سياسة

نصيحة الأشبال بالتفريق بين الهدى والضلال 11 جانفي 1997 | أيوب أحمد عبد الله

من إصدارات حركة الباقون على العهد
الجزائر

للشيخ المجاهد أيوب أحمد عبد الله

(أمير سرية)
-الجزائر-
بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد الله القائل:{وكذلك جعلناكم أمّة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول عليكم شهيدا}،و{كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر}،وقال{قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غير الحق ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلّوا سواء السّبيل}.
فإني لما رأيت بعض المبتدعة قد تفشى هورهم وتعدى إلى الأمة ضررهم وأرادوا ظلما توسيع سلطانهم وابتغوا ذلك بفرض عنوانهم وسموا أنفسهم أمراء الأمة وكانوا بهذا عليها كربة وغمة.انتدبت بالرد عليهم وعلى جرائم يكفي فيها الإيماء وببراهين تدرك بحسن الإصغاء،في رسالة سميتها< <نصيحة الأشبال بالتفريق بين الهدى والضلال>> ولا أدعي أني وصلت إلى الكمال بل هي حريّةٌ بالإخلال والإقلال،ومع ذلك أتمنى أن ترفع الأشكال وتمحو غياهب الضلال بإذنه عز وجل.
وقد وجب علي شرعا أن أبين للمسلمين في بقاع الأرض وأقاليمها حقيقة هذه الفئة وحكم الشارع فيها وإن كنت لست ممن احتكوا واقتربوا بقياداتهم العليا ولكنني على مقربة منهم ومن تفاصيل تصرفاتهم التي لا تخفى على العالم بأسره فضلا عمن رأها بأم عينه وناله من طيشها.ولم أكن عند الشرذمة المنحرفة بالمحل المرضي.فأهل العلم لا وزن لهم في منطقهم ولا شأن لهم في معتقدهم قصدا كان هذا او جهلا.وأما أهل الرأي الراجح فهؤلاء أصحاب الهوى والعمالة والتثبيط في نظرهم وغير ذلك من العناوين المتنوعة والألقاب المتقلبة ونحن اليوم على يقين من أن شرذمة الزوابري يريدون أن يذهبوا بالجهاد إلى قبره ويلبسونه لبسة المنتحر ويزرعوا في خلاياه بذور الفناء ليهلك نفسه بنفسه حتى يوارى في رمسه.
ولإن كانت فرق المبتدعة ومذاهب الأهواء قد انقطعت منذ زمن بعيد عند كثير من المسلمين لكن في الواقع الأمر لا زال لها امتداد و ورثة يدعون بدعوتهم وينفخون ببوقهم ولقد حدثت الظروف والدواعي التي صنعت أمس في أيام بني أمية شراذم الخوارج ومذاهب التكفير والقواعد التي يضعها الجهلة الحمقى ويأتي من بعد يتكلف لها ألف دليل.
كما لا ننسى أن في عصرنا من السلاطين الجبابرة مثلما كان في أيام بني أمية،فإن كان من قبل يضعون لهم الأحاديث لتمكين سلطانهم فهم اليوم يجهزون لهم الفتاوى لإعطاء الشرعية المثلى للتسلط على رقاب المسلمين وإضعاف قوائم الدين،فقد بُليت هذه الأمة عشرات المرات بهذه البلية فهل يعتبر المعتبرون ويتعظ المتعظون؟.
إن في من كان قبلنا موعظة وتذكرة لكن لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد…وانطبقت صفات هؤلاء الشرذمة على أسس المبتدعة الضالين من الوجهة الشرعية والأسباب الواقعية وأحيانا حوادث الأعيان تكاد تتكرر بصورة مماثلة. 1…………
وأول بدعة ارتكبوها أنهم أمّروا أنفسهم على الأمة من غير مشورة منها وأنهم غير مشورة منها وأنهم غير معروفي العدالة وأحسنوا تزوير المعلومات والأحداث على المجاهدين وتعمدوا كتم ما يخالف مرامهم وتمادوا في تلفيق التهم الموافقة لأغراضهم،وإنما اجتمع أفراد جهلة أحداث الأسنان لا يعرفون المسلمين ولا يعرفهم المسلمون وأمروا أنفسهم على الجهاد وسبقوا الناس بعملية استهدفت آجالهم،وأرادوا أن يكتبوا أنفسهم السباقين للقتال فتكون لهم بذلك الشرعية التي لا معقب عليها في الإمارة العامة كما علمتهم أزمة أفغانستان،فإن أهلها تنازعوا أمرهم بينهم فكثر القتال بأن الذي أطلق الرصاصة الأولى هو الذي له شرعية إدارة الحكم في كابل،وهذا الكلام إذا سقط على الجهاد ببلدنا…فإنه منتقد من عدة وجوه:
*إنها لا تجوز إمارة أحد إلا بمشورة لقوله عليه الصلاة والسلام< <فمن بايع أميرا من غير مشورة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه>>رواه أحمد-وفي معناه وارد في البخاري-وقال الإمام علي< <إن بيعتي لا تكون خفيا ولا تكون إلا عن رضى المسلمين>> وهذا هو المشهور عن الصحابة رضوان الله عليهم قولا وفعلا.
*بناء على أن الذي ينصب الأمير هو الأمة فإنها لا تنصب إلا من فيه أهلية لذلك وتوفر شروطها منها العلم الشرعي،و رجاحة الرأي في سياسة الدولة والمعرفة بشؤون الحرب،فانظر الأحكام السلطانية إن شئت للموردي.
*في حالة ما إذا أمر المسلمون أميرا للقتال وشرع في إعداد العدة فإمارته قائمة لا تجوز مبايعة آخر بعده ولا يجوز الافتيات على الإمارة الأولى بعمل ينافي المصلحة الشرعية.
*لكن شرذمة المبتدعة وجدوا الناس على أهبة القتال تحت إمارة فقاموا وابتدأوا القتال وادعوا أنهم أول من بدأ الجهاد وأنه لا عبرة بالإمارة التي لم تبتدئ القتال،وهذا لعمري لم يقل به أحد من أهل العلم في تاريخ الإسلام،ووصفنا لهم بالبدعة هو وصف لفعالهم وإن كان فيهم البريء والمغرر به،وأما الفتوى من منطلقات الهجرة والتكفير فهي شائعة لا تحتاج إلى إقامة دليل يخبرك من دخل في صفوفهم،وحتى من داخل السجون والمعتقلات يرى منابر الغلو في الدين ومحاكم التكفير والتبديع على غرار ما كان في الشام والعراق في زمن أهل الفرق والأهواء.أخبرنا ممن نثق بهم ممن خرج من السجون وهو مشهور ومتواتر،وإن سلمنا جدلا أنهم سارعوا في خير في صالح الأمة-نقصد الابتداء بالقتال وإن كانوا مخطئين بالافتيات على أولي الأمر قبلهم-لكنهم طعنوا في إخوانهم وكفروا فيما بعد كل من لم يغزل بغزلهم أو يدُر في فلكهم،ولم نكن نتوقع أنها تصدر منهم تجاوزات بهذا الحجم بل كنا نظن أن الاتجاه التكفيري مبني على الجهل وقلة الوعي وأنه سوف ينهار على مر الأيام ولكن لأسباب سأذكرها وقع العكس المرير الذي نجني ثماره اليوم فوقعوا بما فعلوا في أوزار عدة:
*الوزر الأول:الافتيات على إمارة القتال وهو مخلوفي وشبوطي.
*الوزر الثاني:أنهم بتهورهم وقلة كفاءتهم وقعوا في الهزيمة التي أودت بحياة المنفذين للعملية و وقع بعضهم في شرك استخبارات النظام المرتد،فصار النظام ينصب بمعلومتهم التي قدموها له كمائن للأعضاء الأوائل في الجهاد،وتعثرت عجلة العمل المسلح المنظم وإنما صارت عمليات ارتجالية من بعض الشباب ردحاً من الزمن.
*الوزر الثالث:إيهام الأمة بأن القيادات الأولى للدعوة الإسلامية لا تريد جهادا ولا حربا،ولا نريد بهذا أن نقدس الناس عن الأخطاء ونحوم بهم حول العصمة،ولكن نريد كما قال تعالى:**ولا يجرمنّكم شنآن قوم على ألاّ تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتّقوى}،فترتب على هذا اعتقاد بعض المسلمين أن هذا من عمل الاستخبارات،وذلك أنه عمل بني على غير روية وتفكير وظهرت عليه علامة السذاجة وكانت الأمة تعتقد في أبنائها أنهم سيحاربون الطاغوت حربا لا مثيل لها،وإلى زمن غير بعيد لا زال يعتقد كثير من الناس أن أمراء الجهاد بمكانة مذهلة من التخطيط والحكنة وثبات القدم والوعي الكامل حتى كثرت التصرفات الغير اللائقة فشك الناس في هذا الاعتقاد المثالي،ولكن للتبشير لازالت بقية من هذا النمط المحمود،و الزمن كفيل بإثبات ذلك أو نفيه.
*الوزر الرابع:سنّوا بما فعلوا سنة الارتجالية في الأعمال وعدم استعمال الرأي في الحرب،قال الشاعر:
الرأي قبل شجاعة الشجعان الرأي أولى وهي المحل الثاني
فحصل بذلك عدم تطور المعركة مع العدو تطوراً له وزن ولو اتخذت التدابير اللازمة لكان النظام المرتد في آخر أنفاسه بعد هذه السنوات من البلاء والاستشهاد،ثم هذه التقديرات لا تقنع إلا من تحصل على شرطين: -حسن التقييم
-المعاينة للواقع
والشيء الذي لا ينكر أن في شبابنا من الشجاعة التي تبهر الأحلام ومن الإقدام ما يضيق بذكره المقام،ولقد رأيت من الشبان والله أعلم بما في قلبه وكأن الله لم يخلق في قلبه ذرة من الجبن قط.
2………..
وبعد كل ما وقع حدثت وحدة المجاهدين وكأن قائلهم يقول عفا الله عما سلف،ورغم أن أطرافا من المجاهدين اختلفوا في حقيقتها وملابساتها فبعضهم قال أن المجاهدين لم يكونوا كلهم راضين على هذه الوحدة،إذ لم يُستأذن بعضهم أو لم يوافق،والله أعلم.
ولكن كان مضمون الوحدة مبشرا إذ كانت فيه وحدة الصف ورضى كثير من القيادات الفعالة وفيها رجال الدعوة مع صفاء المنهج وصحة الأسس ولقد شبهته-وليس قولي قاضيا على قول غيري-بعام الجماعة الذي وقع لمعاوية والحسن بن علي رضي الله عنهم أجمعين.ولم يكن الحسن يرى أن معاوية أولى منهم ولكن قال أردت أن أدفع عنكم القتل وقال فيه صلى الله عليه وسلم إن ابني هذا سيدٌ ولعلّ الله أن يصلح به بين فئتين مؤمنتين عظيمتين.
واعلم أن القتل والفساد أكبر جرم يفعله الإنسان،قال تعالى في شأن حاكياً قول الملائكة:**أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدّماء} وقال تعالى:**حتى إذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحبّ الفساد}،فكانت قيادة أبي عبد الله أحمد برداً وسلاما على المجاهدين وتلقوها بالقبول حتى ممن لم يشهد اجتماع الوحدة وإن لم يدخل بعضهم،لكن لم تكن لهم عداوة وشحناء مثلما هي عليه اليوم،وكان أبو عبد الله مع حداثة سنه عاقلا متواضعاً،فكان هذا الخُلق سببا في هدوء علاقاته مع غيره،لكن سمعت بأذني من بعض المجاهدين من يقول:هذه الوحدة الغثائية،وسمعت آخر يقول:كيف قبلت الجماعة بهذه الوحدة؟ وقد صار هؤلاء من الأمراء المرموقين وكنت على يقين بأن هؤلاء الشذاذ هم الذين يزرعون الفتنة بين صفوفنا بجهل منهم أو قصد لأن الجاهل الأحمق آلة سهلة الاستعمال والتوظيف لكيد العدو ومكره إن كان على إخلاص عظيم. ……… 3………..
ثم بعد هذا بزمن غير طويل فشَت في المجاهدين فتنة حكم الشيخين…..وأنا لا أريد أن أعلق على تاريخ الجبهة وشيوخها لكن يهمنا الموقف الشرعي والتقييم الواقعي المنصف،ولقد نصحنا بعضاً منهم-واخل أن كثيرا من اهل العلم من يقول ذلك-فقلنا لهم أنكم كنتم مختلفين متعددي الرايات في الجهاد،ولقد منّ الله عليكم بوحدة الراية ونتمنى من الله أن يوحد البقية وأمركم شورى بينكم ولكم أمير فأتمروا بأمره وليس الشيخان وهم أسيران عند الطاغوت-أطلق الله سراحهما-بأميرين لكم فلا حاجة إلى الطعن فيهما،فهما تحت قهر الحاكم الطاغي وعصاه فكلّما يذكران مما يخالف الحق فهما معذوران ولا نعرف عليهما إلا الخير،والمرء يؤخذ من قوله ويرد وعلى طريق استصحاب الأمر على ما كان عليه حتى ناقض يخالفه عند الأصوليين،والأصل في الشخص براءة الذمة في قواعد الفقه:فإننا نحكم عليهما بما كانا عليه قبل الأسر بقليل.وأما ما صدر منهما وهما أسيران مهددان فليس بناقض للأصل لوجود مانع وهو الأسر والتهديد بالضرر المعتبر،هذا على فرض أنه صدر منهما شيء يخالف الحق،وحكم المهدد في الإسلام معلوم شائع،لقوله تعالى:**إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} وتجوز التورية على وجه الرخصة وليس العزيمة لقول إبراهيم في القرآن:{بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون} حين كسر أصنام قومه وهي إحدى التوريات الثلاث التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم< <وما هنّ بكاذبات>> وهو ثابت في الصحيح،وشرعُ من قبلنا شرعٌ لنا ما لم يرد ناسخ على الصحيح ولا سيما إن شمله عموميات الإسلام،فلقد روى الإمام الشافعي في أيام بني العباس في فتنة خلق القرآن فقيل له هل القرآن مخلوق؟فقال لسائله:آياي تعني،فقال له سائله نعم،وهذا أمام السلطان،فقال(ض):مخلوق،وقصد انه أجاب عن شخصه أمخلوق أم لا؟بقوله أياي تعني.فتأمل….وقد عمل بالرخصة رحمه الله وهرب على إثرها،وقد امتحن جمع من العلماء بهذه المسألة وعمل الإمام أحمد بالعزيمة إذ صبر على السياط والسجن رحمه الله ورضي عنه.
وأثيرت مع الجبهة مسألة الديمقراطية التي مارست الجبهة عن طريقها الوصول إلى الحكم،وانها مسألة تكفيرية تخرج صاحبها من الإسلام،وهي لعمري كلمة حق أريد بها باطل،وهل في المجاهدين من يريد أن يعطي للشعب أن يحكم نفسه بما شاء من النظم الكفرية أم هو التلاعب بالألفاظ واللعب بعواطف الناس،فلقد كان الشيخان يعتقدان كما يعتقد سائر العلماء أن الحكم إلا لله وأن القرآن والسنة هما اللذان يحكمان الناس ولكن اجتهدا سواء أخطآ أم أصابا.
4……….. ……
ما أشبه الليلة بالبارحة،قد قال الخوارج لعلي(ض) عندما حكم الرجلين:لا حكم إلا لله،وكانوا يتلون تعالى:**فاحكم بين الناس بالحقّ ولا تتبع الهوى فيضلّك عن سبيل الله}وقوله{ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وكان يقلب كفيه ويقول:حكم الله أنتظره فيكم،وقال لهم:إن لكم علينا ألاّ ننمعكم حتى تقاتلونا،وقال بعض الخوارج:أشهد على أهل دعوتنا من أهل قبلتنا قد اتبعوا الهوى ونبذوا حكم الكتاب وجاروا في القول والأعمال،وجهادهم حق على المؤمنين…قال ابن كثير في البداية والنهاية:وهذا الضرب من الناس من أغرب أشكال بني آدم وسبحان من نوع خلقه كما أراد وسبق في قدره العظيم،وما أحسن ماقاله بعض السلف في الخوارج أنهم هم المذكورون في قوله تعال:**هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا الّذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}.وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن المسلمين اتفقوا على أن الخوارج ليسوا مختصين بذلك العسكر،وذكر بأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أنهم لا يزالون يخرُجون إلى زمن الدجال،وذكر في موضع آخر في سائر الخارجين فإنهم يستحلون أهل القبلة لاعتقادهم أنهم مرتدون أكثر مما يستحلون دماء الكفار الذين ليسوا مرتدين لأن المرتد شر من غيره.انظر مجموع الفتاوى.
قلتُ وهي الحكمة في التشديد على أهل البدع من هذا الصنف وهم الذين يبنون أحكاما على تكفير سائر الناس سواهم أو يرون مجاهدة من لم يعتقد اعتقادهم أو لم يدخل في صفهم،وقد جعلوا الاجتهاد معاصي والذنوب كفرا ولهذا لم يخرجوا في زمن أبي بكر وعمر لانتفاء تلك التأويلات وضعفهم،وذكر ابن تيمية معنى هذا الكلام فيه في نفس المرجع.
ثم أثار أبو مصعب السوري توبة الشيخين وأنه يجب أن يُعلنا التوبة وأنهما فاسقان أو مرتدان إن صح النقل عنهما.وكنت أعلم أنه لن تقف نتائج ذلك عند الشيوخ وأنها سوف تعم كل من انخرط في الجبهة، وجل المجاهدين من هذا الصنف وإن ام أكن أنا منهم،لأن القضية ليست شخصية كما كنت أعرف أن التهم ستوجه إلى الطبقات المثقفة وأهل العلم والخبرة وهي الكارثة الكبرى،وتردد وجوب إعلان التوبة في أفواه الناس كثيرا فتذكرت عندما ماقاله الخوارج قبل ثلاثة عشر قرنا حينما كتب علي(ض) إليهم أن الذي حكم به الحكمان مردود عليهما وأنه قد عزم على الذهاب إلى الشام فهلمُّوا حتى نجتمع على قتالهم.
فكتبوا إليه:أمّا بعدُ فإنك لم تغضَب لربك وإنما غضبت لنفسك وإن شهدت على نفسك بالكفر واستقبلت التوبة نظرنا فيما بيننا وبينك وإلا فقد نبذناك على سواء،إن الله لا يحب الخائنين.فلما قرأ كتابهم يئس منهم.وقال متحدث باسمهم أن الجبهة تريد أن تجاهد من أجل الحق الذي أُخذ منها وليس من أجل سبيل الله.
5…… …..
ثم وقع بعد هذا تصفية عشرات من صفوف المجاهدين المتهمين بالجبهوية أو الجزأرة،ومن المؤسف جدا أنهم قتلوا بعض ممن أظهر شيئا من الانصاف أو التحفظ عن الإفتاء في هؤلاء،ولا أعرف مقاييس القتل بالضبط إلاّ أنه من المتبادر أنه يقتل من له تأثير في الجنود بخلاف غيره فقد يغض عنه بعض الشيء والله أعلم،ومن قبل الأحداث قتل التاج من الأغواط وهو إمام مسجد قبل التحاقه بالقتال بهذه التهمة خوفاً من أن يؤثر في صفوف المجاهدين بتحفظه الذي أبداه تجاه المخالفين لقيادة الجماعة.
وكان الخوارج يقتلون الذراري والنساء ويوم أرادوا قتل امرأة فنهاهم رجل منهم فقالوا له فُتنت بها فقتلوه وقتلوها وقطعوا ثدييها ومثلوا بها(انظر تاريخ ابن الأثير).و وقعت رصاصات المبتدعة المعاصرين على الشيخ عبد الباقي صحراوي والشيخ أحمد سحنون الذي وصفوه في مجلتهم بالمبتدع الضال،وقتلوا كثيرا من الأئمة ورجال العلم،وتظن الأمة وبعض المجاهدين أن الذي يقوم بهذه الأفعال الشنيعة الاستخبارات الطاغوتية ولم يدرِ المساكين أن أيدي الابتداع والضلال هي التي امتدت إلى قتل أفاضيلها، ولإن كان الكلام يعد في هذا الوقت حرباً فقد قصدت به تلك الحرب لأنهم أعلنوها حربا على العلماء والضعفاء ونحن لا نكفرهم ولا نشك في إخلاص بعضهم ولكنه الضلال والجهل و عمى البصيرة،سئل الإمام علي(ض) عن الخوارج أمشركون هم؟ فقال:من الكفر فرّوا،فقيل:أمنافقون؟فقال:إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا،فقيل:ما هم يا أمير المؤمنين؟قال:إخواننا بغوا عليناىفقاتلناهم لبغيهم علينا.ولقد عاثوا في الأرض فسادا فسفكوا الدماء وقطعوا السبيل واستحلوا المحارم وكان من جملة من قتلوه عبد الله بن خباب صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم لما جاءوه قال لهم:إنكم روعتموني فقالوا لا بأس عليك حدثنا بما سمعت من أبيك،قال:سمعت أبي يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول< <ستكون فتنة،القاعد فيها خير من الماشي والماشي خير من الساعي>>،فاقتادوا بيده وقدموه فذبحوه وجاءوا إلى امرأته فقالت:إني حبلى ألا تتقون الله؟فذبحوها وبقروا بطنها عن ولدها وكان أحدهم لا بأكل ثمرة لُقَطة ولا يتعدى على ذمّي وقد فعلوا ما فعلوا(انظر البداية والنهاية لابن كثير).فتأمل….
فهم يبلعون الزبر ويخافون الأبر،ومنه تعلم أن سُنة الذبح والمثلة هي مستقاة من مناقب الخوارج في القرن الأول،وشرذمة المبتدعة في هذا العصر تفعل ببلدنا كما فعل أسلافهم قديما،فهم يروّعون المسلمين الذين يقدمون لهم يد العون فما بالك بالذين يقفون موقف الحياد فيأخذون عنهم أموالهم قسرا بغير ضرورة،ويطرقونهم ليلا فيسببون فزعا وخوفا ،وقد ذهب جماعة ليأخذوا سلاحا سمعوا به عند بعض الأسر فأنكروا أن يكون لهم السلاح يملكونه ولعلهم أنكروا خوفا من النظام أن يسمع بهم أو يقبض على بعض المجاهدين فيقر بأخذ السلاح عنهم أو شكوا بأن يكون هؤلاء من أعوان النظام في صورة المجاهدين،وهذه الاحتمالات التي ذكرتها كثيرة الوقوع،قلت فوضعوا السكين على رقاب بعض الآباء وأبناؤهم ينظرون حتى يعترفوا بما عندهم من قطع السلاح فيعطوها لهم ولم يلتمسوا لهم عذرا مع أن عموم تلك القرى كانت تقدم لهم الإعانة المادية ويعملون عيونا لهم ضد العدو،ثم ترويع المسلم لا يجوز بسلاح ولا بغيره،قال صلى الله عليه وسلم:< <من أشار على أخيه بحديدة لعنته الملائكة>>.
وأقسم أن الأمة الإسلامية الجزائرية قد قدمت للجهاد سرا وجهارا بالوسائل المتعددة والمتنوعة وكل بحسب طاقته ولكن شرذمة المبتدعة الأغبياء لا يفهمون ولا يعُون ولا يتوضعون فيتعلمون ويهتدون.وأظهرت الأمة الإسلامية الجزائرية المسلمة أنها مؤمنة بشرع الله بالقول والفعل فلماذا يُتهم هذا الشعب بالخيانة؟ولكن خيانة المبتدعة وظلمهم وتعسفهم هو الذي جعل في هذه الأيام الأخيرة أن يقف الناس ضدهم،فبعض الناس سمعتُه يقول:أنا مستعد للعيش تحت نظام مرتد آمن أعبد الله فيه أحسن لي من هؤلاء الذين يدّعون أنهم أهل شرع ويقتلون أبناءنا الأبرياء ويعتدون على أموالنا ويظهرون فينا المذلة التي لن نرضى بها قط.هذه ترجمة لكلامه الذي كان بالدراجة،فإن دل هذا الكلام على شيء فإنما يدل على سوء سياسة هؤلاء وغبائهم وجهلهم بالدين جملة وتفصيلا،فإلى متى نسمح لسفهاء يتأمرون على أمة تزخر بالعلماء و العقلاء؟بل متى كان القتل العشوائي وأخلاق المافيا هي المعيار الوحيد لإمارة الأمة وشرعية القيادة،وإنما الجهاد شعيرة و وسيلة نحقق بها إقامة الدين ونشر العلم والرحمة والأمن للمؤمنين ولسائر الناس لمن أراد أن يدخل تحت راية الإسلام وعدله.
ولقد كانت هذه التصرفات قليلة،لكن لم تكن بإذن القيادة فلما صارت القيادة بأيدي المبتدعة تفشت وأصبحت مفخرة وعلامة على الشجاعة وأي شجاعة أمام الصبيان والعزل الذين لا حول لهم ولا قوة.
6……… …..
*واعلم أن دار الردة لها حكم يختلف عن دار الإسلام ودار الحرب وهي قسم ثالث،وهذا الذي ذهب إليه الماوردي في الأحكام السلطانية ورجحه شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى،فلا ينبغي اعتبار دار الردة في أحكامها كدار الحرب وقال شيخ الإسلام:يُعامل فيها المسلم بما يستحق ويعامل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه،وصورة دار الردة اليوم لا تشابه دار الردة في عصر أبي بكر(ض) من وجهين:
*الأول:ان أهل الردة في أيام أبي بكر ارتدوا على بكرة أبيهم وهم قسمان،ممتنعون عن فعل فرض ومعتقدون بعدمه.
أما الآن فأنما هو تسلط ظلمة طغاة بقوة السلاح مع نفوذ الأنظمة الكفرية على الأمة الإسلامية،فهذا فرق.
*الثاني:أنه كان في عهد أبي بكر(ض) أرض قائم فيها الإسلام وفيها منعة وعزة فبها تنقطع حجة من بقي مستضعفا بين أظهر المرتدين،أما نحن اليوم فأين تذهب ملايين النساء والأطفال والشيوخ بل حتى الرجال الأقوياء وإذا سلمنا جدلا ان هؤلاء الرجال يتحملون ويخرجون بغير سلاح فماذا يفعل نساؤهم وأطفالهم وهم الأغلبية لسكان الجزائر؟ولا يُغهم منا أنه لا يجوز النفير بهذا السبب،ولكن نقصد أن لهم عذرا فيجب اعتباره،وإذا جاز لثلة من المؤمنين أن يضيعوا أبناءهم فلا يجوز أن تُخاطب الأمة بالإهمال الكلي لأهاليهم ويحكم عليهم بالتولّي يوم الزحف إن هم لم ينفروا.فإذا جاز للمسلم الفرد أن يدخل مواقع الخطورة ويلقي بنفسه بين صفوف العدو طلبا للشهادة فلا يجوز لكل جيوش المسلمين أن يفعلوا هذا ولا يصح أن يُتهموا بالقعود والجبن إن هم لم يفعلوا،وإن قلنا بوجوب النفير العام فينبغي مراعاة المصلحة في ذلك هل تتحقق أم لا؟
وينبغي تحقيق وتقييم هذه الأعذار لكل شخص مسلم بحسبه وأحواله ،قوة وضعفا ومطالبة بالبينة إذا كان الأمر يتطلب ذلك،وهذا بإفحامه بالحجة وليس لإقامة عقوبة عليه،وما قلنا مبني على تعين المصلحة الشرعية في النفير العام،فإن لم يكن ذلك فالناس في سعة من أمرهم،واحذر أن تفهم أو تظن أن الخوف على الأهالي هو ما قاله المنافقون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:{إن بيوتنا لعورة}(الأحزاب).
فقد رد الله عليهم بقوله:**وما هي بعورة}.إذا لو كانت عورة لكانت حجة شرعية لهم وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب حرّاسا يحرسون من ورائهم إذاً فهم كاذبون،وقال المنافقون شغلتنا أموالنا وأهلونا فكذبهم الله بقوله:{يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم} فهم لا يريدون قتالا ولا نضالا،فهم كفار في باطن أنفسهم فكشف ذلك رب العزة في تنزيله،فلا يجوز القياس بل يجب وصف الناس اليوم على ماهم عليه ومعرفة أعذارهم الظاهرة التي يعرفها البر والفاجر،وإن واجبنا هو توعيتهم بالجهاد وتلقين الشباب الذين لم يشرعوا فيه كيفية الابتداء واتخاذ الوسائل للتنظيم والتخطيط ونشر إقناع المسلمين بأن الوسيلة الشرعية في إقامة الدين هي الجهاد،إن من الناس من لا يعرف كيف يجاهد ولا من يقتل ولا كيف يقاتل ولا يعرف كيف يهرب من العدو ولا كيف يكيد له بل تجد منهم الأبله والضعيف والجبان وليس الجبن جريمة يعاقب عليها المرء المسلم وقد كان حسان بن ثابت(ض) الصحابي الجليل جبانا،وهو شاعر الإسلام كما تعلم،تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم حارسا على المدينة فجاء يهودي يريد الأهالي فقيل له اذهب فاقتله فهاب قتله ولم يستطع فقامت امرأة فقتلته.والجبن في الحرب إذا كان سجية ليس طعنا لا في الصحابي ولا في غيره.
وفي زمن النبي صلى الله عليه وسلم الذي كانت فيه أرض فيها عزة ومنعة عذر الله المستضعفين فقال:{قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأمواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرّجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا}. وقال تعالى:**وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرّجال والنّساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظّالم أهلها واجعل من لدنك وليّاً واجعل لنا من لدنك نصيرا} فقرن المولى عز وجل سبيل الله بالذب عن الضعفاء المظلومين وقال تعالى:{أذن للّذين يقاتلون بأنهم ظُلموا} وقال تعالى في وصف المؤمنين المقاتلين:{الّذين أُخرجوا من ديارهم بغير حقّ إلا أن يقولوا ربّنا الله}،فقد جعل المولى عز وجل الإخراج من الحقوق سببا أو حكمة في الجهاد في سبيل الله إذا كان سبب الإخراج الدين،قال تعالى:{وما لنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا}.
فكل حق منعه العدو من المؤمن بسبب إيمانه فالقتال من أجله جهاد في سبيل الله دون الأول فيسمى هذا الهاتك بالصائل وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:< <من قُتل دون ماله شهيد،ومن قّتل دون دينه فهو شهيد،ومن قّتل دون دمه فهو شهيد،ومن قّتل دون أهله فهو شهيد>> رواه الترمذي عن شعبة بن زيد.
وأما قتال الذين يغتصبون السلطة من أهلها فهو من باب قتال أهل البغي كما قاتل علي(ض) الخوارج ونص العلماء على قتال الخارجين عن الإمام فانظره في موضعه.

……7………
هذا إذا كان المغتصب مسلما،أما إن كان مرتدا أو كافرا فهذا جهاده لا مراء ولا إشكال،واعلم أن المرتد كما ذكرت سابقا إما منكر لواجب قد عُلم من الدين بالضرورة أو ممتنع عن فعل شعيرة،فالأول ارتد اعتقادا والثاني فعلا إن كانوا قد امتنعوا عن المسلمين بحد السلاح وكانت لهم شوكة وكلاهما قسم،والقسم الثاني من ارتدوا باعتقاد في دار الإسلام ولم تكن له شوكة،فهذا يستتاب ثلاثاً ثم يقتل بعد إفحامه بالحجة وإزالة شبهته،والاستتابة على وجه الواجب هو الذي أمر به عمر بن الخطاب وقال به جماهير السلف منهم مالك والشافعي.والشخص الذي يأبى الشعائر وهو مؤمن بها فقد اختُلف في الصلاة والصيام هل يُحدّ أم لا؟ فقال مالك يُقتل حدّاً وقال أبو حنيفة يعزَّر وقال بعض أهل الحديث يُقتل كُفرا،وقالوا تؤخذ منه الزكاة قهراً،واختلفوا في الحج،والصحيح أنه لا يُعرض لهم بشيء لاختلاف العلماء هل هو واجب على الفور أو التراخي،ولا أذكر هنا مناقشة الأدلة لضيق المقام فإن أطال الله بقائي فسأخصص لهذه المسائل الهامة فصولاً على حدة.ولا حدّ على تارك صلاة الجماعة والأعياد عند العلماء قاطبةً ولهم في التعزيرات اجتهادات،وقال صلى الله عليه وسلم:< <والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بحطبِ فيُحطب ثم آمر بالصلاة فيؤذّن لها ثم آمر رجلا فيؤم الناس ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم>> وفي رواية بلفظ< <إلى قوم لا يشهدون الصلاة>> رواه البخاري عن أبي هريرة،قال ابن حجر:لا يلزم من التهديد بالتحريق حصول القتل لا دائما ولا غالبا، وقال الباجي:إن الخير ورد مورد الزجر وحقيقته غير مرادة وإنما المراد المبالغة ويرشد إلى ذلك وعيدهم بالعقوبة التي بها الكفار وقد انعقد الإجماع على منع عقوبة المسلمين بذلك،وقال القاضي عياض ومن تبعه:ليس في الحديث حجة لأنه عليه الصلاة والسلام همّ ولم يفعل.قُلت وفيه إشارة إلى جواز تعزير من كثر التخلف ولكن لا نعرف أحدا من أهل العلم أنه قال يُقتل من تخلف عن الجماعة والجُمَع،إلا شرذمة الزوابري التي أصدرت بيانا بقتلهم،فإنا لله وإنا إليه راجعون.
واعلم كذلك أن الخارجين عن الإمام قد يكون خروجهم بتأويل لهم فيه شبهة فيجوز قتالهم إذا تحتّم الأمر والأولى عدمه،والمصالحة والمفاوضة أولى وأوجب،(وامسك سلاحك ما ناب عنك لسانك) كما تقول الحكمة قديما،وقد فاوض عمر بن عبد العزيز الخوارج ورجع منهم ثلثاهم(انظر البداية والنهاية).هذا في الخوارج فما بالك بالمسلمين أهل السنة إذا أخطأوا وخرجوا…
…..8……..
وقد يكون الخروج بتأويل باطل كتأويل الخوارج لابد من دعوتهم وإفحامهم بالحجة ومناظرتهم كما ذكرت آنفا،وآخر الدواء الكي،وإنما أوجه الخلاف لعلها تكون بينهم في الأحكام الشرعية التي تتخلل القتال إذ أن أهل البغي لا يُجهز على جريحهم ولا يُتبع مُدبِرهم ولا يُقتل أسيرهم،بالتفاق كما فعل علي(ض) في قتال صفّين.واختلفوا في الخوارج هل يُقتل أسيرهم ويجهز على جريحهم ويتبع مدبرهم؟فذهب بعض العلماء بأنه يتبع مدبرهم إذا كانت له منعة وشوكة وإلا تُرك،أما جريحهم فقيل يُقتل إذا كان رأسا من رؤوسهم وهكذا قالوا في الأسير،وقيل يُفعل بهم كما فُعل بأهل البغي وهو الأصل الصحيح،إلاما استثني ببيّنة شرعية أخرى.وقيل أن الأسير يُحبس قدر ما تنقضي المعركة.واعلم أن جمهور العلماء أجروا أحكام الخوارج على أحكام أهل البغي عامة.
ولا يقوى الاستثناء إلا في المدبر إذا كانت له شوكة ومنعة فإنه يترجح اتباعه،وأما الأسير فلا يصحّ قتلُه بحجة أنه يعود إلى معسكره فإن هذا مناقض بإمكان أسره أو بتعهده بعدم القتال كما فعل علي(ض) بخارجي تعهد بعدم القتال فلما رجع إلى أصحابه قالوا له في قتاله فقال هيهات قد غلّ يدا مطلقا.وأما من أظهر التوبة والرجوع فلا يجوز قتله بحال،فقد أمر علي(ض) أبا أيوب الأنصاري أن يرفع راية ويقول من جاء إلى هذه الراية فهو آمن،ومن رجع إلى أهله فهو آمننمهي لعمري سياسة راجحة في تفتيت كتلة الخصم،أما الجريح فلا يجوز الإجهاز عليه وتجب مداواته حتى شيفى لعل الله يُحدث بعد ذلك أمرا.
……9……
لكن شرذمة المبتدعة يفعلون قريبا من هذه الأفاعيل فقد جاءتهم يوما من الأيام جماعة من الجيش الإسلامي في مهمة صلح أو توحيد عمل،ونقلوا لنا بأنفسهم أن بعض جنود الجيش الذين كانوا يلبسون البنطلون أساءوا الأدب مع البنجاب الأفغاني بتصريح شخص منهم فأطلقوا أي أنصار البنجاب الرصاص على جنود الجيش،فأبادوهم عن آخرهم،فهذا التصرف والتعدي هو الذي أكثر التصدع والانشقاق في المجاهدين إذ ذهبت الثقة وصار كل فرد أو جماعة وجهت لها التهمة ولو صغيرة تتيقن أنها تقتل بسببها،وافتقد العفو وزالت الرحمة ولم يعُد للعذر مصداقية تُقبل.فكيف يبقى المجاهدون على قلب رجل واحد وعلى أمير واحد وهو متى أشار بأصبعه قُتل متهماً بحجةٍ أوهنَ من خيوط العنكبوت،وقد يكون ذلك بتهمة في الأموال والعنصرية كتهمة عثمان(ض) أو تهمة في الكفر والخروج عن الكتاب كتهمة علي(ض) وبأسماء وألقاب تُخلع على أهل العلم مع ربط أخطائهم في الأموال بأخطاء في الأفعال ويلف كل ذلك في مصدر العليم والتلقي وإبرازه في مذهب من المذاهب الضالة التي أغفلها الشهرستاني والبغدادي،ولو حضرهم أبو حنيفة(ض) لقُتل بتهمة الإرجاء وتركه لبعض أحاديث الأحاد وقد بلغته،ولو حضرهم مالك(ض) لذبح لتركه حديث رواه باجتهاده رآه،والشافعي والليث والإمام أحمد وسفيان بن عيينة والبخاري وغيرهم لم ينبسوا ببنت شفة في هذين الإمامين،حكي أن أسد بن الفرات وهو أحد رواة المدوّنة وكان قائدا بحريا للجيش في بعض الجهات فوجد في بلدة رجلا يقول قال مالك وأخطأ،قال مالك وأصاب،وقال أبو حنيفة وأخطأ،وقال أبو حنيفة وأصاب،فقال أسد:مثلك كمثل رجل جاء بين بحرين وبال فقال هذا بحر ثالث،فضحك الناس وتفرقوا عنه.واعلم أن علماء التجريح والتعديل منهم الذهبي ذكروا أن أعلام الأئمة لا يجوز تجريحهم بحال،فعدالتهم ثابتة بالتواتر لأنهم كانوا يعلمون أن الإشارة بالأصابع من السادة يحاكيها الرعاع والسفلة بالسهام والحراب.إن قتل الشخصيات الدعوية والعلمية على ما فيها من نقائص في آرائهم أو أخطاء في نظرياتهم كان سببا لفتح باب يعود بالويلات والمصائب يصعب سده ويتمانع شده.
……10……..
إنه لم يقع يوما في عصر السلف قتل امرئٍ برأي رآه،بل الثابت أن الخوارج على بدعهم الضارة جدا أعطاهم علي(ض) حق ألا يقاتِلهم ويدعهم على ما هم عليه،مع أنه سمع من النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أنهم مارقون من الدين كما سأذكر ذلك.
البِدع أقسام وللأقسام أحكام وبالمقاصد الشرعية تعرف الأحكام التي يفتي بها في حق كل قسم منها،فأي بدعة هذه قُتل بها عشرات من الدعاة؟على فرض صحة نسبتها لبعضهم،فهذا السعيد مخلوفي وهو سلفي المنهج والله أعلم يُتهم بالجزأرة التي تعد بدعة خطيرة في الدين وهو الذي يختلف مع بعضهم في أيام الدعوة أنه لا وسيلة إلا الجهاد وإن كانت تلك الأيام قليلة،وكان بعضهم يناور السلطة ويداريها فقد ذهبت تلك الأيام وذهبت معها الوسائل كلها أدراج الرياح وجعل النظام المتسلط الحركة جميعا في خبزة وأكلها ولم يبق للناس اليوم مداراة ولا مماراة بل بقيت الغارات والمباراة ومناجزة العدو.
واعلم أن جل الخلاف الذي يكون بين متزعمي الحركات الإسلامية في العصر الحاضر مجاله وسائل الوصول إلى تحكيم الشرع والمنهجية في الدعوة ويترتب على ذلك التعامل مع النصوص الشرعية(وهو خلاف مقبول في الشرع إذا كان مبنيا على فهم ونظر،واختلاف الأفهام والأنظار أمر حتمي في حياة الإنسان لا مفر منه).
قال الشاطبي:”فإن الله حكيم بحكمته أن تكون فروع الملّة قابلة للأنظار ومجالا للظنون وقد ثبت عند النظار أن النظريات لا يمكن الاتفاق فيها عادة فالنظريات عريقة في إمكان الاختلاف،ولكن في الفروع دون الأصول وفي الجزئيات دون الكليات ولذلك لا يضر هذا الاختلاف(انظر الاعتصام).
وقال في الموافقات:فكل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة علمنا أنها من مسائل الإسلام وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة و التنافر والتنابز والقطعية علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء”.
ومن العجيب أنهم يضعون مخالفيهم في فرق المبتدعة الذين يجب قتلهم كفرا أو حدا ولا برهان لهم في ذلك لا من الشرع ولا بإسقاط ذلك الاسم عليهم ولو فرضنا بصحة ما ينسب من البدع المتعلقة بكيفة الحكم والإمامة أو أنهم متهمون بشيء من تأويل الصفات أو الأحاديث فالجواب من وجهين:
*الوجه الأول:أنه لا يُكفر أحد إلا بما عُلم من الدين بالضرورة وهذا متفق عليه عند أهل العلم.
…….11…..
الوجه الثاني:ماقاله شيخ الإسلام ابن تيمية:”وعامة ما تنازع فيه فرق المؤمنين من مسائل الأصول و غيرها في باب الصفات والقدر والإمامة وغير ذلك هو من هذا الباب فيه المجتهد المصيب والمخطىء ويكون المخطىء باغياًوغيه الباغي من غير اجتهاد وفيه المقصّر فيما يؤمر به من الصبر،وكل ما أوجب فتنة وفرقة فليس من الدين سواء كان قولا أو فعلا ولكن المصيب العاقل عليه أن يصبر على الفتنة و يصبر على جهل الجهول وظلمه إن كان غير متأول وإما غن كان ذاك أيضا متأولاً فخطأه مغفور له”.
وقال:كثير من مجتهدي السلف قالوا وفعلوا ما هو بدعة ولم يعلموا أنه بدعة،إما لأحاديث ضعيفة ظنوها صحيحة وإما لآيات فهموا منها ما لم يُرد بها وإما لرأي وفي المسألة نصوص لم تبلغهم.
قلتُ،ومن السلف من ترك أحاديث بلغته وام يُسمّ مبتدعا ولا كافرا وفهمها بخلاف ما فهمه غيره،فقد كان الإمام أبو حنيفة يأخذ أحيانا بالقياس ويترك النص الصحيح كمسألة المُصرّاة وحديث الفاتحة وغيرهما،وإن كان بعض الظاهرية يلمزونه قليلا لكن لا يصرحون بذلك تقية،والإمام مالك ترك أيضا حديثا(البيعان بالخيار ما لم بفترقا) وفهِم التفرق بالأقوال دون الأبدان وفي حقيقة الأمر أن هذا فهم للنص وليس تركا،كما فعل عمر بن الخطاب(ض) في المؤلّفة قلوبهم في الزكاة وأفتى بألا حق لهم وقد أعز الله الإسلام،فكأنه فهم من أن الإعطاء كان لحكمة تقوية المسلمين بالعدد وليس تركا،كما فعلت عائشة(ض) إذ قالت للنساء بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم:< <لا تمنعوا إيماء الله مساجد الله>> وهو فهم منها أن مصلحة طهارة المسجد واحترامه أولى من اتيان النساء وصلاتهن فيه.وهكذا يقال في ما ورد عن السلف أنه ترك لنص أنه اجتهاد في فهم النص،فتأمله فإنه نفيس.
ولا تظن بأنا نريد بهذا أن ندعو إلى ترك السُّنة او التهاون بالنصوص ولكن نقصد بما قلنا ودللنا عليه باتخاذ الأعذار لأهل العلم والمعرفة وقد يكون ذلك الفهم صحيحا ومفصدا شرعيا وإن كان مخالفا لظاهر اللفظ واجعل حسن الظن بأهل العلم دَيْدَنَك وملجأك،واحمل الناس على محامل حسنة وخذ لنفسك بالعزيمة وخذ للناس بالرحصة،كما قال بعض السلف حينما سئل عن الفقه في الدين،وإن أكبر خطإ يقع فيه المبتدعة هو فهم كلمة كفر في النصوص فهما واحدا،فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما رواه الترمذي:< <لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض>>،وليس معناه هنا الكفر الذي يخرج من الملة لدلالة قوله تعالى:**وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} فثبت لهم المولى عز وجل الإيمان مع الاقتتال،فتعلم من هذا أن هذا الكفر يطلق على الأعمال التي هي من شأن الكفار كما يروى لا تتشبهوا بالأعاجم فما نهي عنه لأنه صفة للعجم أي من شأنهم قديما فدخول العجم للإسلام لا يخرجهم من وصفهم بالعجم ولا تذم عاداتهم التي لا تخالف الإسلام والتي لا تثبت أخلاقا منافية للفطر السليمة وإنما المراد هنا هي العادات السيئة التي ابتدعها العجم واعتادوا عليها فصاروا مشتهرين بها كما أن الكفار قد اعتادوا أعمالا كان الكفر سببا في إيجادها وفشوها.ويرى بعض العلماء أن الكفر كفران،كفر يُخرج من الملة وكفر لا يخرج من الملة واستدلوا بالأثر المعلق في البخاري(كفرٌ دون كفر) وبالحديث الصحيح:سباب المسلم فسوق وقتاله كفر.
وقد انتصر لهذا الرأي الإمام الطحاوي في مشكل الآثار،وذكر ابن تيمية في مجموع الفتاوى في شأن بعض المبتدعة بأنه ذنب لا يبلغ الكفر وإن كان يطلق القول بأن هذا الكلام كفر مثل القول بخلق القرآن،وإنكار الرؤية وقال التكفير المطلق لا يستلزم تكفير الشخص المعين حتى تقوم عليه الحجة التي تكفر تاركها،وقال:وأما تكفير شخص عُلِم إيمانه بمجرد الغلط في هذا فعظيم،وقد طبق على نفسه رحمه الله هذا المبدإ بموقفه من الفخر الرازي رحمه الله،يقول ابن تيمية:ومن الناس من يسيء به الظن وهو أنه يتعمد الكلام الباطل،وليس كذلك بل تكلم بحسب مبلغه من العلم والنظر والبحث في كل مقام.
قلتُ وحتى في السلف من كان له مقالات في البدع،فقتادة بن دعامة كان يرى القدر وهو تابعي جليل ورأيته في أسانيد ميلم وأثنى عليه الإمام الذهبي،وهذا عمران بن حطان رأس من رؤوس الخوارج وأنت تعرف عقائدهم-وهو راوية ثقة-روى له أثبات الحديث،وفي البخاري جماعة من أهل الأهواء بينهم الحافظ بن حجر في مقدمة الفتح..وخطورة أهل البدع أهمها في أمرين:
*الأمر الأول:تكفير الأمة بحمل الألفاظ على غير معناها الشرعي المعهود عن السلف.
*الأمر الثاني:رفع السلاح ضد المسلمين،فمن هذا ندرك لماذا قاتل السلف الخوارج وقد علمت أن الإمام عليا(ض) لو لم يقاتله الخوارج لما بدأهم لأن البدعة إذا شاعت في قوم تعذر تعزيرهم وصارت محاربتهم بالحجة والعلم أوجب وأنفع وقد ذكرتُ لك أنه ناظرهم ابن عباس(ض) وأفحمهم،وأما ما يخالف نصوص الإسلام صراحة كالذين اعتقدوا في علي الألوهية والنبوية ليسوا كمن شبق وهم مرتدون ويعاملون كالمرتد في درا الإسلام وإن كانت لهم شوكة عوملوا كالمرتدين الممتنعين. ……12……… إن كثيرا مما يسمونهم بالمبتدعة ليسوا كالصنف المذكور في أهل القدر ومنكري الرؤية،فصاحب القول الذي لم يبنِ قولَه على قاعدة له في البدعة أو لم يكثر منه ذلك حتى عُرِف به لا يسمّى مبتدعا لا عيناً ولا وصفا،فابن خزيمة وهو على مذهب الحديث فقد نقل عنه تأويل في مسائل من مسائل الصفات وعندما رد عليه العلماء لم يخرجوه من أهل الحديث،ويروى مثله عن أحمد وتأويله عنه،ولكن أنّى لأحد أن يُخرج هذين من مذهب أهل السنة،وللبيهقي مقلات من أهل التأويل فانظر كتاب عقائد البيهقي.وعلى فرض ثبوت المقالة بالبدعة فهل يُفتى على هذا العموم بقتلهم من غير تفصيل،فإن رؤوس المعتزلة القائلين بخلق القرآن لم يفتِ الناس بقتلهم فما أفتى العلماء في الزمخشري ولا أفتى الحسن البصري في واصل بن عطاء…وقال ابن تيمية رحمه الله في القائل بخلق القرآن بعدما أفتى بهجرانه عقوبة له:وإذا كان في العقوبة مفسدة راجحة على الجريمة لم تكن حسنة.وقال:وكذلك لما كثر القدر في أهل البصرة فلو تُرك الحديث عنهم لا ندرس العلم والسنن والآثار المحفوظة فيهم،فإذا تعذر إقامة الواجبات من العلم والجهاد وغير ذلك إلا بمن فيه بدعة مضرتها أقل من ترك ذلك الواجب كان تحصيل مصلحة الواجب مع مفسدة مرجوحة معه خيرا من العكس.وقال: وكثير من أجوبة الإمام أحمد وغيره من الأئمة خرج على سؤال سائل قد علم المسؤول حاله أو خرج خطابا لمعين قد علم حاله فيكون بمنزلة قضايا الأعيان الصادرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يثبت حكمها في نظيرها.وهناك من حمل كلام الأئمة في القائل بخلق القرآن على الكفر العملي الغير مخرج من الملة ومنهم النووي قال:< <والصواب أنه لا يكفر>> وتأول النص عن الشافعي على أن المراد كفران النعم لا الإخراج من الملة كذا قاله البيهقي وغيره من المحققين لاجتماع السلف والخلف على الصلاة خلفهم ومناكحتهم وموادتهم،انظر أسنى المطالب في باب الردة. ……13…… فأين بدعة الجبهوية والجزأرة من هذا فإذا أخطأ المسلم واتخذ سبيلا للوصول للحكم غير السبيل الذي تراه راجحا في وقت تعذرت الوسائل عندئذ فتجعل هذه في جبينه عار الدهر وتلزمها له وصمة في تاريخه ثم لا تقبله متراجعا عنها ولو جاء بيد بيضاء حتى يكفر قومه ويبدعهم ويتبرأ منهم على رؤوس الأشهاد،وأين بدعة الجزأرة التي والله أعلم أن لهم تفسيرا عقليا لبعض النصوص فإن صح هذا فهم أحد شخصين،فإما أنه يُسرّها ولا يظهرها،فهذا يحكم عليه بما يعلن ويظهر لا بما يُبطن ولقد أبطن المنافقون الكفر في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وهو الموحى إليه بأمرهم فقيل له بقتلهم فقال أخشى أن تقول العرب أن محمد يقتل أصحابه. أي فمقال العرب وإشاعاتهم المبنية على شبهة واقعة تسبب الصد عن الإيمان والدخول في الإسلام.وإن الذي لم يدخل الإسلام لا يعرف حقيقة الأمر ومعنى النفاق،بل الصحابة أنفسهم كانوا بخافون النفاق حتى قال حنظلة يوما نافق حنظلة وكان عمر بن الخطاب يسأل صاحب سِر الرسول صلى الله عليه وسلم حُذيفة هل عدّني رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين،فلو كان المنافق يُقتل بغير حجة ظاهرة التي يتحكم فيها المرء لَخاف جُل الناس الذين لم يدخلوا الإسلام من القتل إن هم دخلوا،لأن القلوب بيد الله وخلجات الأنفس لا يتحكم فيها المرء فاستقرت الأحكام الشرعية على ظواهر الناس،فهذه لها علاقة بالسياسة الشرعية التي ينبغي على المسلم أن يستضيء بهديها ويستنير بنورها،وأما إن كانوا الذين يسمّون الجزأرة يعلنون ذلك فما هي المسائل التي يخالفون بها نصا صريحا أو إجماعا،ولا أظن أن هناك أمر كبيرا يتعلق بها إلا مسألة الانتخاب والعمل السياسي أو موقفهم من بعض النصوص موقفا متحفظا كمسألة صرع الجن أو اللباس القصير أو غير ذلك،فإنهم يرون في اللباس والعادات أنها غير ملزمة على ما بلغني والله أعلم،فكل ما ذكرت لا يذبح عليه المرء المسلم المجاهد بسكين أعدّت للكفار والمرتدين والمنافقين الموالين لهم،وأما مسألة الانتخبات فقد فُرغ من أمرها،وعلقت عليه بأن أصحابها أرادوا مصلحة للأمة بهذه الوسيلة وانفض وقتها وأما ما ينقلون أنهم ما زالوا يريدون الرجوع إلى ذلك العهد فهذا الأمر يحتاج إلى إقامة بينة شرعية أوضح من الشمس لأن الشهادة وقت الفتن صعبة وتحدّث عنها العلماء وإذا كثر التجريح في وقت الفتنة بين المسلمين فيجب التحرّز في الحكم بأقوال بعضهم في بعض وهكذا قالوا في شهادة الأقران على ما ذكره ابن حجر وان عبد البر في كتاب بيان العلم وفضله. وقد قال ابن أبي ذنب في مالك يُستتاب وإلا ضربتُ عنقه عندما خالف نصا،وكان بين السخاوي والسيوطي اتهامات فظيعة،واتُّهم الأمدي من بعض أقرانه أنه كان تاركا للصلاة ورد العلماء ذلك كله،وهذا مما تمليه النفوس على أصحابه وتسارع العامة في تضخيم ذلك عفا الله عنهم جميعا.هذا عند الفضلاء والعلماء فما بالك إذا غاب العلم والعقل؟وإن حب الرياسة رأس كل خطيئة تصدر من الشخص وحب العلو في الأرض يجعل للمرء حلولا شرعية يصعد بها على جماجم العباد إلى منصبه المنشود،ولا يسعى المقام أن أعطيك أمثلة حية على ذلك،ولكن للسياسة الجوفاء عن الدين الخالية من الرحمة افعالا وإنكالا بالأبرياء فكثير من قُتل في عهد بني أمية باسم البدعة في الدين وإنما المقصود من قتله الخوف من ولائه لغيرهم فكانوا يفتكون بكل أحد يشمّون فيه أن له ولاء آل البيت،وليس لنا من الأدلة الشاملة للوقائع حتى نحقق كل قتل في ذلك الأيام ولكن يكفينا أن نقول أن قتل ولآتهم وقضاتهم فيه شبهة لا يُتبع ولا يستدل به وحده من غير عَضده بأدلة منفصلة واضحة والله أعلم،ونقصد ببني أُمية غير الصحابة رضي الله عنهم أجمعين. وسجن شيخ الإسلام ابن تيمية إنما كان بتهمة مخالفته في الطلاق الثلاث وشد الرحال للقبر النبوي و لفّقوا له مقالة المشبهة،وحقيقة الأمر أنه أدخل السجن لأنه كان أمّاراً بالمعروف نهّاء عن المنكر مقيما على السّنة له أتباع كثيرون من المسلمين فخشى السلطان أن يؤُول الأمر إلى عزله على يد الشيخ ثم أن الفقهاء كانت فتواهم جاهزة وأقضيتهم،ومات رحمه الله في السجن. والأمر مثله في العزّ بن عبد السلام فكان رحمه الله بنفس الوصف وفقهاء السلطان في عصره كانوا من أراذل الحنابلة فكانوا ييتهمونه بالزندقة والخروج عن السنة،وأن حقيقة الأمر أن السلطان عندما مات الشيخ تنفّس الصعداء وقال:الآن صفا لي الملك.(انظر الشذرات وكتاب الفقهاء التسعة للشرقاوي). وكثير من يقول بما قال شيخ الإسلام ولم يسجنوا وكثير من أمثال العز من الشافعية في عصره ولم تُنصب لهم العداوة لكن للأمراء نظرةً خاصة لأهل العلم إذا التفّ حولهم الناس.
…….14……..
ومن بدعهم تكفير جميع الأمة الإسلامية الذين لم يعلنوا الجهاد على أنظمتهم أو لم يعلنوا صراحة الدعوة إلى تدعيم المجاهدين ولا يلتمسون لهم عذرا وقد التمس العلماء الأعذار للمبتدعة الضالين ولم يكفّروهم كما ذكرتُ ذلك،فقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن التكفير لا بد أن تجتمع فبه شروطه وتنتفي موانعه.وقال كذلك:تكفير المقالة لا يعني أصحابها أو قائلها(هذا معناه كلامه).وقال بلفظه:”ولا تحكم للمعيّن بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له،وقد بسطت هذه القاعدة في قاعدة التكفير..”والعلماء اليوم في أقطار الأرض كل بحسب ظروفه والمعلومات التي تبلغه عن المسلمين في البقاع البعيدة وعن الشخصيات الإسلامية التي تقود الثروات أو القتال أو الحركات وكذلك المعلومات والحقائق التي تنقل له عن حكام العرب والمسلمين،كل هذا عامل في تغير فتوى االعالم وموقفه.وقد لا يتأكد المفتي على قوم يجاهدون عدواً على إسلامهم وعدالتهم بل وأحيانا يبلغه أنه حرب أهلية أو فتنة فكيف نجعل هذه المواقف ميزاناً نكفر به العلماء؟وكذلك للدعاة نظريات في كيفية الإصلاح،مخطئة أو مصيبة.يرون أن مجتمعهم جاهل بأصول الإسلام ومبادئه وليس لهم أشخاص معتبرون يحملون شعيرة الجهاد ومجابهة العدو،فهم يرون مثلا حاجة إلى توعية عدد لا بأس به وتعليمه وتلقينه حتى يصبر على المقاومة وتكون نفسه طويلة في البلاء. كل هذه آراء واردة ومحتملة ولا يعني هذا أني أرجح العمل من هذا النوع عاماً على المسلمين ولكن به أبيّن احتمال ورود الأعذار والآراء التي بموجبها لا تكفر الناس إذا هم قصروا ةلا تبدعهم بهذه الكيفية المجملة،وقد ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:< <لا يرمي رجلا بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدت عليه إن لم يكن صاحبه كذلك>>.وأنت تعلم علماءنا تحت قهر الأنظمة الحاكمة الغاشمة نرجو من الله أن يقوض قواعدها ويسقط راياتها عاجلا لا آجلا.
وتجد بعض العلماء عفا الله عنهم مرتكبا في مسائل الحاكمية متحيزا في موقفه من المعارضات الإسلامية السياسية والمسلحة وذلك بسبب خوفه من حاكمه لأنه إن وقف ضد سلطان ما معناه أنه رافض لسلطة حاكمة الظالم فالجريمة واحدة والقلوب متشابهة.وأما الذين أعلنوا الحق أمام طغاتهم فهم فهم إما قّتلوا وإما سُجنوا وقليل من هو طليق لكن مبعد عن أعين الناس وأسماعهم،وسكت آخرون والتزموا الصمت ووقع جميع من يُنسبون إلى العلم وليس مستحيلا أن يكونوا علماء حقا و وقع هذا القسم في انحراف مفضوح بتأييدهم لحكامهم وسلاطينهم وهذا عار على مثقف له دراية بواقعه لأنه يعلم انه يدعم أنظمة لا مصداقية لها ولا شرعية ولا عدالة،فضلا عن العلماء بالشرع الذين لهم قواعد وأصول ينتهجونها في الوصول إلى الحق…
……15…….
ومن البِدع التي ارتكبوها هي ادعاء إمامة المسلمين وأُشهد الله أنني لما دخلت معهم لم أبايع أحدا منهم لا بيعة قتال ولا خلافة،وبعد مرور مدة من الزمن صاروا يقولون من اكتُشف أنه غير مبايِع قُتل،و على فرض أنهم أحرزوا هذه الخلافة فإن البيعة بالإكراه باطلة أفتى بذلك إمام دار الهجرة مالك بن أنس(ض) وضربه عليها المنصور العباسي مئة سوط،وقيل”إنما قال أن طلاق المكره لا يجوز فَوشَى به بعض أعدائه إلى الخليفة وفهِم المنصور أن البيعة والطلاق كلاهما عقد،فإذا لم يمض الطلاق بالإكراه فالبيعة أيضا لا تنعقد بالإكراه فراجعه المنصور فأصر ثم ركب بغله وطاف بالمدينة ونادى من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا مالك بن أنس طلاق المكره لا يجوز فضربه عندها المنصور”و وافق علماء السنة على أن البيعة لا تنعقد بالإكراه وإنما تكلّم العلماء على ما إذا بايع أكثر الناس رجلا لم يجز الخروج عليه ولا مبايعة رجل آخر بعده ولا يجوز للمسلم أن يبقى بغير بيعة أي فهو آثم ولكن إذا قلنا لا يجوز الخروج عليه فليس معناه يلزم الناس بيعته وإنما يلزمهم بعدم الخروج إن انعقدت له بالأغلبية من أهل الحل والعقد أقر ذلك المسلمون،وإنما المطلوب شرعا اليوم هي بيعة القتال ولابدّ لإقامة خليفة المسلمين من مشاورة الأمة.
ولا يصح ولا يجوز الدكتاتورية المعاصرة على غرار المُلك العضوض الذي مضى في العصور القديمة،وإن محاربة الديموقراطية من طرف العلماء في بلدان المماليك والسلاطين دواء ليس في محل الداء وكان ينبغي هذه الحرب الديموقراطية أن تكون في البلدان التي تنفذ العلمانية اعتمادا على الديموقراطية وتتيح لللشعوب يحكمون أنفسهم بأهوائهم فالملوك والسلاطين يستفيدون من محاربة الديموقراطية ألا يكون للأمة الاختيار في تعيين أميرها أو خليفتها كل هذا تحت ستار الدين والإسلام،وإذا صبر بعض العلماء على حكامهم فإنما هو اجتهاد منهم مبني على أن بعض الشر أهون من بعض ولكن الحق هو أن الحكم اختاره الله لنا أما الحاكم فتختاره الأمة بصفات بيّنها الله ورسوله فلا يجوز الخلط على عامة المسلمين وتضليلهم.وبعد هذا-والكلام على الشرذمة-فأي مجاهد أراد التوقف عن القتال ولو أراد الخروج لأي دولة أخرى أفتوا بقتله وردته،فهل قَتل النبي صلى الله عليه وسلم المنافقين المتخلفين عنه وهل قتل كعبا الصحابي وصاحبيه المتخلفين في غزوة من غزواته وهو الذي لا نبي بعده وهو الإمام في صحابته الذي ليس معه منازع وقتاله وأمره وحي من نبي غير قابل للاعتراض وتركه مساس بالعقيدة فأين كل هذا من بيانات قيادة الجماعة؟
وفي الترمِذي عن سعيد بن جهمان أنه قيل أن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال كذبوا بل ملوك من شر الملوك.وفي كلام الصحابي تنبيه إلى أن الخلافة ليست كالملك فلا تكون إلا عن مشورة المسلمين،وفي الترمذي أيضا عن عمر وعلي(ض) قالا:لم يعهد النبي صلى الله عليه وسلم في الخلافة شيئا.لذلك لم يحكم الإمام علي(ض) على من خرج عليه بشيء لأن إمامته غير ثابتة بنص وإنما ثبتت برضى المسلمين وموافقتهم فكان يسعى (ض) إلى إرضاء المسلمين بما يوافق الشرع كما لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم على ناكث البيعة بأنه مرتد يّقتل،وإن كان شدد فيه بقوله:< <إنه لا يكلمه الله يوم القيامة>> أي من نكث البيعة،ومن بايع إماما لا يُطلب من أن يُكلّف نفسه بما لا يطيق في أوامر إمامه، والإمام لا يلزمه بضرر كبير يعود عليه إلا أن يلزم نفسه بذلك،فعن ابن عمرو(ض):كنا نبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيقول:فيما استطعتم.وثبت أنه بايعه بعض على الموت وآخرون على على عدم الفرار لكن إن لم يوفّوا لا يُحكم عليهم بالردة ولا بالقتل حدّا،وإنما يكونون فاعلين لكبيرة من الكبائر،الله يتولّى العقاب عليه أو العفو.
قال تعالى:**إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يدُ الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما}،فبهذا تعلم أن نصوص الشرع لا تقبل الحكم على ناكث البيعة بالقتل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:< <لا يحل دم امرئ مسلم يشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى الثلاث النفس بالنفس والثيِّب الزاني والتارك لدينه>>.
وأما ما يثبت عن بعض أهل العلم من خرج مختارا من دار الإسلام إلى درا الكفر فهو مرتد،فقد قالوا فيما إذا خرج محارباً للمسلمين،وأما التولّي يوم الزحف فهي كبيرة من الكبائر الموبقة السبع التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تعالى:**ومن يُولّهم يومئذ دُبره إلا متحرّفا إلى قتال أو متحيِّزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير}،هذا على فرض ثبوت الإمامة،أما من لم تثبت إمامته على المسلمين وقَتَلهم بهذه الشبه فقد تعدّى وظلَم وقال على الله ما لم يقُل،ولم يُنقل قتلُ من لم يجاهد عن أحد من الأمراء في تاريخ الإسلام ولا عن عمر الذي كان شديدا في الدّين آخذاً بالعزائم،ولا في أيام فرض الجهاد فرضا عينياً في حرب التّتّر والصلبيين فس الشام ولا في الأندلس،اللهم إلا الحَجّاج الذي قال:والله لو قلتُ لرجل أخرُج من هذا الباب فخرج من الآخر لقطعتُ رأسه.وهذا الكلام ليس في حاجة إلى التعليق والرد.ومجمل القول أن المثبِت هو المطاَلب بالدليل كما تقول القاعدة الأصولية ولا دليل على قتله.
…..16……
ومن بِدعتهم قتل الأبرياء في الطرقات والقطارات والحافلات،وأنا أعلم علماً لا مجال للشك فيه أنهم يضعون القارورات المتفجرة بحجة أنهم يُخرجون عتاد العدو ويجعلونها تحت عمارات يسكنها رجال الطاغوت فيقتلون معهم أبرياء ويقولون أنها مسألة تندرج قاعدة التترّس ويقتلون أهالي جنود النظام بحجة أنهم أعوان لهم في الظلم والردة،ويقتلون من كان يوما عاملا في جند النظام ولو انعزل بعد ذلك.
والإجابة عن هذه الوقائع تتطلب كثيرا من الاحتجاج والشواهد ولكن أكتفي بما يلي:
*أولا:إن تخريب عتاد العدو لا يكون بإزهاق أرواح المؤمنين ولا يجوز قتل ذراري الكفار ونسائهم وهو ثابت في الإسلام لقوله تعالى:{وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين} وقال رسو ل الله صلى الله عليه وسلم:< <لا تقتُلوا شيخاً فانياً ولا طفلا ولا امرأة>>،فما بالك بنساء المسلمين وذراريهم؟وإن تخريب أموال العدو لمصلحة دون استحياء ضعفاء المؤمنين على أنهم لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا،هذا وارد في قوم كانت لهم أرض منعة وشوكة ولكن ليست لهم وسيلة للوصول وفي وقت لم تكن فيه نظم لها وسائل المراقبة والحراسة والوثائق،أما الآن والشعوب مثل قطيع الغنم لا يدرون كيف يُفعل بهم فأين يذهبون؟.
……17……
*ثانيا:وأما مسألة التترّس فهم مبطِلون في إسقاطها على ما يفعلون لأن العدو لم يتترس بالمؤمنين ولكن هم مقيمون لأنفسهم بين أظهرهم لضعفهم وهي مسألة منصوص عليها،ومسألة التترس مسألة اجتهادية مختلف فيها مناطُها السياسة الشرعية التي بتصرف فيها أمير الحرب بحسب ما يراه من الحق و ليس معناه أنه يفعل ما بدا له ولكن يُوازن بين المصالح الشرعية فيقدّم الأهم ثُمّ الأهم قال تعالى في المؤمنين الذين كانوا في مكة:{ولولا رجالٌ مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معَرّة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيّلوا لعذّبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}،فقيل كانوا تسعة نفر وقيل كانوا خمسة،و وجه الاستدلال من هذه الآية أن جيش المسلمين لم يكن يعرفهم بأعينهم أو بأماكنهم ولا يمكن أن يميّزهم في القتل فلو تمكّن من القتال لم يجّوز له قتلُهم ولا قصدُهم،وهذه الفائدة الأول.
ولما كان قتال العدو يسبّب قتل المؤمنين ولو قَلُّوا حال الله بينهم وبين قتال الكفار وجعل ذلك مقصدا شرعيا ومصلحة يجب اعتبارها،وهذه الفائدة الثانية.
الفائدة الثالثة:قال تعالى:{لو تزيّلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما}،أي لو تميّزوا من أهل الكفر اعذبنا الكفار بقتلكم إياهم،وتفسير العذاب بقتل المؤمنين هو الذي قاله المفسرون(انظر ابن كثير).
تنبيه:إنه لو كان لهؤلاء النفر مكان يمنعون فيه ولعل ضعفهم كان بفقدان الحيلة والسبيل إلى ذلك المكان،أما ضعفاء الأمة الآن فلا مكان ولا سلطان يلجأون إليه كما أنه لا حيلة لهم ولا سبيل،فالإفتاء اليوم ضائع بين قوم لهم عِلم بالشرع يجهلون الحوادث التي يُفتون فيها ومُلبساتها وبين آخرين يعرفون الواقع جيدا ويجهلون قواعد الشرع ونصوصه أو يفقدون الفهم الكامل الذي لا بد منه في الأمرين وهذا أدهى وأمرّ.
وأما مسألة التترس وهو فعل شيء محرم إذا كان عائقا على فعل الواجب،فهم قد اختلفوا فيها،أي فللأمير أن يُقبل عبى القتال أو عدمه فيُرجِّح أي المصلحتين رآها،وكأن السبب في ترجيح القتال وهم متترسون بالمؤمنين،هو أن القتال ملازَمٌ بالقتل والأسر فالعدو لا تخلو يده غالبا من أسرى لنا ونحن كذلك،فلو كلما كانت لنا الكرّة جعلوا الأسرى أمامهم توقفنا لكان ذلك انهزاما ملازما لنا ولَترتّب على ذلك تركٌ دائم للجهاد وتركه مخالف لمقصد الشرع بالجهاد،وقد اشترط العلماء في هذه المسألة إذا لم يجد الأمير غرّةً للعدو أو غفلةً أو ثغرةً لِيقاتِله منها مرة أخرى فإن وجد لذلك سبيلا لم يُجز له قتالهم بهذه الصورة التي تؤدي إلى قتل المؤمنين،واشترطوا أن العلم بالتترس يكون بلغ جيش المسلمين في حال الالتحام فعنده إن علموا أن الكف يسبّب الخسارة وانهزاماً جاز القتال مع تحاشي المؤمنين وضعفاء الكفار،وأما إن علم المسلمون قبل الالتحام فيترجح الكف عن القتال،وقد أشار إلى معنى هذا الإمام الشافعي(ض) في الأمّ.
وعلى فرض أنها تشبه بِنتَ اليوم وبينهما بَرزَخٌ لا يبغيان،إن في ترك قتال الأبرياء المؤمنين مصلحة وسياسة شرعية وهي تأليف المؤمنين حول المجاهدين الذبن تَطعن فيهم وسائل الإعلام يوميا ولا وسائل يردّون بها عن أنفسهم إلا الأفعال الصارخة.
وتَالله إن في العدوّ لَمئات الثغرات والغقلات وعشرات الأهداف وميادين القتال من ثكنات ومقرات للشرطة والدرك وسيارات لهم ومخازن للأسلحة،ومؤمنون في صفوفهم لو أحسنا دعوة الناس وأحسنا العمل وأقمنا العدل لصارت جنودهم عيوناً لنا نهتِك بها أستارهم ونقتحم بها أوكارهم،وقد وقع مثلُه والحمد لله،إن العلم بمَخادِع العدو نِصفُ الحرب واختيار الزمان زالمكان والإنسان النصف الثاني وإن للمجاهدين من فرص العمل العسكري والسياسة الشرعية ما لا يجوز كشفه هنا لئلا يتفطن العدو.

..…..18……..
وأما أهالي المرتدين فقد قلنا أن دار أهل الردة بهذه الصورة هي قسم حادث ولا سيما أننا ذكرنا أنه لا ملجأ للضعفاء فهذا مانع شرعي من إضفاء حكم المرتدين عليهم وتحليل دمائهم بهذا الوصف،وقد استُفتِيت في هذه المسألة فقلتُ لا أعرف لهذا دليلا من الشرع وكان الذي استفتاني جاهلا و سفّاكا وذكّرني بمن قرأت عليهم من رؤوس الخوارج وقد احتجّ هذا المبتدع بقوله أنهم يقتلون أهلينا أفلا نقتُل أهليهم والله يقول:{وإن عاقبتم فعاقِبوا بمثل ما عوقبتم}؟وهنا أجيب بما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية أنه لا يجوز الكذب على من كذب عليك أو الزنا بأهله إن فعل ذلك لأن هذا حق الله تعالى.
قلتُ،وكذلك لا يجوز معاقبة امرئ بذنب فعلَه غيره لأن الله يقول:{وكل إنسان ألزمناه طائرَه في عُنقه} وقال:{ولا تزِر وازِرة وِزر أخرى} على هذا الفقه يجب علينا أن نعامل المؤمنين والمرتدين والكفار معاملة شرعية وأن نجاهدهم جهادا نبَويّاً لأن في الجهاد دعوةً وقتالا،فليس المقصد الشرعي هو إبادة الكفار والمرتدين ولكن المقصد إرغامهم على الإسلام فقد يتحصل المؤمن على قتل البعض و توبة البعض الآخر ودخوله في الإسلام،فمنهم الممتنع فردّته فعلية بامتناع وأقصد به الامتناع عن فعل بعض الشعائر أو تعطيل أحكام امتناعاً بشوكة فبمجرد الانصياع والانقياد يصير مؤمنا إذا أقرّ بالتوبة.

……19……..
واعلم أنه شائع في أوساط المجاهدين وخصوصا عند الشرذمة المبتدعة المقصودة بهذا المقالة أنه لا يجوز استتابة المرتد إذا أُسِر،وهذا مخالف لسلف الأمة،فقد قَتل خالدٌ بن الوليد(ض) مالك بن نويرة بعد أن أَسره على خلاف في كيفية قتله وعاتَبه أبو بكر(ض) و وَدَى مالكا (انظر البداية والنهاية لابن الأثير).
وقيل قال لهم خالد أدفئوا الأسرى وكان معنى الدِّفءى في لُغةِ مَن قَتَلَه هو القتل فقتلوهم فسأل عنهم خالد صباحا فقيل ألم تأمُر بقتلهم؟فتأسّف لذلك،واستبقى خالد مجاعة بن مرارة مقيّداً لعلمه بالحرب والمكيدة زكان سيداً في بني حنيفة شريفاً مُطاعا،وصالَحَ خالد مجاعة على الحصون على أنها ملأى رجالا ومُقاتِلةً خدعةً من مجاعة،دعاهم خالد للإسلام فأسلموا عن آخرهم ورجعوا إلى الحق وأسر قيس بن مكتوم وعمرو بن معد يكرب وكان عمرو قد ارتدّ وبايَع الأسود العنسي فبعث بهما أسيرين فعُتقا وأُنّبا فاعتذرا فقُبلت منهما توبتُهما وأسر خالد عيينة بن حصن وكذلك منّ على قرّة بن هبيرة وكان أحد الأمراء مع طليحة.

……20……
وأما المحارب فهو الذي خرج بسلاحه يغصب الأموال ويقتل النفوس أي يروّع خارج المدينة وعند بعضهم ولو في المدينة إذا تحقق الترويع بالسلاح ولا تُشترط الردة في وصف المحارب على خلاف بين العلماء في كيفية تطبيق الآية على من قَتل و روّع وأخذ مالا،وعلى من روّع وأخذ فقط،أو روّع فقط لقوله تعالى:{إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يُصلّبوا أو تُقطع أيديهم وأرجلُهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الحياة الدنيا و لهم في الآخرة عذاب أليم إلا الذين تابوا من قبل أن تقدِروا عليهم} وقال الشافعي:القتل لمن قتل والقطع من خلاف لمن غصب المال والنفي لمن روع ويراه حكماً لازما يجب القضاء به.
وقال مالك:الأمير أو القاضي مخيّر بين الأحكام المذكورة فكلامه راجح للمصلحة الشرعية.واعلم أن الآية نزلت في قوم ارتدوا وقتلوا الراعي وساقوا الإبل كما هو وارد في صحيح البخاري،وذكر البغوي أن لها سببا آخر وقيل أنها نزلت في حق قطاع الطريق وبه قال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأبو ثور،وقيل نزلت في أهل الشرك،وقيل في أهل الذمة،وذهب البخاري إلى أنها نزلت في أهل الكفر والردة،وقال العيني وليس فيه تصريح بذلك زقال الشيخ زكريا الأنصاري:قال أكثر العلماء نزلت في قطاع الطرق لا في الكفار واحتاجوا له بقوله تعالى:{إلا الذين تابوا} ولو كان المراد بالكفار لكانت توبتهم بالإسلام وهو دافع للعقوبة قبل القدرة ةبعدها.

…..21…….
*السبب الثاني:قال الشافعي:ولو كانوا ارتدوا على الإسلام أي محاربون قبل فعلهم هذا ثم فعلوه مرتدين لم نُقم عليهم شيئا لأنهم فعلوه وهم مشركون ممتنعون،قد ارتد طليحة فقتل ثابتا وعكاشة بن محصن بيده ثم أسلم فلم يفدِ ولم يُقتل لأنه فعل ذلك في حال الشرك(انظر الأم)،أي لم يُقتصّ منه ولم تؤخذ منه دِية،فبهذا تعلم أن حدَّا الحرَابة لا تُشترط فيه الردة وأن المرتدين لا يقام عليهم حد الحرابة و هنا نرفع إشكالين:
*الإشكال الأول:لفظ ارتدوا الثابت في سبب نزول الآية وبيانه هو أن هذا اللفظ كما ذكرنا ليس شرطا في إقامة حد الحرابة وذلك بدليلين:
1-الدليل الأول:ذهاب الجمهور إلى أن حدّ الحرابة لا تشترط فيه الردة وتطبيق ذلك سلفاً وخلفا.
2-الدليل الثاني:هو أن لفظة ارتدوا في سبب النزول ملغاة في وصف المحكوم عليهم وهذا الإلغاء يُسمّى بتنقيح المناط عند الأصوليين فكونهم أعراباً وكونهم ارتدوا وكون المال مال بيت المال وكونه إبلا كل هذا ملغى وغير مشترط في حد الحرابة.

……22…….
الإشكال الثاني:هو إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الحرابة على المحاربين وهم مرتدون ويتميز لك الأمر بما نقلنا عن الشافعي أن المرتد لا يقام عليه حد الحرابة واستدل بعمل السلف وذلك أن كلام الشافعي وعمل السلف منصب على المحاربين الممتنعين،والذين أقام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الحرابة هم في دار الإسلام وتحت أحكامه.قال أبو العياس الجرجاني:إن الشرط في كون المحارب من أهل دار الإسلام لا كونه مسلما.وكذا قال الشافعي وأبو ثور في أهل الذمة أنهم يُحدّون حد المسلم.فإذا روينا لك أن أبا بكر لم يقتل المرتدين المحاربين الممتنعين الذين وقعوا في الأسر وتابوا ولم يقم عليهم حد الحرابة فإنه أجرى(ض) أحكام الحرابة في الفجاءة الذي جهزه بجيش لحرب الردة فلما سار جعل لا يمر بمسلم ولا مرتد إلا قتله،فلمّا سمع الصديق(ض) بذلك بعث وراءه بجيش فردّه،فلمّا أمكنه بعث به إلى البقيع فجمعت يداه إلى قفاه،وألقي في النار فحرقه وهو مقموط فهذا قضى فيه الصدبق بحكم المحارب لأنه في دار الإسلام وغير ممتنع.وفي المُثلة خلاف في نسخها ورجح ابن سيد الناس أنها منسوخة بنهيه صلى الله عليه وسلم عنها.وكذا الحرق بالنار،الراجح عند أهل العلم أنه لا يجوز،فعن عكرِمة أن عليًّا أتى بزنادقة فأحرقهم فبلغ ابن عباس(ض) فقال لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تعذِّبوا بعذاب الله ولَقتلتُهم،فلما بلغ عليًا ذلك قال صدق وهو في الترمذي.
وفي مسألة المرتد أشكلت على كثير من الناس فأجروا أحكام الحرابة على المرتدين مع أن المحاربين لا تشترط فيهم الردة والمرتد لا يشترط في العفو عنه توبته قبل المقردة عليه كما هو الحال في المحاربين،وذكرنا عن السلف أنهم أسروا المرتدين وعفوا لما أظهروا التوبة بخلاف المحارب فشرط العفو عنه هو توبته قبل المقدرة،فقد عفا أبو بكر(ض) عن الأشعت بن قيس وكان فتاكاً مرتداً قاطعا للطريق فأسره واستتابه فتاب وحسُنت حالتُه و زوَّجه ابنتَه وصار بعد ذلك مجاهدا صنديدا.انظر مجمع الأمثال للميداني.
وحوصلة ما تقدم أن المحاربين إذا ارتدوا قسمان:
1)قسم ارتدوا وامتنعوا بشوكة في دار الردة أو تحالفوا مع الكفار فهؤلاء نعاملهم معاملة المرتدين ولا نقيم عليهم حد الحرابة كما فعل أبو بكر(ض) مع أهل الردة،وفهم العلماء أن الكفر مانع لهم من حد الحرابة إن امتنعوا،وقد نقلنا لك ذلك عن الإمام الشافعي.
2)قسم إذا حاربوا،مرتدين في دار الإسلام غير ممتنعين ليس لهم شوكة تتطلب حربا بالعرف،فهؤلاء يقام عليهم حد الحرابة،بل نفعل معهم كما فعلصلى الله عليه وسلم بالعرنيين وكانوا سببا في نزوا الآية على المشهور،وما حكم به أبو بكر على الفجاءة هو إقامة حد الحرابة على محارب مسلم،واعلم أن صفة المحاربين الغالبة عليهم هي الخروج من أجل غصب الأموال ويقطعون السبيل ويقتلون النفوس ويخيفون المارة،وقد يزيدون التعدي على الأموال والأنفس،فليس كل كافر أو مرتد أخذ الأموال والأنفس وقطع الطرقات يسمّى محاربا في اصطلاح الشرع فالقتل والغصب سيمة كل عدو مسلماً كان أو كافراً أو مرتداً،وقتل المرتدين الممتنعين جهاد مصنف في بابه،وأما قتل المرتد وإقامة الحد على المحارب وهما في دار الإسلام ومقدور عليهما فهو من باب القتل وإقامة الحدود،فتأمل..
………23……..
والراجح عند العلماء أنه لا ضمان على المرتدين في ما استهلكوه من مال ودم،فقد أصاب أهل الردة على عهد أبي بكر(ض) نفوسا وأموالا عُرف مستهلكوها،وأسلم طليخة الأسدي بعد أن سبَى وكان قد قتل وسبى كما ذكرنا فأقره عمر بعد إسلامه ولم يأخذ بمال أو دم.و وفَد أبو شجرة بن عبد العزّى وكان من أهل الردة على عمر بن الخطاب ولم يطالبه بشيء،نقله الماوردي في الأحكام السلطانية.وقال الشافعي في المرتد اللاحق بدار الحرب،وإن قدم ليقتل فشهد ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقتله بعض الولاة الذين لا يرون أن يستتاب بعض المرتدين فميراثه يورثه المسلمين وعلى قاتله الكفارة و الدِية،ولولا الشبهة لكان عليه القَوَد،ويجوز إمهال المرتدين إذا طُمع في هدايتهم كما فعل خالد مع عدي في قومه،وأمهله أياما يدعو قزما آخرين فاهتدوا بسببه ونجوا برحمة الله ونعمه.ولستُ بما قلت أبحث عن الرُّخص للأعداء مهما كلفني الأمر ولكن أردت أن أدفع بدعة فظيعة واعتقاداً فاسداً مبنياً على الجهل وعدم مهرفة نصوص الشرع وهو أنه لا يجوز العفو عن المرتد الأسير ولو تاب فهي لا أصل لها في هذا الدين،فأرجو ممن قرأ كلامنا ونقولنا عن العلماء أن يفهمه ويَعِيَه جيدا ويُحسن تنفيذَه في الواقع.
……..24………
ومن البدع التي ارتكبوها قتل السارق والمختلس واعلم أن الذي تُقطع يده حدّاً بالسرقة هو الذي يسرق من حرز لقوله صلى الله عليه وسلم الثابت في الموطَّأ:< <لا قطعٌ في ثمر في معلق ولا في حريسة جبل فإذا آراه المراح أو الجرين فالقطع>>.قال ابن العربي:< <اتفقت الأمة على أن شرط القطع أن يكون المسروق محرزا بحرز مثله للوصول إليه بمانع>>.(انظر شرح الزرقاني على الموطأ).وفي الترمذي عن جابر قوله صلى الله عليه وسلم:< <ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قَطع>> وأن يكون الحد بإقراره أو بشاهدين ذكرين عدلين،والإقرار لا يكون تحت الضرب والتهديد بالقتل ،فإن توفرت كل الشروط ولم أذكر بقيتها حُدَّ بالقطع.واختلف في قطع الأيدي في الغزو،روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:< <إنها لا تقطع الأيدي في الغزو>> وقال الترمذي:والعمل على هذا عند بعض أهل العلم منهم الأوزاعي.قُلت ولم يترجح لي فيها رأي الآن وسأذكرها مرة أخرى إن شاء الله،وإن قلنا بجواز الحد فلا يجوز قتله وإنما قالوا إن تكرر منه حتى قُطعت أربعته عُزِّر بعدها ولم يقل أحد لا من السلف ولا من الخلف ولا من أهل السنة ولا من المبندعة أنه يُقتل.وقد نقل بعض المجاهدين أنهم قتلوا أفرادا منهم اتهموهم بخيانة أموال الجماعة كما يسمونها ومنهم مجاهد في الغرب اتهم بخيانة 30 مليون سنتيم وقتلوا آخر ادّعوا أنه سرق لهم سيارة ولم يعترف بسرقته إلا بعد تعذيبه وكانت مخبأة في فلاة من الأرض،وقد علمت أن سرقة الشيء من الفلاة لاتوجب حدّا،وأن الشارع اعتبر سرقة الغنيمة غلولا وهي لا حدّ فيها،و روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه أحرق متاعه و روي في غير حديث أنه لم يأمر بحرق متاعه فأين الحد على الغالّ؟أو أين القتل؟وهذه الأمور لا يكتومنها بل يفتخرون بها وهي أشهر من نار على علم،ودليلهم في ذلك عندما سألتهم قالوا:< <قد صدر بيان فيمن أخذ أموال الجماعة>>فقلتُ في نفسي:الله….ماالفرق بينهم وبين المواد الصادرة والقوانين المرسومة من النظم الوضعية؟والويل لك إن عارضت البيان فالرصاص يلتهم أضلاعك إن لم يكن الذبح المسنون.فإنهم أحيانا يشفقون على المجاهد بالذبح إذا أرادوا قتله ويطلقون عليه الرصاص،فالرفض لأي أمر من أوامر القيادة معناه عندهم هو الفتنة أو شق العصا أو الردة،وكل هذه الأوصاف أو واحد منهم كاف في قتل رافض أو منتقد،فإذا كان في عساكر النظم العلمانية قاعدة{طبق ثم ناقش} فهم عندهم{طبق ولا تناقش} وعندهم الذبح واجب على كل مجاهد ولا يكفي القتل بأي وجه فإذا سقطت القرعة على واحد ثم رفض اتُّهِم في إخلاصه أو نُظِر إليه بعين الاحتقار،وهل تعلم لهذه السنن والأحكام سنداً أو تعرف لها مددا للهم إلا الخوارج المبتدعة فإنهم الذين لا يعرفون من الشعائر إلا القتال ولا من العقيدة إلا التكفير.
……..25…….
ومن بدعهم قتل الزناة وشاربي الخمور مع أن الزاني لا يقام عليه الحد إن كان مُحصنا حتى يُقِر أو تشهد عليه أربعة شهود كالمِروَد في المكحَلة وليس لهم سند في قتل الزاني إلا إذا قالوا بتكفير صاحب الكبيرة وهو قول الخوارج،ولم يقل أحد من أئمة المسلمين بقتل شاربي الخمور وبائعيها وإنما هو الجلد للشارب والتعزير للبائع على خلاف بين السلف في عدد الجلد،و روي عن أبي بكر أنه أربعون وعن علي ثمانون ولكن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:< <إذا شرب في الرابعة فاقتلوه>>،قال الإمام النووي:هو منسوخ بالإجماع(انظر التبصرة للعراقي) وفي الترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله،قال أبو عيسى الترمذي:< <والعمل على هذا الحديث عند عامة أهل العلم لا نعرف منهم اختلافا في ذلك في القديم ولا في الحديث>>.ونُقل عن الظاهرية أنهم قالوا يجوز قتله في الرابعة على وجه التعزير،والصحيح الأول وهو مذهب أهل السنة والجماعة من أهل الحديث الذين يعملون بأفهام السلف وفتاوى فقهاء الأمصار.
فإن إطلاق السُّنّة ينطبق عليهم لا على الظاهرية الذين يقفون على ألفاظ النصوص ويهملون آثار الرعيل الأول ومقاصد الشريعة التي أوضحتها أقضية الخلفاء الراشدين،فإن الظاهرية يقولون في حديث:< <لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد>> أنه يجوز التغوط فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنه،ونقل عن داوود أنه قال:< <إن إراقة البول في الماء الراكد غير منهي عنه>>.فقل لي بربك أين هو فقه السلف وعملهم؟وإنما الحق في سواد الأمة وقواعدها المتواترة في الاستنباط،ولنرجع إلى قتلة السارق،ومن عجيب أمرهم أنهم إذا سئلوا عن الدليل قالوا:صدر فيه بيان.واعلم أن حجية بيان الجماعة مصدر جديد من مصادر التشريع هو مقدّم،كما هو ظاهر من أعمالهم،على الكتاب والسنة والإجماع والقياس وبنوا فهمهم الفاسد على أن الأمير إذا رأى مصلحة كان رأيه واجب الطاعة ولم يعلم المساكين أن هذا مشروط بألا يخالف نصا أو إجماعا أو قاعدة متفقاً عليها وألا يكون رأياً فاسدا عُلم فساده بالضرورة فإنه عندئذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:< <السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية فإن أُمِر بمعصية فلا سمع ولا طاعة>> رواه الشيخان والترمذي وأبو داوود،و روي أن أميراً قال لجماعة معه في سرية وكانت فيه دعابة:أليس لي عليكم السمع والطاعة؟قالوا بلا،قال فادخلوا هذه النار،فهمُّوا بذلك،فلما رجعوا قال لهم انبي صلى الله عليه وسلم:لو دخلوها ما خرجوا منها إنما الطاعة في المعروف.ورأيته في ابن ماجه بلفظ آخر بإسناد صحيح عن أبي سعيد الخدري.
………26……..
وقد يحتجون في قتل الشارب بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ام بقتل قوم يشربون نبيذا مسكرا وأبوا تركه،والحديث رأيته في مسند الإمام أحمد بلفظ:< <فإن لم يتركوه فاقتلوهم>> عن ديلم الحميري.
فهو محمول على الممتنعين على ترك فرض أو فعل كبيرة والمراد هنا القتال لأنه ليس كل ما جاز بسببه القتال جاز بسببه القتال،أي ليس كل ما جاز قتاله جاز قتله فالقتال مشروع على ترك شعيرة كمثل الأذان وصلاة الجماعة والزكاة والجُمعة ولكن لا يجوز القتل بتركها بالإجماع ومن هنا وقع الخلط على الجهال لأنهم لم يفرقوا بين القتل والقتال والقتال في مصطلح الشرع.
و ورود القتل بمعنى القتال في النصوص الشرعية وكُتب بعض أهل العلم،قال الشافعي:< <ليس القتال من القتل بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله>>.وقال ابن دقيق العيد في حديث:أُمرت أن أقاتل الناس…إن المقاتلة مفاعلة يقتضي حصولها من الجانبين،فلا يلزم من إباحة المقاتلة على الصلاة،إذا قوتل عليها،إباحة القتل عليها في الممتنع عن فعلها إذا لم يقاتل،ولا إشكال بأن قوماً لو تركوا الصلاة ونصبوا عليها أنهم يقاتلون،إنما النظر والخلاف فيما إذا تركها إنسان من غير نصب قتال هل يُقتل عليها أم لا؟وكذلك قال ابن تيمية:< <ان القتال أوسع من القتل>>.قُلت،وقد تقدم الحديث:< <لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى الثلاث...>>فاجعله نصب عينيك.أما القتال فأسبابه كثيرة منها قتال البغاة والخوارج والتاركين للشعائر،وأما المقدور عليه من المسلمين فلا يجوز قتله بهذا وهو سلاح له ولم يعلن قتالا و لم يمتنع،وسبب حملنا له على القتال لا القتل هو إجماله فلم نعرف هل هؤلاء الأقوام كانوا معنقدين حلية أو حرمة أو كانوا ممتنعين غير مقدور عليهم أو العكس،والنبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم من حالهم ما لم يبلغنا نحن عنهم ففسرنا القتل هنا بمعنى القتال لأن السلف لم يُنقل عنهم انهم قتلوا شارب الخمر لا إفتاءً(ولا قضاء)،وفي نص الحديث إيماء إلى أنهم غير مقدور عليهم وهو قوله:< <فقاتلوهم>> وكان الأصل أن يقول له< <فأقيموا عليهم الحد>> لكن لما يعلم أنه لا يستطيع ذلك أمر يقتالهم على وجه الجهاد. ……..27…….. ومن بدعهم قتل النساء الحلاقات وتلاميذ المدارس وضع القنابل في أقسامهم وأصدروا في ذلك بيانات،ومنع الشباب المتنقل من بلد إلى بلد،وقد قرأت في مجلتهم ما محصله أن الطاغوت صار يبعث شبابا مجندين في الجيش بغير وثائق فلا يمكن الاهتداء إليهم إلا بقتل كل منتقل في سن الخدمة الوطنية،هذا معنى ما فهمته من كلامهم،ثم قال الكاتب ما معناه:وبعد قتل الشباب من النوع تبين لنا أنهم جنود في النظام منتقلون إلى مكان آخر،فهذا الكلام ساقط بيّن السقوط لا يستحق الرد من الوجهة الشرعية لأنه لا يجوز قتل امرئ إلا ببينة شرعية واضحة ولا شبهة فيها لأن الشريعة تتشوّف للعفو. ……..28……. قال صلّى الله عليه وسلم:< <إدرَأوا الحدود بالشُّبهات>> رواه ابن عدي عن ابن مسعود،روي موقوفاً وموصولا،وعن عائشة(ض) قالت:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:< <إدرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم>> رواه البيهقي والحاكم والترمذي(انظر مختصر الكنز)،ورأيتُ في الترمذي إتماماً له قوله:< <فإن كان له مخرج فخلوا سبيله فإن الإمام أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة>>. والصحيح وقفه كما قال الترمذي،نُقل مثله عن عمر بن عبد العزيز،وصارت قاعدة عند فقهاء السلف رضوان الله عليهم وقضاتهم.وهم قد عكسوا القضية فلسان حالهم يقوا:إدرأوا العفو بالشبهات،فعندهم الأصل في الناس الاتهام والأصل في بني الإنسان قتلُهم ولا تتم براءتهم إلا بحجج هم أدرى بطرقها فالخلُق المحمود عندهم هو القتل بغير تأنٍّ ولا تفكير،فالقتال بغير مراجعة ولا هوادة هو المستحق بكلمة البطل والمخلص والموفق وهو المرشح لقيادة الإمارة وقيادة الغارة. ……..29…… *أولا:الجهل بالعلم الشرعي،فهم جهّال بأتم معنى الكلمة ويمدحون الجهل ويقولون(فلان لا يعرف إلا الطربيق) يعنون القتل،وسمعت بعضهم يقول< أهل العلم هم المشكلة والذين يقرأون أمرهم مشكل> وترتَّب على هذا عدم معرفة قواعد الدين والسياسة الشرعية. *ثانيا:عدم معرفتهم بالعلوم الدنيوية فالذين لهم المر فيهم لا يعرفون شيئا عن التاريخ مثلا والجغرافيا وكذلك العلوم العسكرية إلا ما تعلم بعضهم تمرينات على القتال بالسلاح الخفيف ولا يغرنّك وجود أفراد لهم دراية عالية من بينهم فإن مثل هؤلاء تراهم مهمّشين،لن ذوي الكفاءة لهم ميزة الفهم والرأي والاحتكام إلى الحق وهذه الصفة عدوة لهم منبوذة فيهم والحسابات الكثيرة كما يقولون غير جيدة وعلى هذا الترتيب. *ثالثا:بلادة العقل وشذوذ الرأي وسفاهة الحلم،فإن هذه الصفات صبغة أهل البدع من الخوارج. *رابعا:جُبن بعض أهل العلم وتقهقرهم في ميدان القتال لأنهم لم يعتادوا ذلك،واعتياد هذه العصابة الحرب والقتل،فقد تلحظ جُل المقدمين البارزين إنما كانوا من قبل سرّاقا ومحاربين وشطارا فهم أهل دراية بالنصب على المارة وتصفية الأجساد فهم معتادون على الدماء والأرواح. *خامسا:قتلُهم لأهل العلم إذا رأوا منهم تقدما في التصرفات واغتيالُهم سراً أحيانا وتلفيق التُّهم لهم و وصفُهم بالبدعة والزندقة،واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الخوارج فقال:< <يخرج من أمتي في آخر الزمان أحداث أسنان سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البشرية يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم>>(متفق عليه) وقال صلى الله عليه وسلم:< <تحتقرون صلاتكم مع صلاتهم وصيامكم مع صيامهم يمرِقُون من الدين كما يمرق السهم من الرمية>>،وكان بن عمر(ض)يَراهم شرّار الخَلق وقال:< <انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها في المؤمنين>> رواه البخاري.وإن هؤلاء يحافظون على السُّنن ويضيعون الفرائض،فرأيتهم يتيمّمون مع وجود الماء لغير ضرورة في حالة السفر وهي مسألة قال بها الظاهرية وهي باطلة بنص القرآن مخالفة لما كان عليه سلف الأمة،ويرون أن من لم يصلِّ بكل وجه ورد في صلاة الخوف فهو مبتدع وكذلك من لم يكن له شَعر طويل،وإطالة الأظافر زكثرة الوسخ كل ذلك سنة،ويقتصرون على ركعة في صلاة الخوف من الرباعية وهو وجه قال به الظاهرية،قال الإمام أحمد:هذا قول شاذّ مخالِف للجمهور،نقله الشنقيطي في أضواء البيان،و ماورد من الأثر بيّنه المفسر بطريقة أخرى فاتضح المعنى أنه لم يقضوا الصلاة وليس معناه لم يقضوا الركعة،فارجع إليه إن شئت.ومع هذا كله فإن بعضهم مرة قبضوا على شاب اتهموه بالمخابرات وجاءوا به إلى مأواهم خارج البلد،فلما هددوه لم يعرف بما اتهموه به ولكنهم ذبحوه،فلما اعترض بعضهم قالوا إننا لو أطلقناه لكان خطرا علينا لأنه يعرف مكاننا وقال آخرون إن تهمته ثابتة مشهورة لا تحتاج إلى اعتراف ولا إقرار فهذه هي حجة القتل عندهم،وهذا النوع من الأسباب والحجج لا وزن له في ميزان الشرع،بل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:< <لَزَوال الدّنيا أهون على الله من قتل رجل مسلم>> رواه الترمذي عن ابن عمر،وكانت امرأة فاجرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مشتهرة بذلك فقال صلّى الله عليه وسلم:< <لو كنت راجما بغير بيّنة لرجمتُ هذه>>،فتأمل… ……..30……… ويزيدون عن الخوارج خصلتين: *أولا:أنهم يعطون الأمان ثم يغدرون،وهو متواتر وقد قتلوا كثيرا بهذه الكيفية،وما التمرد الذي وقع من أمراء السرايا والكتائب إلا بسبب الاستدعاءات التي وجهوها إليهم وكان يُعلم أن كلما جاء إلى الأمير أو الضابط الشرعي استدعاء باللحاق للقيادة غلب على ظنه أن المشنقة قد أُعدت له وقد استدعي السعيد مخلوفي ثم حُكم عليه فيما بعد قبل مجيئه إليهم. *ثانيا:تلفيق التهم لأي رجل لا يكون طَوعَ إرادتهم أو يرون فيه أهلية للإمارة ويكذبون عليه و يحيطونه بالشُّبه والشائعات كما فُعل بالسعيد،وكذلك إذا رأوا أميرا قد قوي أمره وصَلب عودُه فيخافون من أن ينفرد بأمره فيسارعون بالكيد له مثل ما فعلوه بعبد الرحيم. نسأل الله السلامة والعافية من الفتن وأن يوحّد بين قلوب المجاهدين على راية واحدة ونسأله تعالى أن يلقي الرحمة بينهم تطبيقا لقوله تعالى:{أشدّاء على الكفار رُحماء بينهم}(الآية) ونسأله تعالى أن يبصّرنا بعيوبنا ويزيل عنا الشبه والبِدع ومخالفة الدين،اللهم أرَنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. الخاتمية هذا،وقد كتبيُ هذه الصفحات على عجلة من أمري شبه القائم على الدرج أو الراكب على السرج ولا مَراجع بين يدي أنهل لك منها نهلا،وأجعل لك بها الحزن سهلا،فإن قصّرتُ أيها القارئ فأولِني مهلاً ولا تجهَل علي جهلا،وإن بلغتُ وهو من الله عز وجل فقد كنت أحسب نفسي لذلك أهلاً،ولو علمتَ ما أنا عليه من قلق النفس وتوقّع المخاطر،لالتمستَ لي كل عذر يقع في الخاطر،مع ما أنا فيه من قلة الكُتب والمصادر وندرة أهل العلم المُرافِق منهم والمُشاوِر،إلا قصاصات كنتُ قد نقلتها وهي لا تغني من طلب الكثير الوافر ولا تقنع من رامَ العِداء السافر،وإنما هي نصيحةٌ لنَبيه،وتذكرة لفقيه بكلام أراه نزيها ودليل إخاله وجيها،ولا غَرو أن تكون زجرا للسفهاء وحُجة على الجهلاء وغوثا للبلداء والأغبياء،وأرجو أن تكون عائقا أمام الغوغاء والدّهماء وعبرةً للعلماء والصلحاء،ولا يعنفني أهل العلم إن رجحتُ قولاً يرونه مرجوحا،وإنما أردت بذلك دكَّ مصيبةٍ منتصبة وإخماد نار ملتهبة و إظهاراً لحق غُمط وإقامةً لصرحٍ سَقط،وهذه معلومات كانت لدى قليلة العدد مرت على تناسِبها الآناء والمدد وأنستْنا الأوراق الفكرة في الأزراق،وعن النقل وىلآثار مكابَدة النقل والأسفار،وأذْهلنا عن الأسانيد البحثُ عن الحديد والنار،لا أقول ان في هذه الأعذار غناء للعاقل ولكن الاعتراف بالواقع لباب الفضائل، فإن قَبِل مني ذلك أعلام الرجال وأبطالُ القتال،فهي نصيحة الأشبال بالتفريق بين الهدى والضلال،مبتغياً بذلك رضا ذي العزة والجلال.وصلّى الله على سيدنا محمد صاحب الرسالة العصماء والمحجة البيضاء وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيراً إلى يوم الدين. وهذه قصيدة كنت قد نظمتها وأردت إلحاقها خنا لتتم الفائدة. تمت كتابتها ليلة الثالث من رمضان سنة 1411 الهجرة الموافق ل 11 جانفي 1997 للميلاد على يد مؤلفها وكاتبها أبي أيوب أحمد عبد الله