مولاي لـ “قدس برس”: باريس طلبت شهادتي بشأن مقتل 7 فرنسيين في الجزائر نهاية القرن الماضي

حادث اختطاف وقتل الرهبان في تيبحيرين بالمدية لم يطو ملفه بعد ، إذ لا تزال خيوطه تشكل عامل الشد في سياسة إدارة الأزمات الدولية بين ضفتي البحر المتوسط ، ومن السابق لأوانه طي ملف القضية قانونيا بدعوى التقادم ، أو رفض المرافعة من أجل الحقيقة وتبيين الأدوار الفاعلة وتعيين المتسبب في الضرر بدعوى سقوط الحق في الدعوى فأطراف النزاع لا تزال تطالب بالكشف عن الحقيقة ، وتعيين لجنة تقصي دولية لمعاقبة المتسبب وتعويض الضحايا .
تعود وقائع الجريمة إلى منتصف تسعينيات القرن الماضي ، وفي عمق جبال المدية الشامخة التي كانت تبدو بعيدة عن حركة رجال المخابرات أو نشاط الجماعة المسلحة التي كانت حديثة الولادة بعد اتصالات ومشاورات انتهت إلى تشكيل هذا الفصيل المسلح بعيداً عن أعين رقابة الدولتين الفرنسية والجزائرية على السواء ..
وبعد تنفيذ الجريمة البشعة في حق الرهبان ، توجهت الاتهامات إلى عناصر الجماعة المسلحة كما يعرف ذلك كل من عاش تلك المرحلة من حياة السياسة الجزائرية بجميع ملابساتها ، ولكن تشاء الأقدار أن تتحرك ضمائر مقهورة وأيدٍ مشاركة للكشف عن المصيبة التي سوف تهز أركان السياسة على صعيد دولي كما تلقي بالضوء على الزوايا المظلمة من الجريمة القذرة.
تذكر المصادر الرسمية أن قوات الجيش الجزائري قد عثرت على الرؤوس المقطوعة على حافة الطريق ملقاة دلالة على أن عناصر الجماعة المسلحة هي الطرف المنفذ للجريمة بعدما عرضت التعاون على السلطات الفرنسية بإطلاق سراح بعض المساجين في سجون فرنسا ، وفي المقابل تقوم الجماعة المسلحة بتسليم الرهبان إلى السفارة الفرنسية بالجزائر عبر مفوض معتمد من الجانبين ..
وبعثور الجيش الجزائري على الرؤوس المقطوعة تثبت براءته من تهمة الجريمة التي ينسبها إلى الجماعة المسلحة …
ولكن شهادات ضباط فارين من الجيش الجزائري ، وشهادات الناجين من المذبحة ، والأدلة التي توصلت إليها مصالح الاستعلامات والبحث الفرنسية تنسب الجريمة إلى الجيش الجزائري وحده ، إذ أن العملية قد دبرت من طرف الجنرال اسماعيل العماري ومعاونيه مدين ومحمد العماري وعدد من العقداء في الجيش بهدف إجبار فرنسا على التعاون في الحرب على ما يسمى الإرهاب ، ثم الانتقال إلى شرعنة الانقلاب والتعامل مع الانقلابيين على أنهم حماة الديمقراطية من هجوم الاسلاميين المتوحشين .. وهكذا يكسب كل فريق خسارة مناسبة في حالة فساد الخطة ، ولكن النتيجة أن المذبحة وقعت ، وباركت مصالح الاستعلامات الفرنسية عملية الجيش الجزائري ، وسكتت عن الانقلاب وعن قادته مقابل عمولات ضخمة تضمن تدفق رؤوس أموال طائلة إلى الاقتصاد الفرنسي كما تضمن لقادة الانقلاب البقاء في الحكم طيلة الحياة مع السلامة القضائية من المتابعة امام المحاكم الدولية في حال تسرب الأدلة وشهادة الشهود …
إنها عملية رهيبة جرت ، وخطط الفاعلون لها وفي نيتهم دفن القضية … ولكنها اليوم تعود وكأقسى ما يحدث في مشاهد أفلام الرعب التي ينتقم فيها الضحية من القاتل ، وهكذا تتأكد صدقية المقولة الشهيرة : سيعود القاتل على مسرح الجريمة ويكشف عن نفسه ..
إن عملية تيبحيرين خطيرة وعميقة جداً تكشف سر الصراع الحقيقي لمن فهم خيوط الشد التي أشرت إليها في بداية ما كتبت ، وكم علمنا التاريخ أن الحكومة التي وراء البحر كانت عبقرية في قنص الفرص لاستغلالنا بأبشع الطرق ، ولم نتعلم مع الأسف من تاريخنا القريب شيئاً ، ولو تعلمنا لما كنا قد اتخذنا من عدو الأبد صديقاً وهو لا يكون صديقاً أبداً ..
وأخشى ما أخشاه أن تصبح جريمة تيبحيرين هي بالضبط السبب الذي يكلفنا الكثير ، ولا أبالغ إذا قلت أنه سيساوي سقوط نظام الحكم على الضفة المقابلة .. وبطريقة أخرى : لعلها حادثة مروحة القرن الجديد ، والله المستعان على جهاد الناتو والأحلاف …

اكتسبت قضية الجريمة التي نفذت في الرهبان السبعة بعداً عميقاً أشرت إليه في التعليق الأول ، ويرى كل منصف أنّ الجريمة نفذت لما لها من تأثير على السياسة الدولية الخارجية خصوصاً ، وقد ذكرت أنًّ الجريمة لها بعد سياسي يتجلى في أن السلطات الفرنسية تكتمت على الأطراف الفاعلة بغية نشر غسيلها الوسخ في حال انهارت خطة الابتزاز الاقتصادي والسياسي.
ولا يخفى على أحدٍ أن الرهبان الذي ذبحوا هم جزء من التشكيلة الاجتماعية في المدية ، وهم ليسوا حديثي السكن في جبال المدية لأنهم من قدماء من سكنوا هذا الدير ، واختلطوا بعامة الشعب ، وكانوا يوفرون دعماً طبيّاً للأهالي ، كما شاركوا السكان الحياة اليومية من فلاحة الأرض ، وغرس الأشجار المثمرة ، والرعاية النفسية والاجتماعية للمرضى والمعاقين ، وكثيراً ما كان الرهبان يقدمون الأكل لمن يزورهم في ديرهم ولا يتلقون دعماً من السلطة الحاكمة لأنهم كانوا يقومون بخدمة أنفسهم باستقلالية تامة عن الخدمة الكنسية في باريس أو الخدمة الاجتماعية لسفارتهم في العاصمة الجزائرية.
وكانت السلطة العسكرية منزعجة جداً من وجودهم في منطقة المدية وتريد ترحيلهم من ديرهم بأي ثمن ، وقد راسلتهم بهذا الشأن وحاولت إقناعهم بأن الخروج من ديرهم هو للحفاظ على أمنهم وسلامتهم ، ولكن هذا الدليل فاشل من أساسه إذ قد قضى هؤلاء الرهبان بين السكان فترة تزيد على الأربعين سنة بين الأهالي ، ولم يتعرضوا لشيء حتى في عهد فوز الجبهة الإسلامية ، بل وتلقوا من أمير المنطقة علي بن حجار عهداً بالأمان على أن لا يقرب ديرهم ما داموا لا يمارسون السياسة ولا يتدخلون في شؤون الناس ، وقد عرض عليهم في بداية الاتصالات توفير مأمن خاص لأفراد الجماعة المسلحة وتوفير الطعام والمؤونة والدواء والأموال فرفض الرهبان ذلك كله لأنهم لا يمثلون أحداً على أرض الجزائر ، والمذهل أنهم طيلة حياتهم الطويلة في الدير لم يدعوا أحداً إلى النصرانية ولم ينخرطوا في حملة التبشير التي ترعاها الكنيسة البروتستانتية.
وهنا تكمن أهمية تنفيذ الجريمة ، فبالرغم من أن قتل الرهبان قد تبرّأ منه أمير الجماعة علي بن حجار وله كل الأدلة على ذلك ، إلا أن قوات الجيش تنسب العملية إلى الجماعة المسلحة ، ولكن انكشفت اليوم جميع الخيوط ، وبفضل شهادات أفراد من الجيش ساهموا في العملية ، وبتوافر الأدلة والشهود لم يعد الإنكار وحده كافياً لتبرئة الفاعل..
إنّ تورط وزارة آلان جوبي في ملفات الجرائم السياسية في القارة الأفريقية لا ينكر أبداً ، وبروز قوة التيار الاستئصالي الكاره للإسلام في فرنسا وغيرها قد ساهم في تطوره وقوته انهيار الطرح الاشتراكي الذي أفل نجمه بنهاية الثمانينيات ، والسرّ كله يكمن اليوم في معرفة رموز التيار الاستئصالي على مسرح الضفتين .. فهذه المعرفة تنبني عليها كل آمال التغيير من أجل كشف الحقيقة ومعاقبة المعتدين.
وليس من الضروري التأكيد على أنّ الإسلام دين التسامح الذي لا يكره أحداً على اعتناقه ، ولا على أنّ الأقليات الدينية قد عاشت بين المسلمين موفورة الكرامة محفوظة الجناب ، ولكن الضروري أن ننتبه إلى الخطر الناشئ من الجهل بحقائق الاسلام العظيم ، والعدوان على الناس بغير حق وتحت مسمى حماية الإسلام أو حماية الديمقراطية من الإسلاميين .. ولا يخفى على المنصف أن شياطين الضفتين تحسن اللعب على هذين الحبلين كأحسن ما تلعب عليهما أمريكا وإسرائيل ..