مقالات

مغبة الثورة المضادة ممن ركبوا موجتها لتحملهم إلى سدة الحكم | زياني الشريف رشيد

ثبت تاريخيا وفي كافة أصقاع المعمورة، أنه ما من ثورة تطيح بطاغية أو نظام مستبد إلا وحاصرتها ثورات مضادة بحيث لا تترك لها فسحة لتسترد أنفاسها وتقيم النظام العادل الذي تتوق إليه، فيلجأ المنقلبون عليها إلى شتى أصناف الدهاء قصد إظهار فشلها في تحقيق وعودها، كما هو الحال بالنسبة للمحاولات التي بذلها أتباع مبارك في مصر وبن علي في تونس أو حتى بقايا كتائب القذافي في ليبيا، التي ما زال البعض منها، يقوم بين الفينة والأخرى، بعمليات لترويع الآمنين وزعزعة الاستقرار الهش المتمخض عن أشهر من المعارك الطاحنة، لكن يبدو أن الثوار في هذه البلدان العربية الشقيقة الثلاثة قد أظهروا قدرا من الوعي والفطنة تكفل لهم تأمين الثورات من هذا النوع من المتربصين.

وهناك ثورات مضادة، تنسج خيوطها خارج البلد، بل وحتى من جيران على الحدود، كما هو الحال بالنسبة إلى النظام العسكري في الجزائر على الحدود مع البلدين، تونس وليبيا، الذي يفزعه مصير الأنظمة المطاح بها شعبيا، وليس خفي على أحد أن تلك الأنظمة كانت حليفة استراتيجية ملازمة للنظام الجزائري، وشبيهة له في كل ما له صلة بسحق الشعوب وإذلالها، ومن ثم لم يتوقف جنرالات الجزائر في بذل قصارى جهودهم، بعد أن فشلوا في إجهاض هذه الثورات، وانتصارها، من أجل زرع البلبلة وحالة من عدم الاستقرار في هذه البلدان ليعقد من أوضاعها ويربك تسيير دواليب هذه البلدان التي خرجت لتوها من ثورات شعبية، وتصيورها وكأن وضعها ما بعد الثورة أخطر وأسوء مما كان عليه من قبل، بالإضافة إلى الترويج بتهديدات مزعومة تنذر بتمزقها. من الواضح أن هذه المحاولات من النظام العسكري في الجزائر هدفها الدفع باتجاه توليد شعور بالندم وسط الشعوب المتحررة، على زوال الأنظمة المطاح بها، والإيحاء بأنه لم ينجم عن تلك الثورات سوى الإخلال بالنظام وعدم استقرارا وغياب الفرص والخدمات التي كانت تضمنها الأنظمة الهالكة. وفي الوقت ذاته تمرر هذه الجهة « رسائل » مشفرة، لزرع الإحباط محليا، وثني كافة الجهود الراغبة في التخلص من الاستبداد في الجزائر وتهددها بالعواقب الوخيمة التي ينجر عن مجرد التفكير في مثل ذلك. كما لم تتوقف معاول الثورة المضادة عند هذا الحد، فهي لا تتورع حتى عن زرع عناصرها داخل هذه البلدان لزعزعة استقرارها (لقد صرح السيد أحمد جبريل وغيره من قادة الثورة الليبية عن تواجد عناصر استخباراتية من عدة دول داخل الأراضي الليبية). هذا إلى جانب قيام السلطة في الجزائر بابتزاز السلطات الجديدة، دائما كعادتها عن طريق « وسائلها » المتنوعة، في نشر الأكاذيب إزاء الثورة التونسية (والليبية)، عبر ترويج أخبار انكشف كذبها، من قبيل اختطاف الرعايا الجزائريين والاعتداء عليهم بل وانتهاك أعراض نساءهم من قبل التونسيين، كل ذلك لثني الجزائريين عن السفر إلى تونس، قصد ضرب الاقتصاد التونسي الذي يعتمد في جزء لا بأس منه على السياحة، مثلما فعل النظام الجزائري مع الثورة الليبية من خلال الترويج لتحركات مزعومة لمجموعات من عناصر القاعدة على الحدود وانتشار الأسلحة وخطر استفحال ظاهرة الإرهاب، دون أن ننسى استقباله فلول نظام القذافي وأفراد أسرته، للضغط على النظام الجديد في طرابلس.

لكن هذا النوع هو الآخر أصبح مكشوفا لدى الثوار وهم متفطنون له، ولم يعد يشكل خطرا كبيرا عليهم. ولن نفشي سرا إذا قلنا أن فشل الثورة المضادة سواء في تونس، أو في مصر أو في ليبيا، تحقق بفعل « حراس » الثورة الذين ظلوا في جاهزية مستمرة، من خلال مواصلة تعبئتهم المليونية، ليبينوا لكل من سولت له نفسه الانقضاض عليهم، أنهم « إن عدتم عدنا »، الأمر الذي يفسر تنازل المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر على سبيل المثال، المرة تلو الأخرى، لا اقتناعا منه وتطبيقا لإرادة الثورة، لأنه لم يكن يوما مساندا لها، باعتباره جزء لا يتجزأ من نظام مبارك، وجل أعضاءه معينون من قبله ويخضعون لأوامر مبارك نفسه، حتى بعد سقوطه، كما يلاحظ أن هذه المؤسسة نأت بنفسها حتى عن تسمية الثورة ثورة بل واصلت تراوغ في وصفها بشتى الأوصاف ما عدى الثورة.
وحرصا على الدماء الزكية التي أزهقت والشهداء الذين ضحوا بأنفسهم رخيصة لتحرير بلدانهم من استعمار القريب، وتسلل المتهافتين، أقول رغم خطورة هذين النوعين من الثورات المضادة، سواء من قبل فلول النظام المخلوع، والمتربصين في الخارج أو في بلدان الجوار، يمكن إحباط أذاهما، لكن ثمة نوع ثالث من الثورات المضادة، أعتقد أنه أخطر من السابقين، أقصد تلك التي قد يفكر فيها أولئك الذين أوصلتهم الثورة نفسها إلى الحكم، بحيث يتنكرون لها وينقلبون عليها، بشكل تدريجي وبقدر كبير من المكر، ليباغتون به الثوار. متابعتي للأوضاع في هذه البلدان التي دفعت فيها الشعوب ثمنا باهظا جعلني أخص هذا النوع الثالث من الثورات المضادة لفرط خطورتها، خاصة وأن ملامح البعض منها بدأت تنسج خيوطها، شيء فشيء، من خلال مواقف وتصرفات « الإخوان » في مصر، التي أقل ما يمكن القول عنها أنها مريبة، وبدرجة أقل في تونس.

ومن ملامح هذا التنكر وأولى « بشائره »، استعلاءهم و نظرتهم الفوقية الناجمة عن وقوعهم رهينة تحزبهم الضيق، متنكرين لتضحيات ودماء الشعب المصري « العام » وشهدائه ولحركية الشارع الذي أوصلهم إلى ما هم قاب قوسين أو أدنى من جني ثماره، ليس بفضل نضالهم أو شعبيتهم، لأن هذا النضال وهذه الشعبية هم أول من يعلم كيف كانت تعامل من قبل مبارك، وكيف كانوا حينها يتوددون لمجرد الحصول على اعتراف بهم، دون جدوى، أمام صرامة واليد الحديدية والبطش الذي كانوا يتلقونه من قبل زبانية مبارك، فأولى لهم اليوم التواضع وقول كلمة الحق والتصرف على أساسها دون مكابرة، وألا يبخسوا الناس أشياءهم، كما ليس من الأخلاق ولا الورع أن يركبوا اليوم موجة شرعية التضحيات التي قدموها على مر عقود، فالشعب المصري لم ينكرها، لكنها ليست حكرا عليهم ولا مطية للاستفراد بشرعية التضحية ولا يجب أن تتخذ بديلا عن شرعية إرادة وثقة الشعب واحترامه وعدم التنكر لتضحياته والانقلاب عليه، كما شهدناه خلال الأيام القلية الماضية من مسابقة الزمن والتحالف « الضمني » مع فلول الطنطاوي، للتوصل إلى « تسوية » ما، يكون بموجبها شرعية الحكم الفعلي للفريق الأول، و حكم الشعب للثاني، ربما على غرار ما فعله إخوانهم في حمس الجزائرية غداة الانقلاب الذي دعمه إخوان مصر عمليا بدعمهم تحالف حمس مع الانتقاليين.

فحري بهم القيام بقراءة سليمة بعيدا أن النظرة الفئوية الضيقة، فيما يتعلق بما حصلوا عليه من أصوات الشعب، فذلك ليس لأنهم وحدهم المضحين، فالتضحية لم تكن حكرا على طرف دون آخر، وإنما صوت لهم الشعب كنتيجة طبيعية ومنطقية، لأن الشعب المصري ما كان ليعطي صوته لفلول مبارك أو الدائرين في فلكه أو لأي فئة أو حزب أو مجموعة وقفت ودعمت واستفادت طيلة حكم مبارك، وخانت الشعب وانتهكت حقوقه بل وساهمت في قهره وإذلاله. فحري بهم إذن ألا ينخدعوا هم أيضا ويبالغوا في تضخيم حجمهم، لأن الشعب المصري الذي أزاح مبارك، قادر على إزاحتهم إن هم واصلوا في استعلائهم واحتكار التضحية والأهلية دون غيرهم، خاصة وأن تململ الشعب المصري بدأ يبرز، بعد ملاحظته منحى « الإخوان » في سعيه الحثيث بحجج واهية، لإحباط كافة النداءات للاعتصامات المليونية، ربما لاعتقادهم أن مثل تلك الاعتصامات قد تفوت عليهم الفرصة السانحة، التي أضحت في متناولهم، و قاب قوسين أو أدنى من جني الثمار، بحيث اعتبروا أنه ليس من « الواقعية » مساندة الجماهير الآن، متناسين أن هذه الجماهير ومليونياتها هي التي مكنتهم مما هم الآن فيه، وما كانوا ليجرؤوا على عصيان مبارك بمفردهم لولا تلك الجماهير، وكانوا يدركون حق الإدراك أنه ساعتها كان الطاغية سيجثتهم من الأرض، ويفعل بهم ما فعل حافظ الأسد بإخوان سوريا.

حري بإخوان مصر (وإخوان العالم بصفة عامة) أن يدركوا أن الشعوب قد تجاوزت مرحلة النوادي المغلقة والحزبية الاصطفائية المتعالية، فإذا كانت مثل هذه التنظيمات ضرورية في وقت من الأوقات لظروف موضوعية، لم يعد الأمر كذلك الآن، بل أصبحت مثل هذه الشوفينية خطرا، لأنه إذا انقلبت الوسيلة إلى غاية والتعصب لها، فمن شأن ذلك أن ينقلب وبالا وخطرا مدمرا على الشعب وتماسكه وتوازناته، ومن شأنه أن يقسم المجتمع إلى فئات ودرجات تتعالى بعضها على بعض بناء على ذلك التراتب الفئوي.
كما وجب تذكير الحكام الجدد أيا كانوا، وإخوان مصر على وجه التحديد، بواجب الالتزام بالمبادئ التي ناضلوا من أجلها، ومن مخاطر مغبة إدارتهم ظهرهم للثورة تحت بريق وسحر كرسي السلطة والاستعلاء على من كان حطب هذه الثورات، ممن أوصلوهم إلى سدة الحكم بدمائهم بعد أن استضعفهم المتجبرون، واستفردوا بهم دون أن يكون لهم سندا ودون أن يكونوا في موضع يسمح لهم بمجرد تحدي ذلك الجبروت ناهيك عن إسقاطه. وتفاديا لأي منزلق ومصادرة جهود الثوار واستغلال دماء الشهداء، وجب تذكير وحث الثوار على الإبقاء على جاهزيتهم التامة لحماية ثورتهم وإجهاض كافة محاولات الثورات المضادة، بأصنافها الثلاثة، لأن الثورة مسار ومتابعة ، وليست مجرد هبة تقوم ثم تخلد إلى الراحة.