العظمــــــــــاء لا يموتــــــــــون | محمود حمانة

-قبل احدى عشر عاما رحل الشهيد عبد القادر حشاني على إثر عملية إغتيال جبانة دبرتها له المخابرات ونسبتها, كما هي العادة, لشاب يدعى:فؤاد بولامية الذي مورست في حقه أبشع انواع الضغوط ليتبنى هذه الجريمة بغية إخلاء مسؤوليتها وتظليل الرأي العام من خلال سيناريوالبحث المزعوم عن الجاني الذي تم تهريبه الى مقر المخابرات العامة آنذاك للحيلولة دون إنكشاف امرهم من طرف قوات الدرك الوطني التى حاصرت المكان-عيادة خاصة لطب الأسنان بحي باب الوادي بالعاصمة- بغية إلقاء القبض على الجاني في تصورهم….المشكلة ليست عملية الإغتيال او فقدان احد افذاذ هذا الوطن ولكن عدم إدراك السواد الأعظم من الناس لتداعيات هذه الإغتيالات على مستقبل البلاد التى لا يزالون ينظرون اليها على اساس انها مجرد رحيل اشخاص لا غير.الرجال مواقف,وهذه هي الحقيقة التى لا تزال غائبة عن ذهن المواطن لأن الدعاية والتعتيم الإعلامي الذي نشأ عليه حال بينه وبين الأخذ بجوهر الأمور ووضعها في نصابها ليدرك بأن الرجال فكر قبل ان يكونوا أشخاصا لايكون رحيلهم مدعاة للتأمل والتبصر.
-العملية كما هو معروف هو إغتيال سياسي لشخص إستعصى على الترويض كما كان الحال مع المرحوم عبد الحق بن حمودة الذي يرد هو الآخر على لائحة ضحاياها التى تكاد لا تحصر كونه رفض السير في ركاب السلطة وأثر الدفاع عن كرامة الشعب التى حاول الجنرال محمد العماري تمريغها في الوحل من خلال وصفه الشعب الجزائري بأنه”غاشي”,أي من الرعاع.
-الجسد يبلى ولكن الأفكار تبقى لتخلد أصحابها ولتذكر جلاديهم بفعلتهم المشينة وتقف شاهدة على خبث نواياهم وحقدهم الدفين علىالدين والوطن وعلى المخلصين من أبنائه. حشانى قتل ليس لكونه أحد كوادر الجبهة الإسلامية للإنقاذ-فما اكثر الذين يعيشون في جلباب التقوى ويتمتعون بالدنيا ونعيمها نتيجة مواقفهم المخزية بعد أن باعوا ضميرهم للشيطان وأذعنوا لإرادة الطغيان-ولكن لأنه يحمل فكرا تحرريا معاديا لأطروحات السلطة وهو ذات الفكر الذي يسعى النظام لطمسه حتى لا تصاب الأمة بعدوى الرجولة والبطولة.
عبد القادر صمد وحيدا في وجه التيار ولم يطلب ولم ينتظر المساعدة من أحد لأن النضال عنده وعند من على شاكلته من الرجال امر لصيق بصاحبه وأكبر من كل الشعارات التى يتستر وراءها من ينتسبون للوطن و للبطولة والرجولة والفداء,فإما أن تكون بطلا او لا تكون..

-كان القصد إذا من وراء تصفيته ليس القضاء على شخصه-فما اكثر من ينعقون بالبطولة-وإنما التصدي لهذا الفكر الذي نشأ عقب احداث اكتوبر والذي فرضته الأوضاع الإجتماعية التى عانى ولا يزال يعاني منها المواطن الذي أعرب من خلاله على أنه أسقط صفة القداسة على الخطاب الرسمي,وهو ما حمل السلطة على التفكير في إيجاد البديل للتعاطى مع هذا المتغير الجديد في معادلة الصراع بينها وبين رموز هذه الأمة وشرفائها الذين يتطلعون الى الديمقراطية وتحريرها من الأستيلاب الفكري الذي طالما راهنت عليه الدكتاتوريات لإبقاء شغوبها في بوتقة التبعية.إذا كان عامل الثقافة هو أحد الأسباب التى جعلت من التخلص منه امرا ملحا بالنسبة لصقور النظام ومن يواليهم من دعاة الإستئصال ومرتزقة القلم,فأن حرسه على الثبات على المبادي سببا لا يقل اهمية عن سابقه لأن النظام كان يهدف من وراء إستدراج الشهيد وإيقاعه في سيناريو المصالحة الوطنية المزعومة إضفاء الشرعية على ما إقترفوه من جرائم من خلال إنتزاع إعترافا صريحا منه بأن الجماعات الإسلامية المسلحة تتحمل وحدها مسؤولية الأحداث الدامية التى حلت بالبلاد والتى راح ضحيتها عشرات االألاف من الضحايا االأبرياء الذين كانوا وقودا لحرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل إلا لكونهم توهموا في لحظة من اللحظات أنه بإمكانهم التطلع الى الديمقراطية أسوة بغيرهم من الشعوب التى عانت كثيرا من الإستعمار ودفعت ثمنا باهضا للخلاص منه.
-قبل جريمة قتل حشاني قبل سنين طويلة وبالضبط في 1964 كان العقيد محمد شعباني, اول شهداء الجزائر المستقلة,شاهد على حقد جنرالات فرنسا على الإسلام واللغة العربية,ولهذا كان تركيزه دائما على التنبيه الى الخطورة التى يشكلها أذناب فرنسا من الحاقدين على الثورة والمتربصين بها,وهو الموقف الشهم الذي لم يلق تجاوبا حينها من طرف القاضى الأول في البلاد- والذي إتضح أنه لا يقل خبثا عنهم-فحسب بل كلفه حياته إذ تمت تصفيته على إثر محاكمة شكلية من طرف الجنرالات او ما عرف فيما بعد بالإستعمار الجديد والذين كانوا مدركين للخطر الذي يتهددهم بفعل إصرار العقيد على تصفيتهم وفاءا لروح الشهداء وحماية للثورة من الإندثار والزوال.وقد سبق للجنرال مصطفى بلوصيف تبني نفس المواقف من أعداء الأمس والذي دفع هو ايضا ثمن معاداته لهم فأعفي من الخدمة قبل أن يزج به في السجن بتهمة تبديد المال العام حينما كان يشغل منصب الأمين العام لوزارة الدفاع الوطني بسبب سكن أعتبر فخما من طرف مناوئيه مع أن إمتلاك فيللا من طرف جنرال في الجزائر ليست بدعة,ولكن الحقيقة هو أن هذا الرجل كان حجر عثرة في وجه المصالح الفرنسية وهو بالتالي لا يقل خطورة عن الذين قرروا ذات يوم السعي لإنهاء وجودها بالجزائر حينما فجروا الثورة.ولعل اكبر ضربة قاضية تلقتها البلاد هي عملية إغتيال قاصدي مرباح,التى تولاها الجنرال إسماعيل العماري شخصيا دون غيرها من عمليات إلإغتيال لإدراكه للخطورة التى يشكلها لهم عميد المخابرات في الجزائر, الذي سعى هو الآخر من أجل تخليص البلاد من السرطان الذي ينخر جسدها ولكنه إصطدم برفض الرئيس الشاذلي بإعطائه الغطاء القانوني للمضي قدما في عملية نصفية المؤسسة العسكرية والمخابرات من براثنهم.من الملاحظ أن الشاذلي بن جديد ساهم في حماية زملائه لأنه بكل بساطة واحدا منهم وأن تقاطع المصير والمصالح يقضي بأن يكون متضامنا معهم وأنه يتحمل المسؤولية المباشرة في المصير الذي لاقاه المخلصين من هذه الأمة الذين كانوا ولا يزالوان يسعون الى تطهير البلاد من أرجاسهم.
-عبد القادر حشاني قتل لأنه مثقف وواع بهموم أمته ووطنه والجنرالات لا يحبذون أن يتبوأ جيلا من الشباب الواعي والمتحضر والذين يقودهم الوازع الأخلاقي مقاليد السلطة لأنه يشكل عقبة في وجه من يسعون لتكريس الرداءة وشوكة في حلق جزاري الشعب.وقد نبه إسماعيل العماري غير ما مرة مساعديه على ضرورة تجنب إنخراط الجامعيين في صفوف قوات الأمن حتى لا يجدوا انفسهم في مواجهة اصحاب الضمير الحي الغيورين على وطنهم ودينهم ولغتهم وأصالتهم,قائلا:”لا اريد مصلحين ولكن ماكنات قتل”..
-وهذا هو بالضبط ما سماه النظام إرهابا أي ان الدفاع عن الحق ومقاومة الطغيان أضحى في نظر السلطة إرهابا وفعلا يجرم في حين أن المجرمين الحقيقيين واصحاب السوابق قالوا عنهم أنهم المجتمع المدنى الذي عليه الإلقاء بكل ثقله من أجل المساهمة في معالجة الأوضاع المأسويية المتردية في البلاد.
-لذا,لم أسمع أن صعلوكا او خسيسا او ديوثا او لصا محترفا او عربيدا منتهكا للحرمات والأعراض قد تعرض للمضايقة او زج به في غياهب السجون لأنهم يشكلون الحديقة الخلفية للإستبداد التى تلقي اليه بطوق النجاة من خلال ممساندتها اللامشروطة له كلما شعر بالخطر نتيجة إحتقان الجبهة الداخلية المشرفة على الإنفجار.
-هذا الخلط المتعمد في الحكم على الجريمة سمحت للنظام بتشكيل شبكة من المرتزقة والخونة لدينهم ولوطنهم يدينون بالولاء الى السطة الغاشمة ويسبحون بحمدها والتى تستمد منها السلطة الشرعية المفقودة بعد ان اثبتت سياسة العصاء والجزرة عدم جدواها في ثني الوطنيين الأحرار عن الدفاع عن مبادئهم.

-ومن هنا ندرك كيف تمكن النظام من الإجهاز على مقومات الشخصية الوطنية وعلى مقدرات الأمة تحت مسمى الدفاع عن قيم الجمهورية من الخطر الأصولي الذي يتهددها.
-والخطر الأصولي من وجهة النظر الرسمية هي أن تكون مواضبا على أداء فرائضك,ملتزما أخلاقيا مناهظا للفساد ومدافعا عن الفضيلة ونصيرا للمظلومين لأن هذه القيم هي بمثابة لائحة الإتهام التى يستند عليها القضاء الإفتراضي في الجزائر لإبطال الحق وإحقاق الباطل مخافة أن يحل بهم غضب الجنرالات.
ومن هنا لم نخسر معركتنا مع الدكتاتورية من حيث سقوط عدد الضحايا وإنما لكوننا فقدنا الكثير من القيم وفقدنا معها آدميتنا لدرجة أن الجزائريين الفوا التجاوزات كما الف سكان غزة بفلسطين قنابل الصهاينة. ولذا هم صامدون وأحتار اقوى جيش في المنطقة في أمر أطفالها الذين يعشقون الموت كما يعشقون هم الحياة. فأطفال الحجارة في أرض الرباط يتعايشون مع الموت ويتوقون للشهادة كما نتعايش نحن في الجزائر مع الذل والهوان ونهرب من مسؤولياتنا التاريخية ومواجهة مصيرنا.

-الجزائر دخلت نفقا مظلما وعادت الى وضع أسوا مما كانت عليه اثناء الوجود العسكري الفرنسي بعد رحيل العمالقة وسلم الشعب امره للرعاع وشذاذ الآفاق تحت جملة من الإعتبارات والمسميات مكنهم من التحكم في مصيره والعبث بمستقبله لصالح عدو الأمس الذي تمكن من الإلتفاف على الثورة بسبب جهل ثقاة الأمة بالتحديات المطروحة امامهم وبسبب الخيانه المتأصلة في الكثير ممن ينتسبون لهذا الوطن ولهذه الأمة والذين هم اكثر خطورة عليها من كافة القوى الغازية التي تعاقبت عليها,والذين يسخرون اقلامهم لخدمة الطغيان ومحاربة الفظيلة والإنتصار للرذيلة.
-القوة الخفية التى تمارس السلطة الفعلية في البلاد نجحت في مسعاها بإزاحة التيار الوطني من معركة البناء كحتمية بالنسبة لأي دولة حديثة الإستقلال تتطلع لرسم مستقبلها الجديد لأنها تمكنت من السيطرة على العقول لتقزيم العظماء وشطبهم من الذاكرة الوطنية من خلال تشتويه صورتهم في نظر الناس وإظهارهم كأنهم الأعداء الحقيقيين للوطن والتصرف معهم على هذا الأساس لما تقتضيه المصلحة الوطنية في نظرهم…توظيف القيم الوطنية لخدمة اجندتها..وإضفاء صفة القداسة على من لا علاقة لهم بالثورة لا من قريب ولا من بعيد..وإدراج التزوير الممنهج في المناهج التربوية لتظليل الأجيال الصاعدة وحجب تاريخها الأصيل عنها.
-هذا هو النهج الذي سار عليه بقايا الإستعمار الجديد في تعقب الشرفاء من هذه الأمة والقضاء عليهم كما تعقبوا في الماضي اسود الثورة وغدروا بهم وحملوا المستعمر سلسلة جرائمهم من خلال تزوير التاريخ بتواطؤ من يسموا بالنخب التى فظلت التحيز للدكتاتورية ورهن مبادئها على مذبح المصالح ونتيجة حسابات آنية ضيقة خدمت بشكل كبير الطرح الإستعماري وفيما بعد دعاة الإستئصال غداة تعطيل المسار الإنتخابي في 1992 وما ترتب عليه من أحداث ماسوية لا زالت البلاد تعانى من تداعياتها الى اليوم. وستظل تعاني لأن حجم الكارثة اكبر من مجرد صراع بين مغتصب للسلطة في سعي دائم لإكتساب الشرعية المفقودة منذ ما يسمى بالإستقلال وبين حزب ساهم بشكل كبير في المأساة الوطنية بسبب مواقفه التى خدمت الجنرلات الذين إستمدوا منها الذرائع لما كانوا يعدون له منذ زمان حتى قبل اول إنتخابات ديمقراطية في الجزائر,ناهيك عن الجناح داخله الذي ثبت فيما بعد على أنه اكثر تقبلا لفكرة إيقاف المسار الإنتخابي من بعض الجنرالات.

محمود حمانه,موظف متقاعد-الجزائر