر فرق التدخل الخاصة يتحدثون بصوت منخفض في الوقت الذي كان فيه قائد مصالح الأمن الرئاسي الرائد هجرس يتحدث متجرعا سجارته مع الرائد حمو والنقيب زايدي،(نائب مدير فرق التدخل الخاصة). والنقيب صادق مسؤول تكوين فرق التدخل الخاصة والملازم تركي رئيس بعثة فرق التدخل الخاصة. وأمام المدخل الخلفي كان يوجد الملازم ياسين المعاون الأول لبعثة فرق التدخل الخاصة. وفي الفناء الخلفي كان متواجدا الملازم الثاني مبارك بومعرافي مكلف الأمن. في لحظة كان فيها اهتمام الجمهور منصبا على خطاب القائد الثوري محمد بوضياف سمع صوت انفجار بسيط في أول القاعة سبقه صوت دحرجة، حيث رمى بومعرافي قنبلة يدوية مفتوحة تدحرجت من تحت الستار، ثم برز من وراء الستار في الوقت نفسه ليطلق رشقة طلقات لالهاء عناصر مصالح الحماية، فظن هؤلاء انه هجوم من الخارج لما شاهدوا بومعرافي يضرب بالنار، غير أن هذا الأخير نصب رشاشة (من نوع باريتا 9 مليمتر ومن طراز بارابيلوم أي سلاح جد خطير) في اتجاه رأس بوضياف مرسلا رشقة طلقات أخرى طويلة. وفجأة ساد جو من الفزع والرعب وبدأ عناصر الأمن الرئاسي يطلقون النار صوب الستار ما أسفر عن جرحى في عداد فرقة الحماية نفسها. والصورة الوحيدة التي بقيت في أذهان الجميع هي مشاهدة بومعرافي وهو يفر من الباب الخلفي حيث كان الملازم ياسين موجودا دون أن يعلم ما في الأمر.

هكذا شاهد الشعب الجزائري أحداث مأساة اغتيال رئيسهم مباشرة على الهواء. وقد كان مؤلما للغاية أن ذلك يحدث في الجزائر. أما بومعرافي فببلوغه الفناء الخلفي تسلق جدارا يبلغ طوله حوالي مترين بسرعة فائقة، ولم يشاهد هذا اللقطة سوى بضعة من رجال الشرطة والمارة كانوا على مقربة من مكان الحادث. توجه بومعرافي نحو اقرب مبنى سكني، وفي الطابق الأرضي، طرق على باب أول شقة وجدها. حيث فتحت له امرأة الباب عندما شاهدت البدلة الخاصة والسلاح في يده معتقدة انه من رجال الشرطة. لم يطلب منها بومعرافي سوى الاتصال بالشرطة وابلاغهم أن قاتل الرئيس بوضياف يريد أن يسلم نفسه. وصلت الشرطة بسرعة الى عين المكان فيما ابلغ مسؤول امن الولاية (عنابة) الضباط المسؤولين عن فرق التدخل الخاصة وكذلك مصالح الأمن الرئاسي باعتقال بومعرافي الذي سلم نفسه دون مقاومة. وفي نفس الوقت وفي اجراء غامض نقل الرئيس على متن سيارة اسعاف تفتقر الى أدنى الأجهزة الضرورية ودون طبيب الى مستشفى لم يعثر عليه. لكن الرئيس الذي أصيب بجروح بالغة، توفي على الفور: حيث أصيب بنزيف حاد من جراء وابل الرصاص الذي أصابه. وفي الجزائر العاصمة، تابع العقيد اسماعيل مجرى العملية مباشرة على التلفزه ومنذ اللحظات الأولى للاغتيال. اتصل اسماعيل بالمجموعة الوزارية للربط الجوي(GLAM) لتجهيز طائرة له، ثم اتصل بمحمد واضح (مسؤول الأمن الوطني) ليطلب منه الالتحاق به، اضافة الى فرقة من مركز (عنتر) للعمليات الخاصة.

إعلان الوفاة

وعمَّ آنذاك انهيار معنويات مسؤولي فرق الحماية الرئاسية (فرق التدخل الخاصة ومصالح الأمن الرئاسي) وغمرهم شعور مقلق، لكن باعلان وفاة الرئيس، أصيب الكثيرون بصدمة عنيفة. فلم يستطيعوا فهم كيف أو لماذا حدث هذا. وفي نفس القاعة التي جرى فيها الاغتيال، اجتمعت الفرق التي التحق بها العقيد اسماعيل ومحمد واضح وعدد من الوجوه المعروفة لاحقا، ثم تحدث العقيد اسماعيل مع ضباط من فرق التدخل الخاصة ومصالح الأمن الرئاسي، وتوجه بعدها نحو عناصر الفرقتين لمعرفة أخبارهم وطمأنهم بهذه الكلمات: لا تقلقوا، على كل الأحوال لم يكن بوسعكم فعل أي شيء أمام هذا المجنون، كما أن اغتيال رئيس حصل حتى للأميركان. ثم أمرهم بالعودة الى الجزائر العاصمة. وانتقل بعدها اسماعيل برفقة هجرس وحمو و واضح الى الأمن الولائي (لمدينة عنابة)، حيث يحتجز بومعرافي. وبمجرد أن شاهد هذا الأخير العقيد اسماعيل العماري قادما، قفز من كرسيه وراح يصرخ في وجهه: أتيت يا ملعون، هل أنت سعيد الآن؟

كان الجو السائد معتماً ثم أمر اسماعيل العناصر المرافقة له بتحويله الى الطائرة. وفي الوقت نفسه، نقل الرئيس الى مستشفى عين النعجة (HCA) بالجزائر العاصمة حيث أعلن الطبيب العقيد بريكسي مسؤول مصلحة الطب الشرعي من خلال تقريره الرسمي الخاص وفاة الرئيس. وفي نفس الوقت تقريبا، رافق العقيد اسماعيل بومعرافي الى قسم الاستعجالات بالمستشفى العسكري، حيث فحص الدكتور كوتوشكالي رئيس قسم الأمراض العقلية بومعرافي ثم أعطاه حقنة مهدئات. لكن بومعرافي الذي قاوم ذلك انطلق يصرخ بأعلى صوته: انتم تريدون قتلي، تريدون اسكاتي. . . فيما نزل على العقيد اسماعيل بالشتائم. وعندما بدأ بومعرافي يفقد وعيه بفعل التنويم، نقل الى قيادة الأركان ليمضي أولى لياليه في السجن.

المستشفى العسكري

أنشأ المجلس الأعلى للدولة لجنة تحقيق وطنية يوم 4/7/1992 ضمت شخصيات انتقاها الجنرالات المعنيون. وتشكلت هذه اللجنة من بلحوسين مبروك واحمد بوشعيب ومحمد فرحات ويوسف فتح الله وكمال رزاق بارة وعلال الثعالبي. وفي أول اجتماع عقدته هذه اللجنة عين احمد بوشعيب وهو صديق حميم لبوضياف وأحد أعضاء مجموعة تدعى بمجموعة الاثني والعشرين الذين فجروا ثورة 1954 رئيسا للجنة وكمال رزاق بارة مقررا لها.

شفافية خيالية

لم يكن لهذه اللجنة أي سلطة لكن بحكم الشفافية الخيالية والنزاهة في التحقيق، انتهى عملها بعد عدة اجتماعات مع مختلف المشاركين في اغتيال الرئيس بوضياف، بتقديم تقرير للمجلس الأعلى للدولة، ولم يكن لهذا التقرير أي أهمية بناء على انه لم يشكل تحقيقا قضائيا ولا رأي خبراء (بحكم عدم أهلية هؤلاء الأعضاء) حول اغتيال الرئيس.

وكان الهدف الوحيد وراء تأسيس هذه اللجنة، الصاق تهمة تدبير الاغتيال بمن أراده مقترفو الجريمة الحقيقيون. ولعب عامل الوقت دورا كبيرا لصالح المتعاونين على الجريمة. كما أن من أهداف تنصيب هذه اللجنة هو تهدئة العقول المصدومة من جراء هذه التصفية المباشرة. ومنذ الساعات الأولى مارس كل من اسماعيل العماري والعربي بلخير ضغوطا على اللجنة لتعيين رزاق بارة الذي كان عميلاً وفياً في خدمة ادارة المخابرات السرية، مقررا للجنة. وعلى هذا الأساس تمت مراقبة عمل اللجنة عن بعد منذ البداية بدفعها الى التركيز على بعض النقاط دون غيرها، على سبيل المثال: الرسالة المزورة التي وجدت بحوزة بومعرافي وعلاقته بالتيار الاسلامي وتحميل عناصر فرق التدخل الخاصة التي أرسلها توفيق لدعم عناصر الأمن الرئاسي. وتجدر الاشارة الى أن عناصر نخبة الحماية الرئاسية أرسلت لضمان الحماية الخاصة للجنرالات القمعيين. لكن اللجنة أبعدت التهمة عن توفيق واسماعيل العماري وكذلك العربي بلخير بدراية منها بالقضية رغم أنهم نظريا، هم المسؤولون الأوائل لما حدث للرئيس. نشبت داخل اللجنة اختلافات عميقة وكثيرة بخصوص تحديد الجناة الحقيقيين. فقد رضخ أعضاء اللجنة كلهم لضغوط ومضايقات الجنرالات، ما عدا يوسف فتح الله الذي رفض التوقيع على التقرير النهائي الى اللحظة الأخيرة، لأنه كان يريد ذكر مسؤولية قادة أجهزة الأمن وأقل شيء مطالبتهم بالاستقالة من مناصبهم كجزاء على المأساة.

كان كمال رزاق بارة بطبيعة الحال ينقل التفاصيل، كلمة بكلمة، الى رؤسائه في ادارة المخابرات السرية، كما كانت له يد في اغتيال يوسف فتح الله (رئيس اللجنة الجزائرية لحقوق الانسان) في مكتبه الواقع بساحة الأمير عبدالقادر بالجزائر العاصمة، بعد سنة ونصف السنة من ذلك الوقت، عندما شرع يوسف فتح الله في كتابة تقريره الشخصي حول قضية بوضياف بهدف نشره.

طرح بعد هذه القضية مشكل قضائي، اذ أعلن قاضي محكمة عنابة عدم كفاءة القضاء المدني للتحقيق في هذا الملف الذي كان النظر فيه من مهام القضاء العسكري. لكن المدير المركزي للعدالة العسكرية آنذاك، محمد العالم، بعد أن تسلم أوامر من عند الجنرال خالد نزار صرح في الصحافة أن القضية بطبيعتها مدنية وليست عسكرية. وبعد حوالي شهر من اغتيال الرئيس، قررت غرفة الاتهام بمحكمة عنابة بأن (محكمة عنابة) تتمتع بالصلاحية الاقليمية للنظر في القضية، حسب المادة 40 من قانون العقوبات.

سباق مع الزمن

وانطلق سباق حقيقي مع الزمن في وجه الجزائريين الذين نددوا بمؤامرة المافيا السياسية والمالية ضد رموز الثورة وضد آمال شعب في طريق الضياع بكل بساطة. وأمر وكيل الجمهورية لمنطقة عنابة محمد تيغرامت، المكلف رسميا بالتحقيق في هذه القضية، مواصلة التحقيق من قبل ضباط من رجال الأمن القضائي التابعين للدرك الوطني وقرر اعادة اجراء الوقائع في الأسبوع الأول من شهر أغسطس 1992، حيث توجهت فرقتا الأمن الرئاسي والتدخل الخاصة صبيحة يوم السبت من الأسبوع الأول من شهر أغسطس فيما نقل بومعرافي قبل ذلك بأيام الى عين المكان جوا، وتمت اعادة الوقائع بحضور ضباط من الدرك الوطني الى جانب شخصيات أخرى من بينهم قاضي المحكمة. وفوجئ الجميع، عندما أمر القاضي في نهاية الوقائع التي دامت اعادتها أكثر من خمس ساعات-بالقبض على عناصر الفرقتين. كانت المفاجأة كبيرة جدا ورفض عناصر الفرقتين تسليم أسلحتهم لرجال الدرك، اذ وجه عضو من فرقة التدخل الخاصة سلاحه نحو رجال الدرك لما حاولوا نزع السلاح من الرائد حمو، رئيس فرق التدخل الخاصة، الذي اشتد سخطه بعد سماع حكم القاضي.

طالب الرائد هجرس بعدها مباشرة بالاتصال بادارة مديرية المخابرات السرية، حيث نزل عليه الجنرال توفيق بالشتائم وأمره بالرضوخ للقانون. لقد كانت تلك اللهجة جديدة لم يعهدها رائد الأمن الرئاسي من قبل. وبأمر ملح من طرف الرائدين هجرس وحمو، سلم الضباط وضباط الصف المرافقون للرائدين أسلحتهم لرجال الدرك الذين نقلوهم مغلولي الأيدي الى مركز الدرك الوطني، حيث قضوا أكثر من أسبوع وتم الزج بالضباط كلهم في الزنزانة ذاتها. واندلع شجار بين عناصر مديرية المخابرات السرية ورجال الدرك الذين اخذوا بثأرهم من عناصر المخابرات، خاصة بعدما حازوا على دعم الجنرال غزيل رئيس الدرك الوطني بعدما ابعد عن القمة التي كانت تتخذ القرارات.

إجابات غامضة

عندما كان الجنرال توفيق يقابل اسر الضباط المعتقلين لمعرفة أخبارهم، كانت اجابته غامضة عن الأسئلة المطروحة عليه، فعلى سبيل المثال، كان يقول لهم: هذا (الاعتقال) يأتي مع طبيعة الشغل، على كل حال سيستمرون في تقاضي مرتباتهم كالعادة. أما التصريح العجيب، في هذا الاطار، فجاء على لسان العقيد اسماعيل الذي قال ساخرا للضباط الذين كانوا قلقين على مصير زملائهم: عليكم بالخيار، أما هم أو مسؤوليكم. وطال أمد النظر في القضية في عنابة عمدا، فيما قرر الجنرالات تحويل الملف الى الجزائر العاصمة بهدف تمييعه.

واغضب هذا القرار القاضي المكلف بالقضية بعنابة فقدم استقالته، ولكنه أرغم على العدول عن قراره اتقاء الانتقام منه. ولم يكن أمامه أي خيار بديل للنجاة بحياته سوى اصدار تكذيب تقديم استقالته التي أعلن عنها في الصحف والتلفزه في وقت سابق.

وفي الجزائر العاصمة، كلف النائب العام لمحكمة الجزائر العاصمة عبدالمالك السايح بالقضية. وكان هذا الأخير احد عناصر المخابرات السابقين تحت التصرف التام لاسماعيل العماري الذي جنده منذ سنين حيث كان يدرس بمعهد القضاة ثم قاضي محكمة امن الدولة بالمدية. كما عين محمد سعادة، وهو قاض من الدرجة الثانية، لكنه معروف بانصافه، لمساعدة السايح في سد فجوة الكفاءة التي تعوز السايح. لقد أنقذ السايح عبدالمالك وكمال رزاق بارة حياة ضباطهم الذين طبخوا العملية. وبالتالي نالوا المكافأة.

تم ترحيل المتهمين من الضباط وضباط الصف المعتقلين في عنابة وكذا ملفاتهم الى الجزائر العاصمة. وبوصولهم الى المطار العسكري ببوفاريك، وسط اجراءات أمنية مشددة من رجال الدرك الوطني، تم انزالهم من الطائرة التي كانوا يستقلونها مغلولي الأيدي والاقدام. وتأثر عمال المطار لحالتهم التي يرثى لها. ثم نقلوا بمن فيهم بومعرافي، الى سجن سركاجي برباروس سابقا. أما بومعرافي فقد زُج به في زنزانة منفصلة لوحده تحت الملاحظة الدائمة عن طريق كاميرة الفيديو. وشاء القدر أن يلتقي الرائد حمو بعد القادر حشاني احد قادة الجبهة الاسلامية للانقاذ الذي كان قد اعتقله منذ مدة.

كارثة

كان المشهد شبيها بالكارثة، لم تكن لاجابات بومعرافي عن الأسئلة الموجهة اليه من طرف ضابط خلف الكاميرا أي معنى على الاطلاق. كانت جل أقواله عبارة عن سب وشتائم في حق المذنبين الحقيقيين وتعليقات حول الوضع في البلاد. وردا على سؤال وجه له حول ما اذا كانت له علاقات باسلاميي الجبهة الاسلامية للانقاذ أجاب: لا يجرأ ذوو اللحيى والجلبات على فعل ما فعلته. لقد جرى التحقيق في قضية بوضياف بطريقة سيئة جدا، وبذل العميل السايح عبدالمالك -الذي نال مكافأة ولائه كماقال المراقبون بتنصيبه قنصلا في تونس- كل جهوده لتبديد حقائق تمثلت في اشارات كانت ستصل الى حد اتهام الجنرالات المجرمين. ولم يحظ أي من عناصر المخابرات بمثل هذه السلطة وتلك الصلاحيات أبدا، فزيادة عن الحراس الشخصين الذين خصصوا لحمايته من مركز العمليات الخاصة، ومسكن خاص بنادي الصنوبر (المركب السياحي الذي حول الى حي سكني للعسكريين) كان السايح احد المدنيين القلائل الذين حازوا على سيارة مدرعة كلفت المشاركين في الجريمة أموالا باهظة. وعندما تقدم احد أقارب الضباط المتورطين بشكوى موضحا فيها تجاوزات السياح، الى صديقه وزير العدل آنذاك، الماحي الباهي، قدم له هذا الأخير ضمانات شخصية لتحويل الملف الى قاض آخر. فوفى الماحي الباهي بوعده، حيث استدعى السايح الى مكتبه، ولما اخبره وزير العدل بنيته في أخذ الملف منه وانه من المفروض أن يكلف بالقضية أكثر من قاض واحد، نزل السايح على الماحي بالشتم ولم يضيع وقته معه، بل اتجه مباشرة الى ثكنة غرمول حيث تتخذ مديرية مراقبة التجسس مقرا لها وكذلك مكتب العقيد اسماعيل العماري. وضمنت مكالمة واحدة من قبل اسماعيل حل المشكلة. وفي نفس اليوم، أعلن عن استقالة وزير العدل، الذي فوجئ بهذا الاعلان في وسائل الاعلام.

وكانت لجنة التحقيق قد وجهت لبومعرافي سؤالا ولم يجد له جوابا: لماذا لم تمكث في مكان الجريمة بعد فعلتك؟ ولم يكن بومعرافي هو الذي وجد ردا لهذا السؤال، بل زميل له من فرق التدخل الخاصة (الرقيب الأول كمال عيدون) الذي كان من الأوائل الملتحقين بفرق التدخل الخاصة، وشارك في بعثة حماية الرئيس الى عنابة. فقد فرّ عيدون من ثكنة فرق التدخل الخاصة في نهاية سنة 1993 لأسباب مبررة مفادها أن اسماعيل العماري كان يريد التخلص منه كما فعل قبل بضعة أشهر، اذ تخلص من ضابط صف لسبب بسيط هو أن كمال عيدون لم يقم بالمهمة التي كلفه بها العماري شخصيا قبل أسبوع من حدوث المأساة. فقد قال له: تبعا للشكوك التي تخيم على ولاء بومعرافي، أفوض لك الصلاحية المطلقة لتصفية بومعرافي لأدنى خطأ قد يرتكبه.

لم يستدرك كمال عيدون أسباب شعوره بالقلق بخصوص أوامر اسماعيل الا بعد اغتيال بوضياف. لكن الأخطر من ذلك، انه لم يلب أوامر اسماعيل. ومن اجل ضمان تنفيذ تصفية بومعرافي، أمر اسماعيل ضابط صف آخر بقتل بومعرافي، الا أن هذا العنصر، (أصله من الجزائر العاصمة) كشف سره لأخيه بعد أيام قليلة من المأساة قائلا له: الآن عرفت لماذا طلب مني ذلك الذئب العجوز (تلك هي الصفة التي ينعت بها اسماعيل ضمن مصلحة الأمن) تصفية بومعرافي في عنابة. ولذلك السبب اعتقل هذا الضابط (الرائد فريد) قائد مركز عنتر في ذلك الوقت، وتعرض للتعذيب بتهمة علاقة خيالية بمجموعة ارهابية. كما واجه أخوه نفس المصير في وقت لاحق، لكن لم تكن لذلك أي فائدة لان السر كان قد تسرب. ولهذا فر كمال عيدون بعدما اطلع أقرباؤه على التعليمات التي أعطيت له، لكنه رفض قتل زميل له. ولم يدم فراره طويلا لان اسماعيل عبأ كل القوى الخاصة للبحث عن هذا الاختصاصي في المتفجرات الذي تمرد على الجيش. واغتالته عناصر فرق التدخل الخاصة التابعة للأمن الوطني، فيما أعيد مسدسه مملوءا لمصلحة فرق التدخل الخاصة. وكان بومعرافي على حق في تحرزه من اسماعيل. وبناء على ذلك، فضل تسليم نفسه لشرطة عنابة عوض زملائه.

أغنية الاعتراف

ومما سبق ذكره من متناقضات التحقيق وشبهات في سير القضية نجدها تشير بل تكاد تجزم بضلوع الجنرالات في الاغتيال، بل ان حارسا بسجن البليدة العسكري كان يقوم بحراسة زنزانة بومعرافي لمبارك، والمتواجدة بجناح خاص لا يصل اليه أحد وتحت حراسة أمنية مشددة، قد نقل بعضاً من أسرار حياة بومعرافي في زنزانته، ومع قطته التي يربيها ويحسن اليها، حتى أنه تم تخصيص طبيب بيطري يزوره بجناحه من أجل الاطمئنان عليها، وان أحست بوعكة ما ولو في ساعات متأخرة من الليل، أو راحت تموء على غير عادتها فيتم احضاره للفور لتطبيبها وتقديم الأدوية لها، فضلا عن حياة الرجل وأكله وشربه الذي يتم تسجيل كل ذلك في دفتر ويوقع عليه أسبوعيا قائد أركان الجيش وحكي الحارس أن بومعرافي يلتزم الصمت ولا يتحدث لأحد، لأن الادارة تمنع على الحراس التحدث معه، وزنزانته مجهزة بكاميرا مراقبة وأجهزة تصنت، تلتقط كل صغيرة وكبيرة وتسجل حتى خطرفاته أثناء كوابيس أحلامه الكثيرة، وهو ما يتنافى طبعا مع كل المواثيق الدولية التي صادقت عليها الجزائر وما يسمعون منه فقط هو ترديده دوما لأغنية بلحن خاص به ولتكريره لها حفظوا بعض ألفاظها: ظلموني خدعوني وفي الحفرة حطوني ما قتلوني وما سيبوني كيما وعدوني خدعوني خدعوني!!

وقد أمره مدير سجن البليدة الرائد عيسو في عام 1999 بالتوقف عن هذه الأغنية التي قد تفسر ويتم تأويلها حسب الأهواء، فقال له: أنا أغني ولست أكتب تصاريحا سياسية وبيانات اعلامية لذلك عدل من ألفاظ أغنيته بعد الضغوطات عليه من طرف قيادات زاروه في السجن، وصار يتمتم: آه يا دنيا غدرتيني في الوادي رميتيني ضيعتيني أنا لو كنت ندري آه يا عيني.

في السياق نفسه روى آخر وفي جلسة حميمية للغاية، أن بوضياف اختلف في جلسة عمل مع بعض الجنرالات وكان من بينهم العربي بلخير وخالد نزار والتواتي وقنايزية حول موضوع الصحراء الغربية، حتى أنه أشار لهم بضرورة تصحيح المسار المتخذ وبقرارات جريئة، لأن الجزائر في هذا الظرف ليس في وسعها تحمل أعباء الصحراويين ولا عداوة مع المغرب، هذا الحديث الذي تلفظ به بوضياف ظهر كأنه يبطن أشياء ضد الموقف الرسمي الجزائري المعروف منذ 1975، وهو ما أثار حفيظة علي كافي حينها ورد غاضبا: الموقف من الصحراء الغربية من ثوابتنا التي لن نتخلى عليها ولو بالدم بل ان العربي بلخير ذهب الى أن حذر الرئيس بوضياف من مغبة التفكير في مراجعة الموقف الجزائري، ليجد الرئيس المغتال نفسه في موضع لا يحسد عليه من خلال تلك الاشارات العابرة، التي أوحت للعسكر من أن الرجل في حال تمكنه من السيطرة على دواليب الدولة، فقد يذهب بعيدا في تجاوز الخطوط الحمراء وخاصة المتعلقة بالصحراء الغربية، أو تلك الملفات التي يريد أن يفتحها في اطار حربه على الفساد والرشوة التي تمكنت من دواليب الدولة ليبقى السؤال مطروحا: هل قتلت الصحراء الغربية المجاهد وأحد ابرز قيادات الثورة الجزائرية محمد بوضياف؟ وهل تمكنت البوليساريو من السيطرة على المخابرات والعسكر الى هذا الحد حتى صارت من الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها بل ان حقولها ملغومة من دخلها لكي يخدم مصالحها سيكون مصيره كمصير بوضياف وغيره؟ ما مصلحة النظام الجزائري في قضية الصحراء التي توصله الى اغراق البلاد في الدم من أجل الابقاء على جبهة البوليساريو كقوة عسكرية مناوئة للمخزن المغربي؟ يفسر المراقبون ذلك بأنه لضمان بقاء الحكام الحاليين على كراسيهم وايجاد مبررات قوية لذلك.

https://annaharkw.com/Article.aspx?id=286286&date=06012012 | https://www.annaharkw.com/annahar/Article.aspx?id=286571&date=11082011