مقالات

هل لتصرف الوزير الفرنسي لونغي علاقة باتفاقيات إفيان؟ | د. رشيد زياني شريف

2012-11-13- نزلت ضيفا على برنامج ‘منبر الأحرار’ بقناة رشاد الجزائرية لمناقشة تداعيات التصرف السوقي لوزير الدفاع الفرنسي السابق ودلالتها، في إطار ما يميز العلاقة الغامضة بين الجانب الفرنسي الرسمي ونظيره الجزائري، وسألني محاوري هل يوجد في اتفاقيات إفيان، بين الجانب الفرنسي وممثلي الحكومة الجزائرية المؤقتة، ملحق ‘يحظر’ التعرض إلى رموز فرنسا الاستعمارية، ويؤسس لمواصلة شكل من الأشكال الاستعمار الثقافي وامتداده التجاري والدفاعي المشترك، وهل في هذه الاتفاقية ما يفسر وقاحة وزير الدفاع السابق جيرار لونغي وزميليه النائب عن حزب لوبن، كولار وقبله تصريح وزير الداخلية السابق كلود جيان إمعانا في الإساءة إلى ثورة المليون ونصف المليون شهيد دون خشية ردود فعل حقيقية، قد تلحق أضرارا جسيمة بالعلاقات التجارية الفرنسة التفضيلية، وأجبته بكل صراحة أنني لست مؤرخا ولم أعاصر تلك الاتفاقيات، لكن حتى وإن فند البعض وجود مثل تلك الملحقات في اتفاقية إفيان، إلا أن الواقع المزري الذي تعيشه الجزائر يؤكد للأسف الشديد وجود ضمني لبنود غير مكتوبة من هذا الملحق، والدليل على ذلك مثل هذه التصرفات السوقية المشينة من ساسة فرنسا، التي تعزز شعور الغطرسة لدى القوة الاستعمارية إلى حد تجرؤها على سن قانون يمجد حملتها الاستعمارية، في حين يجتهد الساسة عندنا، في الجزائر، على تجميد كافة المشاريع المطروحة لتجريم هذا الاستعمار.
إن ما قام به وزير الدفاع الفرنسي السابق في حكومة ساركوزي، من سلوك ينم عن احتقاره للجزائر وازدرائه لثورتها وشعبها، ردا على مطالبة وزير المجاهدين باريس بالندم، جاء ليعيد من جديد ملف العلاقات ‘المعقدة’ و’المتوترة’ بين البلدين إلى الواجهة، ويلهب مشاعر المواطنين الذين لم يستسيغوا تلك الإهانة في حقهم وحق ثورتهم وشهدائهم. وعلى وقع تلك الحادثة، تباينت الآراء فيما إذا كان هذا التصرف المشين حركة فردية من شخص مختل، لا يزال يحن إلى جزائر فرنسية إلى الأبد، أم أنها تنسجم تماما مع ما تعتقده سرا معظم الطبقة السياسية ، يمينا ويسارا، بل وأن حركة لونغي تنسجم روحا ونصا مع رسالة أب الحداثة وأحد رموز فرنسا المبجلين، جول فري، الذي يعتقد جازما بواجب الأعراق الراقية استعمار الأجناس السفلى بغية ‘تحضيرها’.
وفي هذا الصدد، لا بأس أن ندرك ببعض ما جاء في خطاب جول فري، مدون قوانين الجمهورية الثالثة واحد مؤسسي القيم الجمهورية ودعاة التعليم المجني والإجباري، أمام غرفة النواب بتاريخ 28 يوليو 1885، ليوضح المبررات الرئيسية لثلاثة وراء السياسة الفرنسية التوسعية، اقتصادية وتحضيرية وسياسية، متوجها إلى زملائه قائلا:
‘أيها السادة، علينا أن نتكلم بصوت أعلى وأكثر صدقا يجب أن نقولها صراحة، أجل للأعراق الأرقى حقا إزاء الأعراق الأدنى، وأكررها مرة أخرى، هناك حقوق للأجناس المتفوقة، لأن هناك واجبات تقع على عاتقها، لتمدين الأجناس السفلي…
هل هناك من بوسعه أن ينكر أن هناك قدرا أكثر من العدالة، ومجالا أفسح من الاستقرار المادي والمعنوي، وقدرا أكبر من الإنصاف ومزايا أكثر، في شمال أفريقيا منذ الفتح الفرنسي لهذه الديار؟ وهل من الممكن أن ينكر أحد أن في الهند الآن قدرا أكبر بكثير من العدالة، والمزيد من الأنوار والنظام، والفضائل العامة والخاصة منذ الفتح الإنكليزي له؟’.
ثم يواصل: ‘إن فرنسا بحاجة إلى شيء آخر، لا يمكن لها أن تكتفي بأن تكون مجرد بلد حر، يجب أيضا أن تكون بلدا عظيما، يتحكم في مصائر أوروبا بكل ما لها من التأثير، كما يجب عليها نشر هذا التأثير في كافة أرجاء العالم، وأن تحمل معها أينما حلتّ، لغتها، وعاداتها، وعلمها، وأسلحتها، وعبقريتها…’
طبعا هناك من المسؤولين الفرنسيين من حاول، خشية أن تتسبب حركة لونغي في تعكير صفو ‘العلاقة المميزة’ بين النظامين، التي تجني فرنسا من خلالها ثمارا سائغة ميسرة، تهدئة الوضع واصفا ما قام به لونغي، ‘بتصرف شخصي’ لا يمثل الموقف الفرنسي الرسمي، مثلما حاول الموفد الفرنسي إلى الجزائر Arnaud Montebourg وزير الإنعاش، ترسيخه، خلال زيارته إلى الجزائر قصد إبرام صفقات بالمليارات، لكن هناك من الأدلة ما يكفي لدحض حجة مونتبور، وتكذيب تصريحه ‘المسكِن’ الذي لا يعدو كونه تبادلا في الأدوار والمهام، طرف يمارس الدبلوماسية الناعمة لحظة تواجده في السلطة وفق ما تقتضيه مصلحة الجمهورية، وطرف يتفنن في مهمة القذف وازدراء كل ما هو جزائري، حين تموقعه خارج قصر الإليزيه، إلى حين استبدال الأدوار وفق ما تتمخض عنه صناديق الاقتراع التي تحدد هوية قاطن قصر الإليزيه الجديد، دون أن يتضرر موسم جني الأرباح، على مدى فصول توالي الحكم بين اليمين واليسار، وما يذريه عليهم ذلك من خزينة شعيب الخديم، الذي يستكثرون عليه ‘وقاحته’ في مطالبتهم بالندم، وكأن لسان حال ساسة فرنسا يقول: إن خيرات الجزائر وثرواتها جيدة ومرحب بها لتغذية الاقتصاد الفرنسي وسير آلياته الصناعية، كما أن نفط وغاز الجزائر محببان لتسخين البيوت الفرنسية بأسعار تفضيلية، وكل ما يسهم في زيادة رخاء الفرنسيين من مستودعات المستعمرات السابقة، والجزائر على رأس القائمة، مرحب به، لكن أن يطالب هؤلاء ‘الانديجين’ فرنسا العظمى، بالندم والتوبة عما اقترفته من جرائم خلال حقبة الاستدمار، فتلك خاطئة لا تغتفر، بل ويستحق صاحبها أشد التعنيف والتأديب على سوء تصرفه إزاء البنت البكر للكنسية الكاثوليكية، في الوقت الذي لم تتأخر فيه فرنسا نفسها في مطالبة ألمانيا واليابان وتركيا الاعتذار بل وتعويض ضحاياها.
وتاريخ الجزائر المعاصر، نصف قرن من استقلال البلاد، يبين لنا أنه مخطئ من يعتقد أن مثل هذه التصرفات تعرض مصالح فرنسا لمجازفة من شأنها أن تفقدها صفقات بالمليارات، لأن حقيقة العلاقة الوطيدة والمتميزة بين حكام فرنسا وأقطاب النظام الفعلي في الجزائر، تسمح للأسف الشديد بل وتشجع لونغي وغيره على توجيه الإهانة تلو الأخرى، بحق الدولة الجزائرية وتاريخها وثورتها، دون أن يؤثر ذلك قيد أنملة في تدفق الصفقات بين النظامين، لأن الجانب الفرنسي مطمئن تمام الاطمئنان بأن موقف الساسة في الجزائر، لن يتجاوز الحد ‘المسموح به’ في الإليزيه من التنديد الأجوف، أي الوقوف عند عتبة إطلاق تصريحات رنانة، عبر أطراف هامشية، تعمل بالوكالة وتحت الطلب، ليواصل الطرفان مشوارهما في تنسيق متعدد الأبعاد. لكن مع ذلك، لا يجب أن نغفل أن هناك توترا حقيقيا وعداء متبادلا بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، قائم بين النظام الفرنسي العنصري والشعب الجزائري وكل الغيورين من أبنائه.
وبناء عليه، ليس بالمفاجأة أن تستمر العلاقات التبادلية، التجارية والثقافية بين فرنسا والنظام في الجزائر، متميزة وبنفس الوتيرة على مر عقود، دون أن تشهد أي تراجع، رغم كل ما يقال عن التوتر (الوهمي) بينهما، والدليل على ذلك أن الميزان التجاري بين الطرفين، يوضح بجلاء الوضع التفضيلي والمتميز الذي تحظى به فرنسا باعتبارها كانت ولا تزال، الشريك رقم واحد في كل شيء تقريبا. قد يسأل المرء ما سر ذلك؟ والجواب، أو جزء أساسي منه يعود ببساطة، لأن الطرف الأقوى، فرنسا الدولة، تعلم علم اليقين أن الحكم الفعلي في الجزائر يفتقد الشرعية الحقيقية المتمثلة في ثقة الشعب، التي تسنده وتعزز موقفه، (وتستغل هذا الأمر، من باب تمسك باليد التي توجع) وأن أوراق اعتماد العصابة الحاكمة وملفات إسقاطها تظل بين أيدي الاليزيه، مما يسهل عملية ابتزازها دون خشية؛ وبعبارة أخرى، هل يعقل لمن ظل يمارس القمع والاضطهاد وسلب حقوق المواطنين وحرياتهم وخيراتهم، والذي انقلب على خياراتهم على مر نصف قرن من الزمن، أن يؤتمن على مصير البلاد، ناهيك عن مطالبته بالدفاع عن شرف، لم يكن له نصيب فيه؟.
ثم هناك شيء مهم آخر، يوضح هذا الجانب من العلاقة ‘الازدواجية’ ( بين شقه الإعلامي الرامي إلى ذر الرماد في عيون الرأي العام، وشقه الفعلي الراسخ بينهما): لم يقدم النظام الجزائري يوما أي طلب رسمي وفعلي إلى فرنسا بالاعتذار وتجريم الاستعمار (حقيقة لا ينكرها الطرفان)، وكل المحاولات الجزائرية التي تعالت بهذا الخصوص لم تتعد السقف الإعلامي غير الملزم، وكل مشاريع القوانين المطروحة أمام البرلمان مثل المشروع الذي أيده 142 برلمانيا في المجلس السابق، برئاسة عبد العزيز زياري، كان مصيرها الإجهاض، بحجة عدم ‘إحراج الشريك الفرنسي، والخوف من تعقيدات سياسية جديدة مع فرنسا’، مثلما عبر عنه رئيس مجلس النواب السيد زياري نفسه.
وفي الختام، لا بد أن نقر بأن حل جوهر المعضلة يقع على عاتق الشعب الجزائري ونخبه الصادقين وعلمائه ومن تبقى من الطبقية السياسية غير الملوثة، لإعادة المياه إلى مجراها الطبيعي، فلا طائل من أن نواصل البكاء على الأطلال ونوجه اللوم إلى الذئب على شراسته ونهمه، فالعيب والجريمة ليس فيه ابتداء إذا سمحت الضحية لهذا الذئب أن يفترسها ويزدري كل ما فيها من قيم ومبادئ، طالما وجد من يقبل بالذل والهوان، كما لا بد من الإقرار بحقيقة مرة، تشكل أساس هذه العلاقة، علاقة السيد بالعبد، وهي أن فرنسا لن تعتذر فعلا طالما اطمأنت ببقاء ‘كبراناتها’ متربعين على مقاليد الحكم في الجزائر، وإذا أرد الشعب الجزائري استعادة شرفه وحقوقه واحترام فرنسا وغيرها له، فليبدأ أولا باستعادة حقوقه وسيادته من مخالب هذه العصابة التي أمعنت في إذلاله في الوقت الذي استأنست لإذلال فرنسا لها، باعتبارها امتداد فرنسا الاستعمارية الطبيعي وممثلي مصالحه في مستعمرتها القديمة، وفق شهادات موثقة، منها ما جاء في مذكرة صهر الجنرال ديغول، الجنرال بواسيو الذي ذكر في كتابه عام 1982 قبل وفاته بقليل: ‘هناك مسؤولون سامون في الدولة الجزائرية لا زالوا يعملون لحسابنا إلى يومنا هذا ولن أفصح عن أسمائهم لكي لا يتعرضوا للخطر’، وكذا تصريح روجي وايبوت، مؤسس جهاز المخابرات الداخلية الفرنسية عام 1975 قائلا’ إن العديد من المسؤولين الجزائريين يعملون لحسابنا’. قد يتوجب إعادة قراءة اتفاقيات إفيان لعلها تكشف الجانب المستور، الذي أسس لاستمرار استعمار فرنسا بالوكالة.

‘عضو المجلس الوطني لحركة رشاد في الجزائر

http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data%5C2012%5C11%5C11-13%5C13qpt698.htm